كيف يُصّنع الغرب "حركات المعارضة"
الجمل- آندريه فلتشيك- ترجمة: د. مالك سلمان:
الأبنية الحكومية تُدَمَر وتُنهَب. هذا ما يحدث في كييف وبانكوك، وفي كلتا المدينتين تبدو الحكومتان عاجزتين وخائفتين من التدخل.
ماذا يجري؟ هل أصبحت الإدارات المنتخبة شعبياً في كافة أنحاء العالم بلا أية قيمة؛ مع تصنيع ودعم النظام الغربي ل "حركات معارضة" مجرمة مصممة لزعزعة استقرار أي دولة تقف في وجه رغباته في الهيمنة على الكوكب؟
* * *
إنهم يصرخون ويهددون أولئك الراغبين في التصويت للحكومة التقدمية المعتدلة التي تقود تايلاند في الوقت الحاضر. ليس هناك خلاف حول العملية الانتخابية – فالتصويت حر بشكل عام، كما يتفق المراقبون الدوليون ومعظم أعضاء "اللجان الانتخابية" المحلية.
الحرية، الشرعية، أو الشفافية ... كل هذه ليست مهمة الآن.
تتنوع الشعارات، ولكن من الناحية الجوهرية يطالب "المحتجون" بتفكيك الديمقراطية التايلاندية الهشة. معظمهم يتلقى الأموال من الطبقات الوسطى- العليا والطبقات العليا. بعضم زعران ومجرمون، تم استئجار الكثيرين منهم مقابل جوالي 500 باهت في اليوم (حوالي 15 $) في قرى المحافظات الجنوبية المتململة. وهم معتادون على استخدام العنف، فلغتهم الجسدية وتقاسيم وجوههم تدل على ذلك بوضوح.
على المسؤولين الحكوميين في الحكومة الشرعية أن يتسلقوا المتاريس أو يستجدوا المحتجين لكي يسمحوا لهم بالدخول إلى مكاتبهم.
تم تخويف وإهانة الأشخاص الذين قدموا ليصوتوا في الجولة التي تسبق الانتخابات، وقد تعرض أحد الرجال للخنق حتى كاد أن يموت.
على الرغم من تعطيل الحياة في العاصمة بشكل كامل، لا تتجرأ الحكومة على إرسال الدبابات أو رجال الشرطة لإخلاء الشوارع. يجب عليها أن تفعل ذلك. لكنها خائفة من الجيش والملكية – عمودا هذا الخليط الفظيع من الرأسمالية المتوحشة والإقطاع – الخليط الذي لا تمكن مقارنته إلا بالكوابيس الإقليمية الأسوأ، كما هي الحال في إندونيسيا والفلبين.
كل شيء علني الآن: الحكومة تتحدث عن مخاوفها، بينما يرسل الجيش التهديدات السامة عبر الإعلام التابع الخانع وعبر "التسريبات".
ماذا يجري، وعلى ماذا يدور الرهان؟ حاول شقيق رئيس الوزراء الأكبر، ثاكسين شيناواترا – عندما كان هو رئيساً للوزراء – أن يؤسس نظاماً رأسمالياً معاصراً في هذه الأمة الخنوعة والخائفة. وليس هذا فقط: أمن مساكنَ للفقراء، وبنى نظام رعاية صحية مجانياً ممتازاً (أكثر تقدماً من أي نظام تم اقتراحه في الولايات المتحدة)، وتعليماً إعدادياً وثانوياً مجانياً ومتقدماً جداً، ومفاهيمَ أخرى حُكمَ عليها بأنها خطيرة على النظام العالمي، وعلى النخب الاقطاعية المحلية، وعلى الجيش أيضاً.
قامت النخب التايلاندية – المهووسة بفرض الطاعة أكثر من هوسها بالثروة، والتي ترغب في توليد الاحترام والخوف – بالتحرك على الفور. تم نفي رئيس الوزراء، ومنع من العودة إلى بلاده، وتعرض لتشويه السمعة. كانت هناك انقلابات عسكرية، و "تحالفات" غامضة، وشائعات و "رسائل سرية" قادمة من "مراكز عليا جداً". كان هناك القتل، مجازر حقيقية، عندما تعرض ما يسمون "القمصان الحمر"، مؤيدو شيناواترا (من الإصلاحيين المعتدلين إلى الماركسيين)، للقتل على يد القناصين، حيث تلقى بعضهم الرصاص في رأسه.
