كلفة الصراع في ليبيا: جثث آدمية وفقر مدقع
كيف لدولة شاسعة مثل ليبيا تحتوي ما يقارب 1600 ميليشيا مسلحة أن تعيد هيبتها وسلطتها وتنظيمها لحياة مواطنيها في أقصر وقت ممكن؟ وكيف لها أن تعيد حوالى 30 مليون قطعة سلاح، بين خفيفة وثقيلة، إلى مخازن الجيش، وأن تلغي احتكار القوة المسلحة لبسط النظام والأمن بين الناس؟
هل من الممكن أن يعود الاقتصاد الليبي، القائم على تصدير النفط، إلى الدوران بصورة طبيعية في ظل انهيار الدينار (الليبي) وغياب رؤية اقتصادية وانعدام توافق حول سلطة سياسية واضحة وواحدة في البلاد؟
طرحت هذه الأسئلة وأخرى في المؤتمر الذي عقد في العاصمة طرابلس يومي 16 و17 أيار الجاري، بعنوان «تكلفة الصراع في ليبيا: التداعيات والتأثيرات»، وقد نظمته «مؤسسة الشيخ الطاهر الزاوي للأعمال الخيرية»، وهو المؤتمر الثاني بالعنوان نفسه بعد انعقاد الأول سنة 2013 في طرابلس أيضاً.
سؤال الاقتصاد المخيف
حضر المؤتمر عدد من الخبراء والمسؤولين من الأمم المتحدة و«منظمة الهجرة الدولية» ومنظمات غير حكومية من الولايات المتحدة الأميركية وإيطاليا ومالطا وغيرها. كما حضر عدد من الباحثين والجامعيين الليبيين الذين تناولوا ــ كل من اختصاصه ــ موضوعات وظواهر عدة في البلاد بالدرس والتحليل وتقديم تصورات للخروج من مأزق الصراع الأهلي وسبل تحقيق استقرار أمني وسياسي.
أهم الأسئلة كانت حول المسألة الاقتصادية، وخاصة أن البلاد تفتقد إدارة مالية للبنك المركزي كما لا توجد سياسة نقدية مرتبطة بمنظومة واضحة. وقد يلاحظ زائر ليبيا ذلك أول نزوله في المطار، إذ يمكن أن يصرف مثلاً مئة دولار ليحصل مقابلها على عملة مطبوعة في بريطانيا قد تكون غير سارية في المنطقة الشرقية لليبيا (برقة مثلاً) لأن العملة المروجة نفسها هناك مطبوعة في روسيا!
يقول الباحث علي عبد السلام جروشي، وهو أستاذ التجارة الدولية في جامعة مصراتة، إن «الليبيين غير واعين الآن لخطر الحرب الأهلية على الاقتصاد، فالكلفة باهظة إلى حد الآن وهي في تصاعد لأن نسبة التضخم فاقت المعقول... الأرقام تقول إن القيمة الحقيقية للنقود لا ترتقي إلى مستوى يمكن أن يؤسس لاقتصاد سليم، فالقدرة الشرائية الآن منهارة تماماً ولا قيمة للدينار الليبي في الأسواق الدولية على الإطلاق».
كذلك قال الباحث الليبي في الاقتصاد مخلوف مفتاح محمد، إن نسبة التضخم وفق «صندوق النقد العربي» بلغت 60%، معقباً: «هذا رقم مفزع ولا يمكننا إلا أن نواجه هذه الحقيقة إذا أردنا استمرار دولة تسمى ليبيا... 60% أيضاً من العملة الليبية تدور خارج البنك المركزي وخارج المؤسسات الرسمية للدولة، أي يمكن أن نجد ميليشيا ما لها تركيز مالي في شكل سيولة أكثر من وزارة التجارة مثلاً». وأضاف محمد: «الفساد في ليبيا هو الخبز اليومي الذي نعيش عليه، فالدولة لا وجود لها ولا توجد سلطات ردع أو رقابة، كما احتلت ليبيا المرتبة 170 في مؤشر إدراك الفساد العالمي من أصل 176 دولة».
نزع السلاح
أمام هذه الأرقام التي قال عنها الخبراء الاقتصاديون إنها خطيرة، تأتي ضرورة التفكير في حل حاسم وعاجل لمسألة الميليشيات والصراعات القبلية كقضية ملحة. ورغم العديد من المحاولات السابقة في نزع سلاح الميليشيات، فإن ذلك لم يفلح.
خلال المؤتمر، طرحت ممثلة الأمم المتحدة في ليبيا، كاتلين ماس، إشكالية بشأن نزع السلاح والمصالحة الوطنية، وهي التطرف الديني، «فالتكفير والإرهاب هما العقبة الرئيسية أمام إقامة مصالحة وطنية كاملة وشاملة». وفي حديث لاحق، قالت ماس إن «التحدي أمام الأمم المتحدة والمنظمات الدولية في ليبيا هو توحيد مفهوم المصالحة الوطنية لدى جميع الأطراف المتنازعة، ومهمة توحيد المفهوم يعني بذل مجهود ميداني استثنائي لتقريب الصورة والتعريف للجميع».
وبجانب مسألة نزع السلاح والمصالحة، ثمة تحديات أخرى مثل توحيد الفصائل المتنازعة التي تقسم ليبيا إلى نصفين كبيرين، فضلاً عن التأكد من نزع السلاح الذي أصبح ضمن العادات والسلوكات اليومية لليبيين كل يوم.
ماذا عن الأطفال والشباب؟
«لا يمكن تصور آثار الحرب الأهلية في الوضعية النفسية للأطفال والشباب، فالأمر كارثي وانتشار الأمراض والاضطرابات النفسية في صفوف هاتين الفئتين العمريتين الحساستين أصبح أمراً يشبه الوباء... على الجميع التدخل لإنقاذ هؤلاء من اليأس والانتحار والهستيريا»، هكذا أجابت الباحثة النفسية مبروكة علي الفاخري (رئيسة قسم العلوم النفسية في جامعة سبها)، عن سؤال حول الحرب وآثارها.
تقول الفاخري إن زائر ليبيا قد يلاحظ شدة توتر سكانها وردات فعلهم العنيفة، و«هذا يمكن تفسيره بالمضاعفات التي تحدث في مرحلة ما بعد الصدمة»، مضيفة: «مسك السلاح طوال اليوم أمر خطير... وللأطفال والشباب النصيب الوافر من قطع السلاح لأنهم من الفئة العمرية النشيطة والمسؤولة عن حراسة المدينة أو المخيم المخصص للنازحين». كما أوضحت أن «اضطراب النشاط الحركي الزائد لدى الأطفال أصبح القاعدة في السلوك العام للطفل، وأي طفل يلاحظ عليه علامات الهدوء وعدم التوتر فذلك مؤشر على استفحال الظاهرة وتطورها إلى حالة هستيرية».
أيضاً، طُرحت في هذا المؤتمر أسئلة أخرى من بينها عن النزوح والهجرة غير الشرعية والعمالة الأجنبية وعن المرأة والدستور والحكومة والنفط والقبلية والمواطنة وغيرها، لكن مجرد المبادرة بمؤتمر يجمع باحثين من جميع أنحاء ليبيا وخارجها قد يكون بادرة مهمة في طريق طويلة جداً من إعادة البلاد إلى مواطنيها ومحيطها الإقليمي السليم.
سيف الدين العامري
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد