قذائف بلا صوت والشهداء تحت الأنقاض

عيناثا بلا وقود، بلا غاز، بلا هاتف. بلا كهرباء، ولا غذاء، ولا ماء. رجل هرب بعائلته، يروي قصة قريته. وامرأة هربت بعائلتها، تروي قصة الطريق.
أولى غارات المجزرة أصابت بيت درويش، والناس مختبئة في دارهم على اعتبار أنه آمن. مع القصف، يخرج المختبئون ويلقون بأنفسهم في أي منزل يصادفونه، قبل أن ينهار بيت وهبة على من بقي فيه. تحت قصف الطيران، لا يعرف المرء شيئاً، لا يفهم شيئاً. كأننا محتجزون داخل فيلم رعب.
كان يقف عند باب الملجأ لعجز الملجأ عن الاتساع له. هو مواطن من عيناثا رفض نشر اسمه. يراقب الغارة من الباب ويقفز فوق الناس، كلما انفجرت قذيفة. بوسعه أن يؤكد: تنفجر القذيفة، ثم تظهر الطائرة منخفضة العلو، منها يصوّر الإسرائيليون الموقع المقصوف. وبوسعه أيضاً أن يؤكد: من بين ما تلقيه إسرائيل، هناك قذائف بلا صوت. فجأة، ترى بيتاً يهدّ ويتصاعد الدخان منه، ولا تسمع إلا ضجيج انهياره على من فيه.
وسمع أيضاً، عبر ميكروفون حسينية القرية: بأمر من قيادة حزب الله، يُمنع العملاء من الخروج من المخابئ وإجراء أي اتصال. الأمر موجّه إلى من سبق له أن تعامل مع جيش لحد.
عيناثا تحتاج إلى الخبز كي تأكل، وإلى الوقود كي ترحل. تحتاج إلى الكهرباء لتضخ المياه من الخزان، وإلى الهاتف كي توصل أخبارها لمن هم خارجها. الخط الثابت قُطع قبل ثلاثة أيام، وقُطع الخلوي قبل ستة أيام. حتى بعد ظهر أمس، كان أكثر من مئة من أهلها ما زالون محتجزين فيها، يبحثون عن سيارة تقلّهم، عن وقود يسيّرها، ولا يملكون إلا القليل مما زرعوه حول منازلهم كي يسدوا جوع الأطفال: الباقون ينتظرون مصيرهم. يطبخون محاصيل البرغل والعدس والحمص المتبقية، على الحطب. انقطاع الخبز كارثي.
قبل مجزرة أمس الأول، كان الدكان الوحيد المتبقي يفتح بابه مدة ساعة أو نصف الساعة في اليوم. سعر كرتونة البيض ثمانية آلاف ليرة، وسعر ربطة الخبز المرقوق 8000 ليرة. والناس بلا عمل وبلا أمل في محصول التبغ الذي آن أوانه في زمن النار: العتب كبير على كاريتاس وهيئة الإغاثة. يعبرون عيناثا إلى رميش ودبل وعين إبل، بحصص تموينية يأتون بها من تبنين وبنت جبيل، وبواسطة شاحنات درك القرى الثلاث. لم يرضوا منحنا ولو ربطة خبز واحدة. قالوا ان الحصص ليست لنا كما يقول الشاهد، ابن عيناثا.
بعد المجزرة، تمكن من مغادرة قريته برفقة عائلته المكوّنة من زوجة وخمسة أطفال. بعدما جالوا في بيروت بحثا عن مأوى، يقفون الآن أمام باب بيت في الدكوانة، البيت يفيض بالنازحين.
يقول انه لن يعود إلى عيناثا، لكن أهلها ينتظرون منه ربطة خبز وبعض الزيت. كتب كل من الباقين طلباً على ورقة وأودعه إياها: كي أطمئنهم، قلت لهم اني سأعود. لكني لن أعود. فالشهداء ما زالوا تحت أنقاض بيوتهم.
سلام أيوب تقول انها لن تعود. هي أيضا لن تكرر رحلةً لم تكن تدرك أنها ستقوم بها يوما .