لكن الناس، الفقراء، الأغلبية التايلاندية، وخاصة في الشمال والشمال الشرقي، ردوا بطريقة رواقية وثابتة. فكلما حدثت الانتخابات، وكلما حظر النظام الأحزابَ السياسية الموالية لشيناواترا، كانت أحزاب جديدة تظهر إلى الوجود، وكانت تفوز بالانتخابات مرة بعد أخرى.
في سنة 2011، أصبحت شقيقة شيناواترا، يينغلوك، رئيسة وزراء تايلندة.
قطع "المحتجون" العديد من شرايين بانكوك المركزية، معلنين أن "تايلندة غير جاهزة للديمقراطية"، وأنه "إذا توقف مستقبل البلاد على الانتخابات، فإن قوى شيناواترا سوف تستمر في الفوز."
وهذا، بالطبع، غير مقبول بالنسبة إلى النخب والعديد من البلدان الغربية التي أفادت، على مدى عقود طويلة، من النظام الإقطاعي التايلندي.
أحد جنرالات تايلندة "رفض استبعاد إمكانية حصول انقلاب عسكري آخر."
اقترحت المعارضة مفهوماً غامضاً، حكومة تكنوقراط تحكم حتى تصبحَ تايلندة "جاهزة" للتصويت: اقرؤوا حتى نتمكن من تحطيم سلطة الشعب ونتأكد من أنه سيتم انتخاب "حر" لحكومة مؤيدة للنخب والملكية والجيش.
في هذه الأثناء، يقوم المجرمون بقطع الشوارع العامة، والمراكز الثقافية، مع عدم الاقتراب من "المولات" التجارية. يصفونهم ب "المحتجين" في أوروبا والولايات المتحدة.
وهنا نأتي إلى لب الموضوع: تم إلباس الرعب الذي ينشره الجيش والإقطاع بلبوس التمرد، بل حتى الثورة. كما تم إسباغ الشرعية عليه، بل حتى مسحة من الرومانسية.
تطل الفاشية برأسها القبيح مرة أخرى. والغرب يدرك ذلك جيداً، وهو في الحقيقة يدعم النظام الذي فرض نفسه الآن بحكم الأمر الواقع والذي يحكم تايلندة الآن من خلف الستارة. لأنه النظام الذي ساعد الغربُ في تصنيعه.
من شروط الثورة تمتعها بإجماع وطني عام، أوشبه عام؛ أما التمرد فيعبر عادة عن مصالح وإيديولوجيات أحزاب معينة، أو مجموعات محددة إثنية، أو إقليمية، أو طائفية، إلخ. - المترجم |
* * *
غادرت بانكوك، وبينما كنت في الطائرة استمرت فكرة واحدة في الإلحاح علي: العديد من الأماكن التي كنت أكتب عنها مؤخراً تعيش واقعاً مشابهاً لتايلاندة.
المنتخبون ديمقراطياً، وأولئك التقدميون في جوهرهم، هذه الحكومات في كافة أنحاء العالم تتعرض لهجمات شرسة من قبل بعض العصابات المجرمة المسلحة، وقطاع الطرق، والعناصر المعادية للمجتمع، وحتى من قبل الإرهابيين.
رأيت ذلك بأم عيني على الحدود التركية- السورية. سمعت قصص العديد من السكان المحليين، في مدينة هاتاي التركية، وفي الأرياف المحاذية للحدود التركية- السورية.
هناك، تم توقيفي، ومنعي من العمل، واستجوابي من قبل الشرطة المحلية والجيش والعصابات الدينية، عندما كنت أحاول تصوير أحد "مخيمات اللاجئين" تلك التي بناها الناتو خصيصاً للمقاتلين السوريين الذين تم احتضانهم وتدريبهم وتسليحهم في تلك المنطقة.
كانت هاتاي تعج بالعناصر الجهادية السعودية والقطرية، الذين يتلقون الدعمَ اللوجستي الأمريكي والأوروبي والتركي، بالإضافة إلى الأسلحة والأموال.
الرعب الذي ينشره هؤلاء الأشخاص في هذا البقعة المسالمة والمتنوعة ثقافياً والمتسامحة من العالم لا يمكن وصفه بالكلمات.
وصف الأطفال المقيمون في القرية الحدودية الغارات واللصوصية والعنف وحتى القتل الذي كان يقوم به "المتمردون" المناوئون للأسد.
