فيس بوك: قصة قصيرة

05-05-2011

فيس بوك: قصة قصيرة


تجلس هدى يومياً لتقرأ صفحتها على الفيس بوك هاربة من روتين حياتها الزوجية وتفاصيلها اليومية التي أرهقتها.. تلعب بأصابعها على لوحة المفاتيح بسرعة هاربة إلى عالمها الافتراضي الذي تفاعلت معه منذ بضعة أسابيع... تشارك بصور ولوحات فنية وتعليقات سياسية وأخرى هزلية تمتلئ بروح الدعابة.. تستسلم للغتها العامية أثناء التعليق أحياناً وأحياناً أخرى تطلق العنان للغة أدبية عملت طويلاً على تطويرها.. على أي حال، تمتلك هدى قدرة كبيرة على التحرك السريع بين العامية والفصحى.. بين الاستفهام الهزلي والتعجب الساخر، وتمتاز بحواراتها الجادة المتعلقة بقضايا سياسية مشتعلة كما حدث في تونس ويحدث الآن في مصر.. عراكٌ شعبي وسياسي وتفاعلٌ إعلامي غير مسبوق في العالم العربي.. مشاركةٌ واسعة على صفحات الفيس بوك من قبل الأصدقاء، بعضهم يحلل الأحداث والبعض الآخر يحيي الثوار والأغلبية تنتقد عنفاً غير مبرر، والآخر يبشر بفجر جديد والكل متحمس وناشط، أما هدى فتكتب على الحائط الخاص بصفحتها على الفيس بوك.. "أخشى أن يكون لهذه الثورات مفعول عكسي"
وما هي إلا لحظات حتى تنهال عليها الأسئلة والاتهامات.. تنعتها سامية من مصر، بالتردد والضعف.. وتسألها سلاف من الجزائر: أي مفعول عكسي تتحدثين عنه يا هدى؟ انظري كيف استسلم زين بن علي وهرب من تونس تحت ضغط الثوار والثورة..
تجيب هدى:
-    أخشى الفوضى يا عزيزتي: أخاف من هذا الحراك الغير منظم، حراك شعبي لا قيادة واضحة له.. لا برنامج لا رؤية واضحة.. ثورة تقوم على اللوم والرفض والفعل ورد الفعل دون تقديم بديل.وتتابع
-    صديقتي سلاف: من حق الشباب أن يرفضوا وأن يقوموا بثورة، لكن من واجب الوطن عليهم تقديم البديل ليحموا مكتسباتهم الاقتصادية والثقافية ليحموا بلادهم من الفوضى اللاحقة، الفوضى المنظمة لهدر الثروات.
وبخط كبير، تكتب هدى:
-    صديقتي سلاف: الثورات عمل تراكمي لبرنامج مستقبلي سليم.
لا يروق لسلاف هذا الرد، وتلوم هدى على موقفها فتجيبها:
-    الأيام القادمة سوف تتكلم
ورغم تلك الحوارات الملتهبة والاختلافات الكبيرة في القناعات والآراء، تظل هدى تحيي حراك الشباب الثوري ولكن بتحفظ على عفويته المفرطة التي شاهدتها في مصر، حيث تكتب على حائطها الشخصي لصفحة الفيس بوك:
-    ثورة شباب.. ثورة مصر ثورة التغيير.. ثورة الشغف الشبابي، إلى الأمام.
وما هي إلا لحظات حتى يهاجمها وائل من مصر، وعبد الله من المغرب، ورانيا من تونس، وتشتمها سمر من دمشق، وتلومها كاترين من فرنسا كلهم يجمعون على توصيفها للثورة بالشغف الشبابي خطأ كبير وتآمر على الثورة.
تجيب هدى رداً على اتهامات أصدقائها:
-    يحزنني أنكم لم تفهموا قصدي، سأشرح لكم وجهة نظري بطريقة مبسطة، إن الشغف الشبابي يكافئ كرة من نار، تتحرك بقوة وهذه الكرة النارية تحتاج لعقل مدبر، يتحكم بمسارها لتجنب الخسائر الكبيرة.
