في فيلم «جاسوس الشمبانيا» الموساد يخدع المخابرات المصرية

15-04-2008

في فيلم «جاسوس الشمبانيا» الموساد يخدع المخابرات المصرية

يتمتع عالم الجاسوسية بجاذبية خاصة في السينما، فهناك كثير من الأفلام التي تروي قصص الجواسيس ومغامراتهم، وأشهرها سلسلة أفلام "العميل السري البريطاني" الشهير جيمس بوند، تلك الشخصية الخيالية التي ابتكرها الكاتب إيان فليموتز جاسوس الشمبانيا مع زوجته وضابط مصري يفك قيده قبل ادلائه بشهادته أمام المحكمةنج من خبرته الخاصة في العمل بالمخابرات البحرية البريطانية خلال الحرب العالمية الثانية.

في أفلام الجاسوسية عادة ما تختلط الحقائق بالكثير من الخيال، ونادرا ما تروى القصص الحقيقية للجواسيس وتفاصيل عملهم عبر الفيلم التسجيلي أوالوثائقي الذي نُفضل أن نطلق عليه "الفيلم غير الخيالي" non-fiction.

ويعتبر جهاز المخابرات الإسرائيلية "الموساد" من أكثر أجهزة المخابرات تكتما وتمسكا بالسرية فيما يتعلق بالعمليات التي يقوم بها عملاؤه. ويطارد الموساد كل من يسمح لنفسه من عملائه السابقين، بإفشاء أسراره وأسرارعملياته الخاصة في الخارج.

غير أن "الموساد" منح مؤخرا الضوء الأخضر للمخرج الإسرائيلي ناداف شيرمان لكي يصنع فيلما "غير خيالي" يعتمد على حقائق موثقة، عن أحد اشهر جواسيس الجهاز طوال تاريخه وهو الجاسوس الذي عرف بـ"جاسوس الشمبانيا".
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل سٌمح أيضا لضباط سابقين وحاليين في الموساد بالظهور في الفيلم، وتحدث بعضهم باسمه الحقيقي فيما استخدمت أسماء مستعارة للعملاء الذين لايزالون في الخدمة.

أما سر التسمية التي أطلقها الموساد على ذلك الجاسوس، أي "جاسوس الشمبانيا"، فيعود إلى أنه كان مولعا بوجه خاص، بالشمبانيا، وكان يستمتع كثيرا بالسهر، ويغشى المنتديات والأماكن الراقية، يتناول الشمبانيا ويفرط في تناولها، بل وكان أيضا يغدق على معارفه ويمنحهم صناديق من الشمبانيا على سبيل الهدايا، في استعراض لثرائه وذوقه الرفيع، وجذبا لهم لمعاونته في أهدافه الخفية.

"جاسوس الشمبانيا" اسمه الحقيقي هو زئيف جور آري. وهو يهودي (من جهة الأم) من أصل ألماني، هاجر إلى فلسطين مع أسرته عام 1933 مع صعود هتلر إلى السلطة، وخدم في صفوف الجيش البريطاني هناك ثم التحق بالجيش الإسرائيلي بعد قيام إسرائيل، ثم تلقى تدريبا خاصا في الموساد إلى أن جاء وقت الاستفادة من قدراته فأرسل عام 1960 إلى ألمانيا الغربية حيث طلب الحصول على الجنسية وحصل عليها بالفعل ثم وصل إلى مصر في العام التالي تحت اسم فولفجانج لوتز.

مهمة العلماء الألمان
كانت إسرائيل تشعر بقلق شديد في تلك الفترة من مساهمة عدد من العلماء الألمان في تطوير برنامج مصري للصواريخ. وأرسلت عددا من عملائها منهم "لوتز" لتهديد هؤلاء العلماء واغتيال بعضهم إذا لزم الأمر لثنيهم عن العمل في مصر.

والقصة بعد ذلك معروفة حول الخطابات الملغومة التي أرسلها عملاء إسرائيل إلى العلماء الألمان وما أشاعته من رعب بينهم دفع معظمهم للمغادرة.

ولكن لوتز تحديدا كان يؤدي مهمات أكبر، فقد تمكن بفضل الغطاء المحكم الذي كان يعمل تحته، من مصادقة عدد من كبار ضباط الجيش المصري منهم لواء في المخابرات العسكرية، مما مكنه من دخول وتصوير عدد من القواعد العسكرية وقدم خدمات جليلة لإسرائيل.

كان غطاء لوتز أنه أولا ألماني (كان أشقر وأزرق العينين ولم يتعرض للختان شأن اليهود)، وثانيا ما رواه بإقناع من أنه كان ضابطا سابقا في الجيش الألماني النازي ثم هاجر بعد الحرب إلى استراليا وهناك جمع ثروة من تربية الخيول.