هنا، وفي اسطنبول حيث عملت مع بعض المثقفين التقدميين الأتراك، العاملين في الإعلام والمؤسسات الأكاديمية، شرحوا لي مراراً وتكراراً أن "المعارضة" المناهضة لسوريا قد تلقت التدريب والتمويل و "التشجيع" من قبل الغرب وتركيا (العضو في الناتو)، مما أدى إلى موت وتدمير الملايين في المنطقة كلها.
بينما أكتب هذه الكلمات، تعرض قناة "روسيا اليوم" الفضائية تقريراً حصرياً من مدينة درعا السورية، المدينة التي تعرضت للنهب والتدمير من قبل قوات "المعارضة" المؤيدة للقاعدة والغرب، بما في ذلك "الجيش السوري الحر".
هذه هي المدينة التي قيلَ، قبل شهر من الآن، أن أشخاصاً قد قتلوا فيها وتعرضوا للرجم وهم أحياء وحرقوا في البراميل وقطعت رؤوسهم.
عوضاً عن وقف الدعم ل "المعارضة" السورية العرقية والمتعصبة والمتوحشة، تستمر واشنطن في شيطنة حكومة الأسد وتهديدها مرة أخرى بالعمل العسكري.
* * *
وأولئك المجرمون، في البلدان التي انتخبت حكوماتها الوطنية أو التقدمية، يتم استئجارهم من قبل النخب المحلية بالنيابة عن الإمبراطورية الغربية.
وقبل ذلك، يتم استئجار ما يسمون "النخب" وتمويلهم، أو على الأقل تدريبهم/"تعليمهم" من قبل الغرب.
على مستوى "فكري"، تتنافس الوسائل الإعلامية بشراسة مع بعضها البعض على الخضوع للقوى الأجنبية. إن العسكر والقوى الإقطاعية، وحتى الفاشية، الأكثر رجعية في كافة أرجاء العالم (انظروا إلى أوكرانيا، على سبيل المثال) تعود الآن، حيث تستغل هذه الظاهرة وتفيد منها.
كل هذا يحدث بدرجات مختلفة وبمستويات متفاوتة من الوحشية، في تايلندة والصين ومصر وسوريا وأوكرانيا وفنزويلا وبوليفيا والبرازيل وزيمبابوي وأماكنَ أخرى في كافة أصقاع الأرض.
بعد قراءة مقالتي حول الوضع في تايلندة، المنشورة في 30 كانون الثاني/يناير، علق أحد قرائي البرازيليين بما يلي:
"على غرار بلدي البرازيل: ولكن في بيئة باهتة ... وأخف قليلاً ولكن بشكل مماثل ... تحاول النخب المحلية، الآن في شهر كانون الثاني/يناير 2014، بكل ما أوتيت من قوة منعَ إعادة انتخاب السيدة ديلما روسف ... أنت مراقب خبير لأمريكا اللاتينية، وأنت تعرف ذلك جيداً ..."
العملية، الآليات، هي نفسها في كل مرة تقريباً: الإعلام المأجور من قبل الغرب، أو الإعلام الغربي بشكل مباشر، يقوم بتشويه سمعة الحكومات الشعبية المستهدفة، ومن ثم يتم خلق "الفضائح"، ويتم تحديد الألوان لحركة "معارضة" مشكلة حديثاً، ومن ثم يأتي اختيار العصابات وتمويلها، وأخيراً تظهر الأسلحة الفتاكة "بشكل إعجازي" في "مواقع الاحتجاج".
طالما أن الحكومة "قومية"، ووطنية بحق، وتدافع عن مصالح شعبها ضد النهب العالمي، (على النقيض من حكومة آبي في اليابان التي يتم وصفها، بشكل غريب، على أنها "قومية"، لكنها في واقع الأمر تقف إلى جانب السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة)، يتم تعليمها، ثم تظهر على لائحة اغتيال قوية وغير مرئية، على الطراز المافيَوي القديم.
وكما وصف مايكل بارينتي بشكل صائب وظريف: "إما أن تطيع أوامرنا، أو نكسر ساقك. كبيتش؟"
شهدتُ إسقاط الجيش للرئيس المصري مرسي (كنت أنتقد حكمه في البداية، كما كنت أنتقد حكومة السيد شيناواترا قبل أن يجتاحَ الرعبُ الحقيقي مصرَ وتايلندة)، والذي قام – في فورته تلك – بقتل بضعة آلاف من المصريين الفقراء.
كنت عندها في مصر، أزورها بين الحين والآخر، لعدة أشهر، حيث كنت أصور فيلماً وثائقياً لشبكة التلفزيون الأمريكية الجنوبية "تيليسور".
