ضوء ديدو, المكنسة الكهربائية و البطل الشعبي
الجمل- أيهم ديب: في الدعاية التلفزيونية, تتمتع المكنسة الكهربائية برأس مثلث يصل إلى الزوايا الصعبة في المنزل و يضمن تحكم سهل و نظافة لا مثيل لها تجعل المنزل جنة لسيدة البيت , لكن مخترع هذه المكنسة لم يعرف أنها ستغير تاريخ الأدب الإيروتيكي. فالسيدات الممتلئات المنكفئات على الأرض مشغولات بتنظيفها عن كلاسينهن البيضاء و خلفياتهن المكتنزة في روايات البرتو مورافيا أو أثدائهن الممتلئة نعمة في قصص إيفان بونين لن يكون عليهن بعد الآن أن ينحنين لينجزن العمل اليومي الذي يشغلهن عن الأعين المتلصصة. عصا الممسحة , قصبة المكنسة الكهربائية بكل حضورها الذكوري تزدهر بيد السيدة المعاصرة مانحة إياها فرصة الانتصاب و التحكم عن بعد بساحة عملها. من المسلي ان نفكر بالمسافة أو البعد على أنه قيمة ذكورية. و فكرة ان امتلاكها يمنح القدرة على الانتصاب أي انه يمنح - بالمعنى الرياضي أو الجغرافي- امتداد على المحور العامودي و ليس الشاقولي أو امتداد على خطوط الطول و ليس العرض, بالمعنى السياسي يكون الحديث عن البنية التراتبية للسلطة مقابل البنية التشاركية.
إن رغبة الإنسان الحديث في النأي عن موضوعه تنعكس في الأشكال الاستهلاكية من التقنية و التي تشير الىالبارادوكس في الفكر الإنساني المعاصر : فالخلاص من النظام الإقطاعي أو السلطة الملكية كانت من خلال شكلين : تحويل الجميع إلى حاشية/ موظف في الشركة , و تحويل الجميع إلى ملك / الفرد المستهلك.
في شعائر تكريس الفرسان تمسك الملكة بالسيف و تلمس به كتف الفارس معلنة ترقيته, يمسك الملك صولجانه و يدير البلاط بإشارات مقروءة مثل نوتة موسيقية. إن شرط المسافة و التحكم انتقل إلى ولي العهد المعاصر: الفرد المستهلك على شكل ريموت كنترول- جهاز التحكم عن بعد- لا اذكر أخر مرة لا مست بها التلفاز أو الراديو. بل حتى أن التقنية تذهب ما وراء ذلك في بعدها و اغترابها بحيث تخلق قطيعة حقيقية بين الرسالة و حواملها أو وسيلتها. فالمهارات التي نماها الشرط التقني للتلفاز القديم و التي ساهمت في إدراك جيلنا و من قبله لماهية عمل التلفاز و طبيعته الكهربية و طبيعة الصورة الكهرومغناطيسية أو الموجية لم تعد جزء من ثقافة الاستهلاك المعاصر. حيث تم إقصاء كل العمليات اللازمة أو التي تفرض اختلاط المستهلك بالمنتج. كل المسائل أصبحت ذاتية الحل و جهاز التحكم في اليد هو امتداد لفضاء الجسد خارج حدوده البيولوجية . إن الحركة العفوية التي يقوم بها الرجل عندما تخونه التقنية في جهاز التحكم- يقوم بنفضه- بالمعنى الحرفي- أي هزه مع الضغط على أزراره في حركة استعادية للخبرة البيولوجية المتمثلة بفعل التبول أو الاستمناء. إنها تصور- وهمي - لدفقة افتراضية ستخرج من مقدمة جهاز التحكم لتستقر في التلفاز أو أي كان الجهاز المراد التواصل معه. يبدو ان النساء تعلمن هذه العادة بالاكتساب و عن حسن نية!
في المشهد السياسي المعاصر أصبحت صورة البطل الجماهيري , أو السياسي الشعبي موضة قديمة, إنها حالة متقدمة من الفطام العاطفي, لم يعد الحاكم و لا المواطن -في ظل الشكل المعاصر من العلاقات الاقتصادية و التنظيمية- معنيان بالتلاقي أصبحت الأجهزة و المؤسسات السياسية -عند كلا الطرفين- بمثابة موصلات تضمن المسافة اللازمة لعدم التورط شخصياً في صياغة التاريخ؟ أصبح الجميع أقرب للصيغ المجردة : عناوين.
مرة أخرى تنتصر المسافة و التغريب في واحد من أكثر المنتجات جدة و حداثة في تاريخ صناعة الصورة , إنه نظام الإضاءة من ديدو. يقدم ديدو فايغرت /المخترع و صاحب الشركة و الحائز على جوائز غرامي و أوسكار في تطوير التقنيات البصرية/ لمنتجاته على أنها مثال في الدقة و القدرة على التكيف مع متطلبات عالم التصوير و الإضاءة. و احد أهم مزاياها مرتبط بقدرتها على الإنارة من مسافات بعيدة جداً مهما صغر حجم الموضوع المنار أو مساحته. هذه القيمة الفنية و الحاجة التقنية أوحت لأجهزة الشرطة في أكثر من دولة بتبني أجهزة الإنارة من ديدو في تطبيقاتها الميدانية خاصة فيما يتعلق بأرشفة أنشطة الشرطة لأسباب قضائية و قانونية و أحدها- ليس أقلها- تصوير حوادث الشغب أو المظاهرات . فهذه الأجهزة المشهورة بمتانتها الشديدة و بنائها المتقن لم تطلب لهذا الشرط , كما يتوقع كقدرتها على تحمل الصدمات و الاهتزازات العنيفة.بل على العكس : فهذه الأجهزة تم اقتناؤها لأنها تحقق-بمساعدة تقنيات التصوير الحديثة- شرط بقاء أجهزة المراقبة و وحدات التصوير بعيدة عن الموضوع, فالضوء يسمح بإنارة الموضوع من مسافات شاهقة و بالتالي يمكن التعرف إلى كل تفاصيل الأحداث من دون التورط باحتكاك فيزيائي. هذه الرغبة بالابتعاد و النأي من دون فقدان التواصل و القدرة على التحكم و الإدارة تصبح سمة عامة من سمات الحكومة المعاصرة, تعزز هذه السمة أجهزة المراقبة و أشكال التعقب الغير مباشرة : مثل بطاقة التلفون و البطاقة الائتمانية.
من الملفت في أن أجهزة الاتصال المعاصرة مبنية في جوهرها على الانفصال : فالخلوي و جهاز الكومبيوتر المحمول و غيرها من مفردات ترسانة الإنسان المعاصر هي أجهزة تضمن شرط الفردية و الانعزال, و تحقق فعل الاتصال وفق قاعدة انتقائية مسبقة - بيانات- مما يجعل الحاجة إلى التحكم سمة من سمات التقنيات الديموقراطية. و يجعل الحاجة إلى القليل من الكحول حتمية إنسانية للتحرر- بالحد الأدنى - من المنطق الفاشي الذي يغلف أدبيات التواصل/الفصل الاجتماعي بما يسمح لفرد بسيط أن يعانق فردة بسيطة محققين الشرط الأدنى لمتعة العيش المشترك/ في مكان واحد و زمان واحد.
الجمل
إضافة تعليق جديد