وتتابع هدى في ردها:
-    لا أعتقد يا أصدقائي أن الديمقراطية الغربية أولوية للشعوب العربية، بل العقلانية أولاً، فهذه المجتمعات لا تقوم على مفاهيم المواطنة بل على مفاهيم سلفية ونظم طائفية، مجتمعات يسيطر التخلف على نسبة كبيرة من أبنائها التي تأكل عقولهم مفاهيمٌ سلفية، هذه المجتمعات تحتاج إلى العقلانية والتغيير الهادئ السليم، ولو استغرق ذلك زمناً طويلاً وهذه هي مسؤولية المثقفين والنظم التعليمية لبناء مواطن ينتمي إلى بلده وفق مفهوم الانتماء للوطن وليس للدين والموجات المستحدثة.
وبخط كبير تكتب هدى:
-    علينا الاغتسال بالأسئلة وليس ركوب الأمواج.
لا يروق لأصدقائها هذا الرد، وهم الذين طالما أحبوها من خلال حواراتها الاجتماعية وأحاديثها الجريئة عن الحياة الزوجية، فيصرون على لومها وعتابها، وبرغبة من هدى للاستراحة من من هذا الحوار الملتهب، تتحرك بالماوس للبحث عن أصدقاء، ودوماً كما هو قانون الفيس بوك وبرنامجه تظهر على الجهة اليسرى لصفحتها قائمة أشخاص قد تعرفهم. وبنظرة واحدة ولمسة سريعة على الماوس تنتقل عبر هؤلاء الأشخاص إلى فتاة في باريس وآخر يقيم في أمريكا وأخرى في ألمانيا.. في سوريا.. في مصر.. في تونس.. في الجزائر.. عالمٌ افتراضي لا يعرف المستحيل، عالم افتراضي يشكل صيغة جديدة لمجتمع مدني افتراضي وغير متاح في مجتمعاتنا الواقعية، شبكة من العلاقات التي تتجاوز المتوالية الهندسية وحدود الزمن والمكان، صور.. آراء..  اقتراحات..دعوات.. مناسبات.. مشاركات.. نشاطات وتطبيقات.. كثير من الملاحظات.. هزل.. جدية.. آراء سياسية وثقافية اقتراحات لصيغ مجتمعية وديمقراطية عالمية.. ثورات مشتعلة.. حراك سياسي وثقافي مجاملات.. تفاهات.. تسويق وإعلان.. قبول ورفض.. تأكيد وتجاهل.. إشعارات ورسائل.. طلبات صداقة.. تعليقات.. شعر.. فنون مسرح.. والعالم كله بين أصابعها وأمام عينها متعتها الفائقة ورحلتها الجميلة شبكة واسعة تكافئ المتاهة، وخيارات لا متناهية، تذهب بها إلى عقلٍ تكنولوجي ثوري رافض لتفاصيل حياة صغيرة طالما استسلمت هدى لها.
’’لا مستحيل تحت الشمس’’.
الآن يمكنها أن ترفض التقاليد التي تمردت عليها كثيراً، الآن يمكنها التمرد على زوجها الذي طالما أحبته، لكن تفاصيل حياتها الزوجية أرهقتها لدرجة أن رغبتها بالتحرر النفسي والجسدي والعقلي منه بات مؤكداً، إنه الفيس بوك يخرجها من سجنها الصغير تتحرك هدى بالماوس للتفاعل بحوار ودردشة مع صديقتها المقيمة في ألمانيا يأخذ حوارها وقتاً طويلاً لا يخرجها منه سوى صوت زوجها:
-    هدى ما رأيك بكأس شاي ساخن فقد أنهيت لوحتي وأرغب باستراحة
تجيب هدى:
-    لحظة أني قادمة.