بدهشة وخيبة أمل رأيت أصدقائي الثوريين يختبؤون عن الأنظار، ثم يختفون عن وجه الأرض. وقد حصل ذلك على وقع تهليل العائلات المتعجرفة للقتلة العسكريين بلا أي خجل، وعلى الملأ.
كان المنطق والآليات في مصر متوقعة: على الرغم من أنهم كانوا لايزالون رأسماليين وخاضعين – إلى درجة معينة – لصندوق النقد الدولي والغرب، إلا أن الرئيس مرسي وإخوانه المسلمين لم يكونوا متحمسين للتعاون مع الغرب. لم يقولا "لا" أبداً، لكن ذلك لم يبدُ كافياً للنظام الأوروبي- الشمال أمريكي الذي يريد اليوم الطاعة الكاملة وغير المشروطة بالإضافة إلى تقبيل الأيادي وأعضاءَ أخرى من الجسد. يطالب هذا النظام بطاعة على الطراز القديم وبالأسلوب البروتستانتي، مع إذلال للذات وشعور دائم بالذنب؛ فهو يطالب بالخنوع الحقيقي و "الصادق".
يبدو أنه ليس هناك أية حكومة، أية حكومة محبوبة، يمكنها أن تتجنبَ الإبادة، إن هي لم تخضع بشكل كامل.
وصل الأمر إلى درجة أنه إن لم تقم الحكومة، في بلدان نامية مثل الفليبين أو إندونيسيا أو أوغندة أو راوندة، بإرسال رسالة واضحة لواشنطن أو لندن أو باريس "أننا هنا ببساطة لكي نجعلكم، في الغرب، سعداءَ"، فإنها تجازف بالتعرض للتدمير، حتى لو كانت منتخبة ديمقراطياً، وحتى لو (في الحقيقة "وخاصة إذا") كانت مدعومة من غالبية الشعب.
لاشيء جديد في هذا بالطبع. ولكن في الماضي كانت الأمور تجري بشيء من السرية. أما في هذه الأيام فكل شيء يحدث في العلن. ربما بشكل متعمد، بحيث لا يتجرأ أحد على التمرد، أو حتى على الحلم.
وهكذا تم حرف الثورة في مصر عن مسارها، وتدميرها، وخنقها حتى الموت. لم يبق هناك أي شيء مما يسمى "الربيع العربي"، باستثناء تحذير واضح: "لاتحاولوا مرة أخرى، وإلا."
نعم، رأيتُ "النخب" المصرية ترقص وتحتفل بنصرها. النخب تحب الجيش. فالجيش يضمن استمرارهم في القمة، ويضمن سلطتهم. حتى أن النخب تحَمل أطفالها صورَ القادة العسكريين المسؤولين عن الانقلاب، المسؤولين عن آلاف الأرواح المزهوقة، المسؤولة عن تحطيم آمال وأحلام العالم العربي الكبيرة.
ما شهدته في مصر يبعث على القشعريرة، وهو شبيه بانقلاب 1973 في تشيلي (البلد الذي أعتبره "وطني الثاني أو الثالث")؛ الانقلاب الذي لا أذكره لصغر سني، لكنني رأيت أفلاماً مصورة عنه مرة بعد أخرى برعب صامت ودائم.
"وإلا" يمكن أن تعني تعذيب الناس وقتلهم في البحرين. "وإلا" يمكن أن تكون إندونيسيا في 1965/66. أو يمكن أن تكون "انهيار الاتحاد السوفييتي". "وإلا" يمكن أن تكون الطائرات المدنية وهي تنفجر في الجو؛ فقد تم تفجير طائرة كوبية من قبل عملاء "سي آي إيه". يمكن أن تكون العراق المدمر المنهوب، أو ليبيا أو أفغانستان أو فيتنام أو كمبوديا ولاوس، التي يتم قصفها وإعادتها إلى العصر الحجري. "وإلا" يمكن بسهولة بالغة أن تكون بلداً مخرباً بالكامل مثل نيكاراغوا أو بنما أو جمهورية الدومينيك. أو "وإلا" يمكن أن تعني قتل عشر ملايين من الناس في جمهورية الكونغو الديمقراطية، من أجل مواردها الطبيعية ومقابلَ المواقف المعادية للإمبريالية لقائدها العظيم باتريس لومومبا.
