عند نقطة تفتيش في العراق

17-06-2009

عند نقطة تفتيش في العراق

لا أذكر كم كان عمري عندما سألني أبي ذاك السؤال الغريب، ربما كان هذا في المرحلة الثانوية . و لا أذكر لماذا سألني أو كيف حدث ذلك خلال الحديث و لكن عندما فعل شعرت بالسؤال يضربني و كأنه حجر. إذ قال:"كم فتى احتضر بين ذراعيك باكيا يريد أمه؟"
حتى ذاك الوقت لم أضم أحدا بين ذراعي وهو يموت و لا أحد كان يبكي لأجل أمه ولا أذكر كيف أجبت على السؤال لقد كنت مغفلا تماما .
شارك أبي في حرب فيتنام و كان يعمل في جماعة المشاة يسوق كلبا من نوع شيبارد اسمه "بو" . و معا  يبحثان عن الفيتناميين و الكمائن و المصائد و الأنفاق و مخابئ الأسلحة . شكل أبي و "بو" فريقا و كانا يسيران في مقدمة الفرقة و عندما يشتم رائحة الخطر ينبه "بو" أبي  .لقد كانا يحميان أرواح رجال يقودونهم عبر غابات جنوب فيتنام .
و بعد سنوات من سؤال أبي المحرج شرح لي ماذا حصل له في فيتنام ، فذات يوم كان والدي و "بو"  يقودان الفرقة عبر غابة عندما أطلق الكلب إشارة إلى أنه اشتم رائحة خطر فأشار أبي إلى الفرقة أن تتوقف و لكن الملازم المسؤول هرع متسائلا عن السبب  و عندما شرحه أبي غضب الملازم و اعتبر الأمر هراء على أساس أن المنطقة قد نظفت و هي خالية من الفيتناميين منذ أيام و لذا أمر الفرقة بالاستمرار في مهمتها و المضي  إلى عمق الغابة.و خلال دقائق تبين أن "بو" كان محقا إذ وقعت الفرقة في كمين و كان عليهم القتال لأجل الخلاص و تمكنوا من الوصول إلى مكان آمن ولكن خلال إطلاق النيران أصيب جندي في الفرقة برصاصة أسفل البطن و كان ينزف بسرعة و حدث أنه كان صديقا مقربا لأبي و مع رؤية رفيق سلاحه ينزف ركض والدي صارخا طالبا المساعدة الطبية . كان الجندي مستلقيا على الأرض ممسكا أحشاءه بيده باكيا يريد أمه و كل ما استطاع أبي فعله هو ضم صديقه و تهدئته قدر المستطاع و هو يموت بين ذراعيه .
بعدما اخبرني والدي بتجربته اعترف بأنه لا يزال يشعر بالذنب تجاه حياة ذاك الشاب و تمنى لو أنه استطاع إقناع الملازم بعدم المضي بعيدا بالفرقة فربما كان هناك أشياء أخرى يمكنه القيام بها.
في وجه أبي رأيت ندما و غضبا ثقيلين مع انهمار الدموع على خديه و عندها أدركت أنه أطلعني على أمر لم يكن على الأغلب أخبره للكثيرين لم أعلم ماذا أقول و لم أملك جوابا لتساؤلي عن سبب توجيهه ذاك السؤال لي قبل سنوات .
و كما قلت لم أضم بين ذراعي إنسانا يموت و يبكي لأجل أمه لذا الجواب لسؤال أبي هو كلا لم أمر بتجربة كهذه . و لكن دعني يا أبي أسالك كم طفلا في التاسعة ضمته ذراعيك و هو يبكي لأجل أبيه؟ ماذا عن صبي يتعلق بأبيه الميت الذي قتلته للتو؟؟
في صيف 2003 عملت عند نقطة تفتيش خارج مدينة الحويجة شمال العراق .كنت في المشاه تماما مثل والدي و لكن عوضا عن خفر الغابات الرطبه في فيتنام كنت أقاتل في حرب عصابات مدنية وسط الحرارة الشديدة و رمل العراق.
كانت نقطة التفتيش خارج البلدة و كنا نوقف كل عربة تحاول الدخول فنفتش عن الأسلحة و المتفجرات و المشتبه بهم أما نقطة التفتيش فكانت على الشكل التالي: على بعد 300 متر وضعت لافته باللغة العربية تقول "خفف السرعة استعد للوقوف" و على بعد 150 متر لافته أخرى تقول "ستستخدم قوة مميتة إذا لم تتوقف"ثم توجد أسلاك حلزونية تمر بها العربة قبل أن تتوقف في منطقة تسمى "بيت"و في هذه المنطقة نفتش العربات و إن لم نعثر على شيء نسمح لهم بالدخول إلى المدينة.