وتستأذن من صديقتها على الفيس بوك وتذهب لتحضير الشاي، إنه الزوج وهذه الأسرة الصغيرة يجب مراعاتها والحفاظ عليها لذا لابد من الاستجابة لطلبه.
-    تفضل إنه الشاي،
تقول هدى بصوت منخفض.
-    شكراً ما رأيك في هذه اللوحة التي رسمتها الآن.
-    جميلة لكني مستعجلة لأعود إلى حاسوبي فالاتصال بالانترنت يعمل.
-    سأفتح صفحتي على الفيس بوك بعد قليل تعرفين يا هدى أن على الفنان متابعة انتشاره الإعلامي وردود الأفعال على أعماله الفنية.
-    طبعاً، طبعاً
وتغادر هدى غرفة زوجها مسرعة لمتابعة قراءة صفحتها على الفيس بوك ومشاركة الأصدقاء، فتؤكد صداقة سامر علي من مصر وهبا من فلطسين وصدى من فرنسا ورياض من أمريكا وعبد القادر من المغرب.. لا ترغب أبداً بتجاهل أحد من أصدقاء الفيس بوك، لكنها تتأنى في تأكيد القبول وكما هي سياسة الفيس بوك تظهر على الجهة اليسرى من الصفحة قائمة أشخاص قد تعرفهم، تتأملهم هدى وإذا بصورة زوجها من بين أشخاص قد تعرفهم، تتجاهل هدى القائمة وتقول لنفسها حتى على الفيس بوك لاحقتي يا أستاذ ابراهيم، لن أطلب صداقتك في عالمي الافتراضي يكفيني وجودك في حياتي الزوجية التي تعاهدنا أن تستمر بأقل خسائر ممكنة وتعود هدى لتغرق في حوار ملتهب عن مؤسسة الزواج بين كاترين وعمر
فتكتب هدى:
-    الزواج مؤسسة فاشلة ومشروع خاسر إنه هدر للنفس والجسد والروح ومزيد من القيود التي تكبلنا في هذا المجتمع.
ترد كاترين:
-    ليس لهذه الدرجة يا عزيزتي
تجيب هدى:
-    إن غباء الزوجين في الذوبان بتفاصيل حياتهما اليومية هو الذي دمر مؤسسة الزواج كذلك غياب التقسيم العادل للحقوق والواجبات بين الزوجين يضعف الحياة الزوجية ويعطيها بعداً سلبياً يؤكد فشلها.
ويستمر الحوار بين مد وجزر بين هدى وكاترين وعمر حتى تشعر هدى أنها بحاجة مرة أخرى للتعرف على الأصدقاء الموجودين على الفيس بوك، لتظهر مرة أخرى صورة زوجها من بين أشخاص قد تعرفهم على الجهة اليسرى من صفحة الفيس بوك... تتأفف هدى وتبتعد عن طلب صداقته وتقول في نفسها حتى على الفيس بوك يا أستاذ.... ابراهيم.... وهرباً من صورته تعود وتعلق على لوحة الفنان علي معجبة بها مؤكدة ذلك بعبارة كتبتها في مستطيل التعليق.
عودتنا يا أستاذ علي. على ما هو جديد من خلال أسلوبك المتطور دائماَ..
وعلى صورة ابنة لصديقتها المغربية
تكتب هدى:
-    طفلة ساحرة وجميلة تربى بدلالك..
وعلى تهنئة زميلها حسن تعلق:
-    يا ريت كانت مبارح.
 وهكذا تستمر هدى في تفاعلها على صفحة الفيس بوك بالمشاركة والتعليق والقبول للأصدقاء واكتشاف ما هو جديدهم.. فعلى صفحة عبير تجد لوحة خاصة بزوجها وقد غمرها الأصدقاء بالتعليقات والإعجاب.. تخرج هدى من صفحة عبير قائلة حتى على صفحة أصدقائي لاحقني اسمك يا أستاذ ابراهيم، لتعود وتشارك بحوار كاترين وعمر عن مؤسسة الزواج.