الآن في مصر، تعود عصابة مبارك بسرعة إلى السلطة. كان "شيطاناً" موثوقاً فيه، وسرعان ما أدرك الغرب أن مشاهدته وهو يسقط يمكن أن تكون خطأ استراتيجياً كبيراً؛ ولذلك تم اتخاذ القرار بإعادته؛ إما بشكل شخصي، أو على الأقل عن طريق تركته، مقابل آلاف أرواح المصريين (التافهة)، وضد إرادة البلد برمته تقريباً.
ولا يمكن أيضاً السماح بسقوط الجيش في مصر. فقد استثمر الغرب مليارات الدولارات فيه، والعسكر يسيطرون الآن على نصف البلاد. وهي منظمة موثوقة جداً: فهي تقتل دون أي وازع أخلاقي أي كائن يحاول بناء مجتمع قائم على العدالة الاجتماعية في هذا البلد العربي الكبير. كما أنها تلعب مع إسرائيل. وهي تحب الرأسمالية.
بلدان يبعدان آلاف الأميال عن بعضهما البعض، وينتميان إلى ثقافتين مختلفتين، متموقعان في قارتين اثنتين: تايلندة ومصر. في كلا البلدين، تكلم الشعب. صوتوا لقادتهم. لا نتحدث هنا عن حكومة شيوعية، انتبهوا؛ بل مجرد حكومة معتدلة مهتمة بالمجتمع في تايلندة، وحكومة معتدلة قومية/إسلامية في مصر.
في كلتا الحالتين، تحركت النخب الاقطاعية والفاشية على الفور. وأعتقد أنه من الواضح جداً من يقف وراءها، ويمولها، ويدعمها "أخلاقياً".
* * *
أوكرانيا ليست ضحية جديدة لآليات زعزعة الاستقرار التي يمارسها الاتحاد الأوروبي، الذي أصبح جشعاً إلى درجة مرضية بحيث لم يعد يستطيع ضبط نفسه. لعابه يسيل بغزارة وهو يتخيل الموارد الطبيعية الهائلة التي تمتلكها أوكرانيا. إنه يرتعش من الرغبة ويحلم بالأيدي العاملة الرخيصة والمتعلمة.
الشركات الأوروبية تريد الدخول إلى أوكرانيا بأي طريقة ممكنة. ولكن عليهم ألا يسمحوا للقطعان الأوكرانية بالدخول إلى تلك القلعة المقدسة والعرقية بشكل كامل: "الاتحاد الأوروبي". بوسع أوروبا أن تعمل تخريباً في كافة أنحاء العالم، لكنها متعصبة ووحشية مع كل من يريد أن يدخل و "يسرق وظائفها".
بالطبع ليس بمقدور أوروبا أن تفعل في أوكرانيا ما تفعله بحرية في العديد من الأماكن الأخرى مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية. لا يمكنها بهذه البساطة أن تأتي وتدفع لبعض البلدان الوكلاء، كما تدفع لراوندة وأوغندة (المسؤولتين سلفاً عن مقتل عشر ملايين إنساناً في أقلَ من عقدين)، لتخريب أوكرانيا وقتل معظم المقاومين فيها.
أثبتت أوروبا، مرة بعد مرة، وعلى مدى قرون، أنها قادرة على إبادة أمم بأكملها بلا أي رحمة، (ودون أن تظهر أي ذاكرة تاريخية) وبلا أي مبادئ أخلاقية تقريباً، على الأقل مقارنة ببقية العالم. لكنها محتالة بارعة، وعلى النقيض من الولايات المتحدة، تعرف الكثير عن التكتيكات والاستراتيجية والعلاقات العامة.
مافعله الاتحاد الأوروبي في ليبيا واضح. وأي شخص يعتقد أن الولايات المتحدة تتصرف لوحدها لا بد وأنه يعمي عينيه عن الارتباط الوثيق بين مصالح وأفعال المغتصبين القدامى والجدد لإفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط وأوقيانوسيا. عادت فرنسا الآن إلى لعب دور المجرم الكولونيالي الجديد الأكبر، وخاصة في إفريقيا.
ولكن "هاهي" أوكرانيا، "شلفة حجر"، قريبة جغرافياً من الاتحاد الأوروبي نفسه. لا بد من زعزعتها، ولكن يجب أن يبدو الأمر شرعياً للغاية. "التمرد"، "الثورة"، "الانتفاضة الشعبية"؛ هذه هي الطريقة للتعامل مع الأشياء "بالشكل المناسب".