وقد افتتح ناديا لركوب الخيل في ضاحية المعادي الراقية في القاهرة، وأصبح يستورد كميات كبيرة من الشمبانيا الفرنسية ويقيم الحفلات ويغدق فيها على ضيوفه من المدنيين والعسكريين المقربين من السلطة.

وتقول الرواية الإسرائيلية عن سقوطه إن الشرطة المصرية خلال حملتها الطارئة بسبب زيارة رئيس ألمانيا الشرقية إلى مصر عام 1965 قبضت على الألمان الغربيين المقيمين في القاهرة تفاديا لأي مفاجآت غير سارة. من بين هؤلاء لوتز الذي اعترف مباشرة بأنه جاسوس إسرائيلي دون أن يكون قد تعرض لأي إرغام، بل قيل إن الضابط المصري الذي كان يستجوبه ذهل من اعترافه المفاجئ.

وقاد لوتز السلطات المصرية إلى مسكنه حيث أطلعهم على جهاز الإرسال المخبأ في حذائه الطويل، والمتفجرات التي خبأها في قطع من الصابون.
وتظهر في الفيلم صور ولقطات أخرى كثيرة بالأبيض والأسود للوتز وهو يغشى النوادي الليلية مع أصدقائه، ولقطات له في نادي الفروسية الذي أسسه، ولقطة أخرى لعالم ألماني يقول "إننا لا نعمل هنا ضد إسرائيل ولكننا نساعد دولة نامية على تنمية قدراتها".

الوثائق المصورة
هذه الرواية المثيرة عن الجاسوس لوتز يرويها فيلم "جاسوس الشمبانيا" بأسلوب يعتمد على اللقطات التسجيلية من الماضي، من زمن قاهرة الستينيات وما كانت تمور به، ومن خلال مجموعة الصور الفوتوغرافية الخاصة التي تركها لوتز نفسه لدى أسرته، والأفلام التسجيلية المصورة بكاميرا لوتز الشخصية من مقاس 8 مم، او تلك التي كان يلتقطها ابنه "عوديد" ومنها لقطات له في المدرسة اليهودية التابعة للسفارة الإسرائيلية في باريس عام 1962، ولقطات لسكرتيرة كبير العملاء الألمان التي انفجرت في وجهها رسالة ملغومة فشوهت وجهها واصابتها بالعمى.

ويستخدم المخرج شيرمان المقابلات العديدة التي أجراها مع أصدقاء لوتز الذين عاصروه في القاهرة، أو الذين عرفوه أثناء تردده على باريس في الستينيات، ومنهم امرأة تدعى نادية ليسوف فرنسية كانت تقيم في مصر، وقد اعتقلت معه ثم أفرج عنها لعدم ثبوت شئ ضدها.

أما أهم ما يتضمنه الفيلم فهو الشهادات الصوتية الحية التي يدلي بها عملاء ومسؤولون في الموساد، منهم من ترك الخدمة مثل مائير أميت الذي تولى رئاسة الجهاز (من 1963 إلى 1968) ومنهم الذين مازالوا يعملون وقد ظهروا بعد تشويه ملامحهم أو إخفائها، وبعد تغيير أسمائهم التي نراها على الشاشة. يزعم رجال الموساد أنهم تعاونوا في صنع هذا الفيلم بسبب رغبتهم في الاستفادة من التجربة ومراجعة ما وقعوا فيه من أخطاء.

ويقول المخرج إن مسؤولي الموساد عرضوا الفيلم على العاملين بالجهاز لكي يشرحوا لهم كيف يمكن تلافي أخطاء الماضي. والخطأ الذي يعترف به رجال الموساد في الفيلم يتلخص في السماح للوتز بتجاوز الحدود التي يسمح بها عادة.
فقد سمحوا له أولا بعيش حياة الترف والرفاهية على نحو ربما لم يعرفه جاسوس إسرائيلي آخر، وهو ما أدى فيما بعد إلى أزمة نفسية شديدة الخطورة انعكست آثارها عليه بعد أن أصبح لا يمكنه التفرقة بين شخصيته الحقيقية وشخصيته كجاسوس بعد اطلاق سراحه عام 1968 وعودته إلى إسرائيل ضمن صفقة لتبادل الأسرى بعد حرب 1967.

لقد أصيب بنوع من الفصام في شخصيته، وظل يدفع الثمن حتى النهاية.

الجانب الثاني الذي يوليه الفيلم اهتماما كبيرا يتعلق بابنه عوديد الذي عرف من والده مبكرا حقيقة عمله كجاسوس لكنه ظل منذ أن كان في الثانية عشرة، يعيش في باريس مع والدته وزوجة لوتز الاسرائيلية "رفقة"، يخفي الأمر عن أصدقائه وزملائه، بل والأخطر أنه كان يخفيه عن أمه أيضا خوفا على والده.