فتكتب هدى:
-    أهم عنصر في الحياة الزوجية هو إعطاء الحرية للطرف الآخر.
 

يجيب عمر:
-    معك حق لأن قيود الزواج لا تحتمل.
تكتب كاترين:
-    لكن الشراكة بمساحات معينة ضرورية بين الزوجين.
تجيب هدى:
-    المساحات المشتركة تعني مزيداً من هدر الوقت للطرفين لأنه لا يوجد تكافؤ أصلاً بين الحقوق والواجبات.
وأثناء هذا الحوار يظهر في أعلى صفحة الفيس بوك إشعار باللون الأحمر يؤكد وجود رسالة جديدة.. تفتح هدى الرسالة، لتقرأ محتواها مرسلة من قبل جورجيت وقد كتبت جورجيت عزيزتي هدى اشتقت لك كثيراً وأرغب في معرفة أخبارك وأخبار عائلتك ويسعدني أن أخبرك أن بعض المهتمين في باريس يسألون عن سعر اللوحة الفنية التي عرضت على صفحة زوجك.
تجيب هدى:
-    شكراً ياجورجيت على اهتمامك ولكن من الضروري أن تسألي ابراهيم بخصوص لوحته لأنه لا علاقة لي بهذا الموضوع.
وتتأفف هدى قائلةً:
-    حتى ضمن رسائلي يطاردني اسمك يا أستاذ ابراهيم... ألا يكفي وجودك في حياتي الشخصية، حتى في عالمي الافتراضي يطاردني اسمك وتطاردني صورتك وهي التي حرصت الا يكون له اسماً في مجموعة العائلة أو بين الأصدقاء على صفحة الفيس بوك الخاصة بها ورغبة منها بالتحرر من كل ما هو واقعي ومؤكد بالرغم من كل النصائح المقترحة من قبل أصدقائها بأن يكون زوجها جزءاً من مشاركتها ومن أصدقائها على الفيس بوك على اعتباره فنان مهم ورجل غير تقليدي كما يؤكد الجميع.. لكن هدى تصر على رفض وجوده في عالمها الافتراضي الذي تمضي فيه عدة ساعات كل يوم هاربة من حياتها الزوجية وتفاصيلها اليومية كما تعتقد... بحيث لا يقتحم هذه الساعات الافتراضية سوى صوت زوجها قائلاً:
-    معقول يا هدى ثلاث ساعات على الفيس بوك والله حرام شو نسيتي دوامك وأطفالك عندهم مدرسة في الصباح الباكر.
-    حاضر فهمنا... معقول ما بتخلوا حدا يتهنى لا بالبيت ولا على الفيس بوك.
أجابت هدى بتبرم واضح.
-    أرجو أن تتخلي عن عصابك هذا.. يقول زوجها.
-    أي عصاب تتحدث عنه أنا المرأة المرهقة بأعمال الوظيفة والبيت ومتطلبات أولادك ومتطلباتك.. أبسط الأمور تعتمد فيها على زوجتك، كأس شاي لا تصنع لنفسك، فنجان قهوة تحتاج لهدى كي تحضره لك، ما في عدالة بتوزيع الأعباء وخصوصاً هذه الطلبات الصغيرة والسخيفة.
-    أرغب بأن يكون حديثك أكثر عقلانية ونبرتك أكثر هدوءاً يا مدام.
-    طبعاً دوماً تتهرب من المشكلة الأساسية بالتنديد بعصبيتي وبصوتي خوفاً من مواجهة الوضع الحقيقي لمشاكلنا.
-    لا أظن أنه يوجد مشاكل بيننا يا هدى.
-    يوجد مشكلة... لا تتهرب من الموضوع الأساسي يا أستاذ.
