كيف فقدت دمشق تاريخها ؟!
الجمل ـ بشار بشير : بإستثناء إلحاق الأنساب بالأجداد الأوائل، ارتأى عرب شبه الجزيرة أن لا يغوصوا في التاريخ وأن لا ينقبوا به، بل وأن يعتبروه شبه غير موجود ( ربما لم يأت أسم الجاهلي من جهل أهله بل من الجهل به أيضاً ) واعتبروا أن تاريخهم يبدأ من نقطة محددة مقدسة هي يوم هبط محمد بن عبد الله (ص) من غار حراء قائلاً زملوني دثروني . القدسية الشخصية والتاريخية المستحقة لرسول الله (ص) لم تنته برحيله إذ سرعان ما رَسَّخ أبو بكر وعمر (ر) وسيف أبو عبيدة في سقيفة بني ساعدة القدسية لكل الشخصيات الإسلامية لتصبح صانعة لتاريخ مقدس . ما إن انتظم عرب شبه الجزيرة في جيش وتحت حكم مركزي حتى سعوا إلى السيطرة على جوارهم الجغرافي ومنه سورية لم تكن سيطرة عسكرية فقط بل سياسية ودينية ولغوية و... تاريخية .
نُقِل تاريخ العرب وشخصياته إلى سورية التي أصبحت بلاد الشام وسرعان ما حل هذا التاريخ محل آلاف السنين من الإنجازات والرجالات والحوادث. يُقسم التاريخ عادة إلى حقب فهناك حقبة ما قبل التاريخ وهي التي تبدا مع وجود الإنسان على الأرض حتى إختراع الكتابة ثم تأتي حقبة التاريخ القديم وتبدأ مع إختراع الكتابة (حوالي 3300 ق.م) حتى سقوط روما ثم حقبة التاريخ الحديث أي ما بعد سقوط روما , بالنسبة لسورية أوبلاد الشام ( لاأعرف مالتسمية التي يجب أن أعتمدها في هذه المقالة ) أصبحت حقبة ما قبل التاريخ هي الفترة الجاهلية , والتاريخ القديم هو تاريخ الإسلام في شبه الجزيرة العربية والتاريخ الحديث يبدأ مع دخول خالد بن الوليد وأبو عبيدة بن الجراح إلى دمشق .
هناك الكثير من التفاصيل و الأسئلة حول كيف سيطر العرب على الشام وكيف أستطاعوا نشر الدين الإسلامي ولغتهم العربية فيها ولكن يبدوا أن كثيرا من التفاصيل والأجوبة ستظل ضائعة؛ وأهم هذه التفاصيل هي كيف قبلت بلاد الشام منذ ذلك الزمان وحتى الآن نسيان تاريخها والتخلي عن تدوينه بقلمها ؛ ففي اللحظة التي انفتح فيها باب شرقي أمام العرب المسلمين أغلق الباب على كل التاريخ الذي سبق هذه اللحظة (وبشكل ما الذي لحقها أيضاً) فقد سلَّم أهل الشام تاريخهم للمنتصر ليكتبه هو وإذا كان لهم عذر في ذلك وقتها فما هو عذرنا نحن الآن .
"فَتحَ" العرب بلاد الشام التي كانت كما هي اليوم وأكثر: خليط من الأقوام فيهم العرب وفيهم غير العرب، والغريب أن أحداً من هذه الأقوام لم يسجل روايته عن دخول العرب إلى الشام فالذي وصلنا هي رواية مقتضبة راويها هم عرب "الفتح" , لم نكتفي بقبول هذه الرواية بل وألبسناها ثوب القدسية وذلك جرياً على عادتنا بإسباغ القدسية الدينية على كل ما يتعلق بعرب شبة الجزيرة سواء كان يحتمل أو يستاهل هذه القدسية أم لا ( هناك قصة أجدها مناسبة كمثال عن التقديس اللاواعي لكل التاريخ العربي وشخصياته وحوادثه تقول أن أعرابياً شاهد رجلاً يبكي على ضريح فقال ما أبكاك يا أخا العرب فأجابه لقد تذكرت مصرع "سيدنا الصحابي الجليل" حجر بن عدي (ر) وهذا قبره فبكيت فسأله ومن صرعه (قتله) فأجابه قتله "سيدنا الصحابي الجليل " معاوية بن أبي سفيان (ر) فسأله ولم قتله فأجابه لأنه رفض أن يعادي "سيدنا الصحابي الجليل" علي بن أبي طالب (ر) . تقديسنا لهذا التاريخ دعانا لإعتباره تاريخنا الوحيد فعرفنا عدنان وقحطان و جهلنا سرجون الأكادي وديدو الفينيقية, وعشنا في مكة والمدينة والطائف و تبوك وتركنا حموكار وعمريت وماري وقادش . ياترى لو استقر الأمويون في حمص أوالرقة مثلاً بدل دمشق هل كنا نسينا دمشق أيضاً ؟
إحدى عشرة ألف سنة من التاريخ ولا ندري كم سنكتشف بعد؛ مدن كاملة وآثار ورقم و مخطوطات تعيد كتابة تاريخ البشرية كماهو حقيقة وواقعاً لا كما تسرده الأساطير والحكايا المغرضة. نترك كل هذا التاريخ مقابل التركيز على الألف سنة الأخيرة فقط وإذا رجعنا لما قبلها فللإستعمال السياحي والإستعراضي (وفي بعض الأحيان السياسي والحزبي ) أي أننا لازلنا غير معنيين بخلق صلة حقيقية مع تاريخنا ولا زلنا غير مقتنعين أن جزءاً من هذا التاريخ هو ليس تاريخ سورية فقط وإنما تاريخ الإنسانية التي ولدت على الأرض السورية . بروفيسور ياباني أسمه على ما أذكر(أيوما) يرأس بعثة تنقيب أثار في سورية سألته لماذا لا تنقب في اليابان فقال قبل ألف سنة كانت اليابان عبارة عن قرى صيادين أتو من الصين لا يوجد فيها مايُنقب عنه أما تاريخنا الممتد خلال هذه الألف سنة فنحن لسنا بحاجة للتنقيب عنه لأننا نعيشه فهو الذي لازال يُشكل هويتنا.
التاريخ هو الذي يُشكل هويتنا ونسيان أو تجاهل أجزاء منه قدلا يغير أو يُبدل الهوية بالكامل ولكنه بالتأكيد يجعلها ناقصة.
الجمل
التعليقات
سوريا
الرجاء الاستفاضة و التعمق بالموضوع
إضافة تعليق جديد