في يوم صيفي ذاك العام  كنت في نقطة التفتيش خارج الحويجة عندما اقتربت عربة من نقطة التفتيش شاهدتها عبر المنظار ووجدت أنها شاحنة تيوتا صغيرة ،وضعت المنظار جانبا و رفعت سلاحي في وضع الاستعداد.اقتربت الشاحنة البيضاء من اللافتة الأولى و لكن لم تحاول الإبطاء، أمر قائد الفرقة بإطلاق رصاصات تنبيه لذا قام  الرجل الذي بجانبي بإطلاق ثلاث دورات من بندقية م 16 الآلية فوق الشاحنة و لكنها لم تبطئ ووصلت إلى اللافتة الثانية و خوفا من أن تكون الشاحنة محملة بالمتفجرات أمر القائد الجميع بفتح النيران على الشاحنة رفعت بندقيتي و أطلقت ثلاثين دورة  باتجاه السائق و الرجل بجانبي أطلق من بندقية (م 240 ب) حوالي 150 دورة باتجاه محرك السيارة واضعا حوالي باوند من الرصاص فيه .بدأ الدخان الأسود بالتصاعد من تحت غطاء السيارة مع انحراف الشاحنة يمنه و يسرة و توقفت في منطقتنا و فورا قمت بإطلاق المزيد من الدورات على باب السائق ثم أمرنا القائد بوقف إطلاق  النيران
توقفت النيران و لكن نسبة هرمون الادرينالين كانت مرتفعه في جسدي و سائق الشاحنة مائلا الى الباب و هو  محني و الدماء تسيل من رأسه ، صدره ، ذراعيه  ، فتح أحد الأعضاء في الفرقة باب السائق فسقط جسده إلى الأرض و لازلت أستطيع سماع صوت اصطدام جسده بالأرض مع تدحرجه خارج الشاحنة.
و بعنف فتح باب مرافق السائق و رأيت صبيا في الثامنة أو التاسعة يقفز و يركض حول مقدمة الشاحنة و يحوم حول الجسد الذي ثقبته الرصاصات صارخا و باكيا باللغة العربية بحيث لم أكن متأكدا مما يقول كل ما فعلته هو المراقبة بذعر.و تبين أن السائق هو والد الصبي و لحسن الحظ لم يصب الغلام لأن رصاصاتنا كانت تجاه السائق. كان الطفل يبكي بشكل هستيري و هو يضم جسد والده الميت فغطته دماء الأب واحتاج الأمر إلى ثلاثة رجال لإبعاده عن الوالد الذي كان غارقا في بركة من الدماء .جاء طبيبنا وما كان بالإمكان عمل أي شيء فلقد وقع  الضرر، فقط  وقف الطبيب جانب الجثة و ركلها عدة مرات و رفع الذراع بالهواء و رماها كلنا كنا نعرف أنه قد مات و أحدا  لم يستطع عد ثقوب الرصاص في جسده.
أخذوا الصبي في شاحنة لا أدري إلى أين و لم أره بعدها و أمضينا بقية النهار في تنظيف مكان المذبحة وضعنا جسد الأب في كيس الجثث و قذفناه في مؤخرة شاحنة أخرى و كأنه كيس قمامة و لا أدري أيضا إلى أين أخذوه فأنا لا أسأل أين يأخذون الأجساد بعد أن نقتلها إذ  فعلا لم أكن  معنيا بذلك . 
بعد ذلك توجب علينا التفكير فيما سنفعل بالشاحنة فقد كانت محطمة تماما و داخلها مليء بالدماء , و لم يرد أي منا الصعود إليها لذا دعونا الميكانيكي لأخذها خارج نقطة التفتيش و علمنا فيما بعد أن مكابح الشاحنة كانت معطلة فهي لم تحاول تجاوز نقطة التفتيش بل لم تستطع الوقوف و تبين أن الأب و الابن كانا عائدين إلى البلدة بعد يوم أمضياه في العمل بحقل البطيخ و كانت مؤخرة الشاحنة مليئة بالبطيخ و المجارف .ربما كانا في طريقهما لبيع البطيخ في السوق و الحصول على مبلغ كاف لإصلاح مكابح  الشاحنة.
هل كان من الممكن تفادي إطلاق النار؟؟؟ لا أدري و  بالنسبة لي و للآخرين في الفرقة كنا ننفذ أوامر ونقوم بعملنا و هو العمل الذي أمرنا به بشكل غير شرعي من قبل الكونغرس و البيت الأبيض دون أي اعتبار للقانون الدولي و لا الإنسانية .كيف كان بالإمكان أن نعلم بأن الشاحنة كانت تحمل أبا و ابنه عائدين من حقلهما و قد تعطلت المكابح؟و كيف نستطيع أن نشرح ذلك  للصبي الذي رأى أباه البريء يقتل بيد قوات أميركية  تحتل  وطنه؟
كان هذا قبل خمس سنوات يعني أنه أصبح مراهقا الآن ربما سيكون غدا يقود  شاحنة تيوتا بيضاء  مقتربا من نقطة تفتيش أخرى في العراق و أقول جازما بأنه لن ينقل بطيخا فيها.


*الكاتب كريستوفير ريهدير و هو جندي أميركي خدم في حرب العراق عام 2003 و أجبر مره ثانية على الخدمة هناك عام 2005 لمدة 400 يوم  رغم عدم أهليته الصحية بسبب فقدان السمع و المعاناة من اضطراب الكرب التالي للرضح.


ترجمة رنده القاسم

عن موقع Antiwar

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...