يدير الزوج ظهره ويذهب إلى غرفته بينما هدى تستمر في حديثها لوحدها مما يزيد توترها وغضبها لحد لا تحتمله فتلحق بزوجها قائلة:
طبعاً يا أستاذ لا تحتمل حديثي ولا ترغب في حواري بينما تستطيع محاورة الجميع لساعات طويلة على الفيس بوك وفي السهرات والعزائم واللقاءات الفنية وتدير نقاشات هامة وتقترح أساليب جديدة وتضع حلول لأصعب المشاكل في الوقت الذي تعجز فيه عن مناقشتي وحل مشاكلنا التي تسميها أوهام تضرب رأسي.
يبقى الزوج صامتاً متأملاً لوحته الحديثة مما يزيد غضب هدى لترفع صوتها عالياً.
-    يا أستاذ أرغب بالانفصال عنك لا أحتمل إهمالك النفسي وانشغالك عني وعن كلامي.
يجيب الزوج:
-    تريدين الطلاق هذا شأنك، أما أنا لا أرغب في ذلك، بالنسبة لي الحياة معك ومع أطفالي مستقرة وسليمة ولا تستدعي هذا القرار يا مدام، يكفي تصعيد لأوهام ومشاكل غير موجودة بيننا أصلاً.
-    طبعاً صار كلامي تصعيداً ومشاكلنا أوهام، لأن وقتك ملكك ولا أحد يقتحمه ولا أحد يعكر عليك صفاء ذهنك، تعيش وقتاً كافياً مع لوحتك ووقتاً كافياً مع كتبك ووقتاً لازماً لسهراتك وعزائمك ووقتاً إضافياً مع أصدقائك على الفيس بوك من كل أنحاء العالم، وقد أصبحت كائناً عالمياً لا وقت لديه ليفكر بمشاكل حياته الزوجية وبأوهام زوجته التي تقوم بكل واجباتها حتى أطفالك لا تخف على مستقبلهم فهم مميزون بالمدرسة ومجتهدون ولا يوجد مشكلة بالنسبة لك. أما أنا يا أستاذ ابراهيم فيجب أن أقسم نفسي بين الأولاد والبيت والوظيفة ومتطلباتك المتعددة لتستمتع حضرتك بأكبر قدر من الوقت والحرية، فنجان قهوة لا تقدم لنفسك ورغم ذلك تنهال علي بنصائحك بعدم هدر الوقت على الفيس بوك، بأحاديث فارغة كما تدعي حضرتك.
يظل الزوج صامتاً مما يزيد توتر هدى، فتذهب إلى المطبخ لتجلس على طاولتها الصغيرة تبدأ بالتدخين وهي تهز رجلها بعصبية عالية معلنة ثورة غاضبة على زوجها وعلى هذه الحياة التي تعتبر أنها سلبتها كل الحقوق ولم تقدم لها سوى الواجبات.
تحدث هدى نفسها بصوت عال:
-    والله هذه الحياة غير محتلمة، إهمال نفسي وفكري ومتطلبات يومية حتى على الفيس بوك يلاحقني بصورته واسمه وعلى صفحات أصدقائي أرى لوحاته... وفي بيتي يعجز عن حواري أو الاستماع لصوتي ويصر أن ما أعانيه وهم يأكل عقلي ولا يوجد مشكلة أصيلة بيننا.
يوجد مشكلة وسأطلب الطلاق منه غداً بشكل قانوني تحدث هدى نفسها وقد زاد توترها وانفعالها.
في الصباح الباكر تستيقظ العائلة الصغيرة المؤلفة من طفلين (بنت وصبي) لتستعد ليوم جديد يبدأ بتجهيز متطلبات الطفلين ليذهبا إلى المدرسة حيث تنتظرهما الأم حتى يصعدا بالحافلة ثم تعود لتجهيز نفسها للذهاب إلى عملها الوظيفي الذي طالما اشتكت منه رافضة أحاديث النميمة الشائعة بين الموظفين والمجاملات التي تسميها نفاقاً اجتماعياً وخاصة تلك المجاملات الحاصلة بين الموظفين ورئيسهم بالعمل والتي تعتبرها هدى مجاملات قائمة على التواطؤ النفسي بين الطرفين لتأمين مصالح وظيفية بالحقيقة هي مستحقات لا تستدعي كل هذا التنازل من قبل الموظفين تجاه رئيسهم ولكن سلطة المدير في العمل حولت حقوق الموظفين إلى طلبات تحتاج للتنازل حتى يتم الحصول عليها هذه هي قناعة هدى التي جعلت منها امرأة قليلة الكلام مما تسبب في اتهامها من قبل زملائها في العمل بأنها مغرورة ومتكبرة بسبب عزلتها وقلة حديثها.