والأمر الآخر المهم والمثير في حياة هذا الجاسوس أنه وقع في الحب، وهو ما لا يسمح به عادة للجواسيس، بعد أن التقى داخل قطار في إحدى عطلاته بفتاة ألمانية رائعة الجمال تدعى "فالترود"، ثم تزوجها في القاهرة دون أن يخبر الموساد بالأمر في البداية، وبعد أن عرفوا، فضلوا كما يقول أحد مسؤوليهم في الفيلم، استمراره في عمله لأنه كان يمدهم بمعلومات مهمة.

وقد أطلع زوجته الجديدة على حقيقة عمله كجاسوس فقبلت أن تساعده عن قناعة. وقصة الزواج الثاني للوتز وأثر ذلك على زوجته الأولى وابنه هي نموذج للتأثير المدمر لعمله كجاسوس على أسرته، فقد تواطأ الموساد في ذلك أيضا أو تجاوز عنه رغم ما فيه من مخالفة حتى لتعاليم الديانة اليهودية، حسب منطق "الغاية تبرر الوسيلة".

ويروي مسؤولو الموساد في الفيلم كيف أن لوتز خدع المخابرات المصرية عندما أصر على أنه ألماني وليس إسرائيليا خاصة بعد أن استفاد من عدم تعرضه للختان في طفولته، وكيف أقنع الإسرائيليون سلطات ألمانيا الغربية بالتعامل مع السلطات المصرية على أن لوتز أحد رعاياها حتى لا يحكم عليه بالإعدام، بل إن السفارة الألمانية وكلت محاميا للدفاع عنه. وقد حكم على لوتز بالسجن المؤبد، وعلى زوجته بثلاث سنوات.

ويقول الإبن "عوديد" إنه عرف بالقبض على والده من خلال صحيفة الهيرالد تريبيون في باريس، ويروي بالتفصيل كيف أن لوتز بعد عودته إلى إسرائيل لم يشأ حتى أن يتجه إلى منزله السابق لمقابلة زوجته الأولى بل ذهب للعيش في مكان آخر أخر وحده دون زوجته الألمانية التي ظلت في مصر إلى أن توفيت عام 1973.

لقطات من الماضي
ويتضمن الفيلم لقطات تسجيلية نادرة من محاكمة لوتز في القاهرة، ولقطات نادرة أيضا له داخل زنزانته في سجن ليمان طره بإحدى ضواحي القاهرة، ثم لقطات حية له مع زوجته يوم إطلاق سراحه عام 1968.

وهناك لقطات تصور تنفيذ حكم الإعدام شنقا في الجاسوس إيلي كوهين في دمشق بينما كان لوتز معتقلا في مصر، وخشية ابنه وزوجته من أن يلقى المصير نفسه.

ويكشف الإبن الرسائل التي بعث بها إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية وقتذاك ليفي اشكول يطالبه بالعمل على إطلاق سراح والده، ويقول إن عبد الناصر كان يرفض إطلاق سراح الجواسيس والاكتفاء بتبادل الجنود الأسرى، ونرى لقطات تسجيلية لمظاهرات نظمها أهالي الجنود في إسرائيل تطالب باطلاق سراح الجنود الأسرى بعد 67 ونسيان الجواسيس.

ويظهر في الفيلم يعقوب نحمياس ضابط الموساد الذي كان مسؤولا عن لوتز أثناء وجوده في باريس، وهو يقول عنه إنه كان يمتلك "عزيمة من حديد ولم يكن ليطرف له جفن أمام الموت نفسه".

ويقول أفراهام شالوم أحد ضباط الموساد إن "الجاسوسية ليست مهنة ولكنها فن، ومن الخطر المغالاة في استخدام هذا الفن".

ولعل لوتز أو "زئيف جور آري" قد دفع الثمن بعد أن عاش مترمما على ماضيه بعد عودته إلى إسرائيل، فأصبح يظهر في برامج التليفزيون الإسرائيلية كضيف خاص يوجه له الجمهور الأسئلة عن مغامراته في مصر، ولم تعد منحة التقاعد التي يحصل عليها تكفيه بعد تقدمه في السن، فاضطر للعمل لفترة، كبائع في متجر، وأنه تزوج للمرة الثالثة، ثم ذهب إلى أمريكا يبحث عن نفسه هناك فلم يعثر عليها، إلى أن مات وحيدا فقيرا في ميونيخ عام 1993 عن 72 سنة.

"جاسوس الشمبانيا" فيلم مهم، ليس لأنه حصل أخيرا على جائزة أحسن فيلم تسجيلي في إسرائيل، بل لأنه يحمل ملامح فترة تتعلق أيضا بتاريخ الصراع مع إسرائيل وهو صراع لا تبدو أن له نهاية قريبة تلوح في الأفق.

أمير العمري

المصدر: BBC

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...