هي من سكان بيروت، كورنيش المزرعة، وكانت تقضي إجازتها الصيفية في القرية. على طريق هروبها الذي سبق بدء المجزرة بساعات قليلة، واظبت سلام على ذكر الله. أولاً، هي لم تكن، قبل أن تضطر، تقود سيارتها خارج نطاق القرية. ثانياً، كانت الطريق بلا معالم وبلا وجهة تسلكها ضمن قافلة سيارات انطلقت عند العاشرة إلا ثلثا صباح أمس (الأول). ثالثاً، زوجها في بيروت ينسق خروجها، وهي المسؤولة الوحيدة عن أطفالها الأربعة وعن سيدة مسنة اتسعت السيارة لإنقاذها.
تصف الطريق الذي سلكته بالتفصيل، تفاصيل لن نوردها كي لا تستهدف الطريق. وهو بالعلامة طريق يكتشفه النازحون من عيناثا، كل بدوره، بعد محاولات خطرة عدة تؤدي الى طرق قطعها القصف.
في أول الطريق المهجور، تصادف سيارة سلام أيّوب التي كانت تتبع خمس سيارات أخرى، هاربين من عيترون، كانت سيارتهم معطّلة. ساعدوهم وضموهم إلى القافلة. توقفت سلام في تبنين للتزود بالوقود حيث رفض أصحاب المحطة تزويدها إلا بما قيمته عشرة آلاف ليرة. لكن القافلة لم تنتبه إلى توقفها فابتعدت عنها. باتت وحدها. تعبر سيارة مرسيدس أمامها رافعة العلم الأبيض، تلحق بها واثقة من أن ركابها، مثلها، هاربون. كانت تسير بسرعة كبيرة، فانزلقت سيارتها عند كوع خطر جداً، من مفاجأتي وخوفي، فالطيران ضرب هناك وهو كان ما زال يحلّق فوقي. ظل الخوف مسيطرا عليها إلى أن وجدت قافلتها مجددا.
وصلت الى طريق الحوش، والطريق ضيّقة جداً، أحالها القصف ترابية. هناك، على تلك الطريق، رأت سلام سيارتين.
سيارتا نازحين من عيترون، علم أبيض على كل منهما. يسيل الدم من إحداهما، من دون أن تظهر معالم جثث. ومن الثانية، يبدو السائق جالساً إلى كرسيه، متفحماً، شهيداً.
قصفت تلك السيارتين قبل دقائق معدودة من وصولها إليها. لم تعرف ذلك إلا بعدما رنّ هاتفها الخلوي الملقى في شنطتها (كنت مفكّرته بلا قيمة) وكشف لها شقيقها خطورة مكانها. ارتعبت.
على الطريق، تنضم سيارات أخرى إلى القافلة. عندما وصلت إلى صيدا، اتصل بها زوجها ليبلغها بألا تسلك طريق الرميلة لأن الإسرائيليين قصفوها للتو. تتوجه القافلة نحو بعقلين، بحثاً عن طريق عاليه ومنها إلى المتحف. تاهوا ووجدوا أنفسهم في الدامور، حيث النار: ضاع مشوار التفاف مدته ثلاث ساعات، وعشنا رعب بيسوى العمر. بس قطعت على خير.
هي الآن في كورنيش المزرعة، في بيتها، تستضيف تسعة نازحين من الضاحية ومن الشويفات ومن سواهما.
تستعيد أمسها وتقول: كابوس.. اليوم، تسقط الأواني من يدي وأنا في المطبخ. ففي عيناثا، اختبأت برفقة 35 فرداً من العائلة في بيت حجري قديم وسط القرية. وحدها الصدفة تسمح للمحظوظ من أبنائها بأن يرقد قربها ليلاً، إذ ان المكان لا يتسع لأم تريد منح الأمان لأكثر من ابن واحد: كنا ننام على الأرض وأعيننا موجهة نحو السقف. كنا نفكر: متى سيهبط هذا السقف علينا ونصبح مجزرة؟

سحر مندور

المصدر: السفير