يوم هدى مثقل بالعزلة والمتاعب والواجبات المتعددة ولا يوجد مكان فيه لحقوقها وأمانيها كما تعتقد حتى على الفيس بوك نافذتها الافتراضية لعالم جديد وحياة مختلفة الوقت غير متاح ومثقل بالواجبات والطلبات.. لكن هذا اليوم سيكون برنامج يومها مختلف فهي ستعلن قرار انفصالها عن زوجها أمام المحامي الذي قامت بزيارته وهو بدوره سيتخذ الإجراءات اللازمة بخصوص دعوى التفريق.
تعتقد هدى أنها بهذا القرار سوف تبدأ حياة جديدة وتفاصيل مختلفة عن تلك التفاصيل التي طالما اشتكت من أعبائها... وبالفعل تعود هدى إلى بيتها وعند الباب يستقبلها طفليها بفرح كما هو الحال في كل يوم وكعادته زوجها مشغول بعمله الفني يرد عليها التحية بهدوء ويسألها بإقتضاب عن يومها الوظيفي وكأن شيئاً لم يحصل في اليوم السابق.. تعودت هدى على طبيعته في استقبال الأمور والأحداث بهدوء مطلق وكأنه يعيش في عالم آخر.. يتمتع زوجها باستقلالية نفسية وجسدية وعقلية عالية قدرته على استقبال الأمور بهدوء وسلام لا يضاهيه به أحد.. أهو التراكم الثقافي والاجتماعي أم الذوق الفني الذي يمنحه هذه الصفات، تسأل هدى نفسها؟ وتستغرب كيف تفشل هي في تحقيق هذه الاستقلالية وهذا الهدوء الذي طالما تمنته لذاتها.. ولكن سرعان ما تجيب نفسها: طبعاً لا أملك هذا الهدوء وتلك الاستقلالية بسبب ضغوط العمل والبيت، وقتي ملك للآخرين وذوبان ذاتي في تفاصيل يومية هو الذي يحرمني هذا الهدوء وتلك الاستقلالية، على عكس زوجي الذي يستمتع بكامل وقته دون أي منغصات سوى صوتي وحديثي الذي لا يحتمل الرد عليه ويعتبر الدخول في جدال معي مضيعة للوقت كما يعتقد، غداً سنرى ردة فعله عندما يصله قراري بالانفصال عن طريق المحكمة وتستغرق هدى في حديثها لذاتها وقد أرهقت من تنظيف البيت بعد وجبة الغداء بينما طفليها يدرسان وزوجها نائم في قيلولة نهارية حرمت منها منذ أن أصبحت أماً لطفلين يحتاجان لرعاية وتعليم ومتابعة دراسية لمواهبهما المتعددة فابنتها موهوبة بالغناء والعزف على الكيتار أما الولد فيتمتع بقدرة عالية على الرسم والتمثيل وتقليد الشخصيات السياسية والإعلامية التي يشاهدها على التلفاز لذلك تحرص هدى على رعايتهما ومتابعتهما بدقة عالية لأنها فخورة بهما وطالما حدثت أصدقائها على الفيس بوك عن تفوق طفليها وعن مواهبهما المتعددة لأنها تؤمن بأن الولد الفاشل عبء على نفسه وعلى أهله وهي حريصة بأن لا تُحمل نفسها أعباء مستقبلية جديدة فهي تركض في الزمن مسرعة حتى يكبر طفليها ويعتمدا على نفسيهما ربما تستريح لبعض الوقت لذلك لن تتخلى عن طفليها مهما كان قرار المحكمة بشأن الطلاق لأنها تدرك بأن زوجها لن يرغب برعاية الطفلين فهو مسترخ لطموحاته وفنه وشهرته ولا متسع لديه لواجبات إضافية فاستقلاليته العالية لا تحتمل شركاء حتى ولو كانا طفليه وتدرك هدى تماماً أنه سيمنحها رعاية الطفلين وسيترك البيت لها ولطفليها ويغادر لأنه يرغب بالهدوء والسلام ولا حاجة له لأعباء وشركاء في حياته وطموحاته ويعلم تماماً أن زوجته ستكون مؤتمنة على طفليه... من هذا المنطلق تجد هدى نفسها غير نادمة على قرارها في الانفصال وتنتظر اليوم الذي يوافق زوجها على هذا القرار وبالفعل يوافق الزوج على قرار الانفصال الذي بلغته به المحكمة وبكل هدوء وسلام يفي بوعده لزوجته في رعاية الطفلين ويترك البيت لهم ويغادر وكأن شيئاً لم يكن تعرف هدى هذه النتيجة مسبقاً لأن زوجها ابراهيم يتمتع بتوازن كبير واستقلالية نفسية عالية فهي لا تستغرب ردة فعله وسلامة موقفه، ولكن اليوم سيكون مختلفاً بالنسبة لها اليوم وفي آخر الليل ستجلس لتقرأ صفحتها على الفيس بوك ولتشارك أصدقائها اقتراحاتهم وتعليقاتهم وبالتأكيد سوف تخبرهم عن حالتها الجديدة... فتكتب هدى: على حائطها الشخصي على الفيس بوك.
-    القرار الوحيد الذي اتخذته بمفردي طوال حياتي لقد تحررت من شراكتي الزوجية اليوم.
تعلق كاترين على حالة هدى فتكتب:
-    أخشى أن تندمي يا هدى على قرارك هذا,
وتطلب منها الدخول في دردشة جانبية لتسألها عن أسباب الانفصال.
وتطول الدردشة بين هدى وكاترين عن أسباب الانفصال وينتهي الحديث بأن هدى غير نادمة على قرارها فهي تعبت من شراكة زوجية غير عادلة بالوقت ولا بالحقوق ولا بالواجبات كما تقول لصديقتها كاترين.. ثم تستأذن من دردشة كاترين لتعود إلى الصفحة الرئيسية على الفيس بوك لتعرف ردود فعل أصدقائها على حالتها الجديدة فتقرأ التعليقات المتعددة فمنها من يعتبر ما حصل خسارة والبعض الآخر يعتبره جرأة.. وهكذا بين رد وسؤال وجواب.. تمضي هدى وقتها على الفيس بوك وفي هذه الأثناء تظهر على الجهة اليسرى من صفحتها قائمة أشخاص قد تعرفهم ومن بين هؤلاء الأشخاص صورة زوجها واسمه في أعلى القائمة.. تنظر هدى إلى صورته وتتأملها مبتسمة.
قائلة لنفسها:
-    حتى على الفيس بوك يا أستاذ ابراهيم وبهدوء تحرك الماوس ليستقر المؤشر على صورة زوجها أو بالأحرى (طليقها) وبنقرة خفيفة على الزر اليساري للماوس تطلب صداقته بعد أن كتبت له رسالة شخصية.
تقول فيها:
-    الآن بعد أن أنجزت ثورتي أيضاً يمكن أن نكون صديقين.
تقوم هدى بإرسال الرسالة طالبة صداقته، وما هي إلا لحظات حتى يظهر إشعار جديد في أعلى صفحة الفيس بوك باللون الأحمر، وبهدوء حذر تنقر هدى بالماوس على الإشعار الجديد لتفتح محتواه.
وتقرأ:
-    وافق ابراهيم السرياني على صداقتك.


قصة تغريد عيسى قاسم

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...