منذ أكثر من شهر، تم اقتراح صفقة غريبة تدخل بموجبها الشركات الأوروبية وتنظف أوكرانيا من مواردها الطبيعية، ولكن لن يُسمحَ للشعب الأوكراني بالعمل في الاتحاد الأوروبي.
رفضت الحكومة، بشكل منطقي وعقلاني، هذه الصفقة. وبعد ذلك، وبشكل مفاجئ، ظهرت العصابات – على الطراز التايلندي أو المصري – في كافة شوارع كييف، مدججة بالعصي والأسلحة، وشرعت في تخريب العاصمة ومطالبة الحكومة المنتخبة ديمقراطياً بالاستقالة.
شملت مجموعات العصابات العديد من النازيين الجدد، والمعادين للسامية، والمجرمين العاديين. وقد شجعهم على ذلك خوف الحكومة الأوكرانية، على النمط التايلندي، من استخدام القوة. فراحوا يحرقون عناصر الشرطة، ويسدون مداخل المباني الحكومية ويحتلونها، ويمنعون الإدارة من تقديم الخدمات للناس.
على غرار أسلافهم "البرتقاليين"، تم تصنيعهم وتدريبهم بعناية قبل إطلاقهم إلى العالم الخارجي.
* * *
في أفريقيا، لنأتي على بعض الحالات فقط، تعرضت سيكيليس الصغيرة جداً – وهي بلد يتمتع بأعلى مؤشر تنمية بشرية – للنقد المتواصل ومحاولات الزعزعة. تقدم الحكومة عناية طبية ممتازة ومجانية تماماً، بالإضافة إلى التعليم المجاني. كما أن الحياة المعيشية والسكنية للشعب جيدة جداً. إنه بالتأكيد ليس مجتمعاً مثالياً لكنها، مع موريشس، الأفضل في القارة الأفريقية كلها. لكن هذا كله لاقيمة له.
تعمل الدعاية الخارجية، بالإضافة إلى الصحافة المعارضة المدعومة من بريطانيا، على تشويه سمعة النظام القائم.
يتساءل المرء عن السبب ثم، وبعد تفحص دقيق وفهمِ للإمبراطورية، سرعان ما تتضح الأشياء: كانت سيكيليس تتعاون مع كوبا وكوريا الجنوبية، في المجالات التعليمية وحقول أخرى. كانت "اشتراكية" جداً بالنسبة إلى الامبراطورية. وبالنسبة إلى أولئك المتقاعدين الباحثين عن الحياة الماجنة، من المقبول أن يحيط بهم اللون الأزرق، أو حتى البني، ولكن ليس الأحمر.
ربما تكون إريتريا، التي تسمى "كوبا الإفريقية"، بلداً فخوراً ومصمماً، ولكن تم تصنيفها كدولة مارقة من قبل معظم القوى الغربية. فقد خضعت للعقوبات وتمت معاقبتها لسنوات طويلة.
"نحاول أن نشرك الجميع، وأن نكون ديمقراطيين وعادلين"، قال لي مدير التعليم الإريتيري مؤخراً في كينيا. "ولكن كلما تراكمت إنجازاتنا، وكلما اهتمينا بشعبنا، كلما ازداد غضبُ البلدان الغربية."
كان رجلاً حكيماً، ولهذا السبب لم يبدُ متفاجئاً. كنا كلانا "نقارن ملاحظاتنا".
زيمبابوي حالة أخرى واضحة ومتطرفة. هناك، يدعم الغرب بشكل واضح "المعارضة" المناوئة للحكومة المحبوبة والمدعومة من قبل غالبية الشعب؛ حكومة النضال التحرري ضد الكولونيالية والإمبريالية.
بعد أن استفزتني الأكاذيب الشنيعة التي ينشرها الإعلام الجماهيري البريطاني بشكل خاص، قمت بزيارة زمبابوي السنة الفائتة، حيث عملت على دحض جميع نقاط هذه الدعاية، واحدة تلو الأخرى، والموجهة ضد هاراري. ليس هناك داع للقول إن تقريري، المنشور على موقع "كاونتربنتش"، أثارَ الاستياء من الدعاية الغربية في كافة أرجاء القارة الإفريقية.
يعمل الغرب على تغذية "التمردات" و "المعارضات" ضد فنزويلا وبوليفيا وكوبا والبرازيل والإكوادور، لنذكر بعض البلدان التي تحتل صدارة لائحة الاستهداف.
في فنزويلا، دعمت الولايات المتحدة انقلاباً تم إجهاضه، كما أنها تدفع بشكل مباشر للمئات من المنظمات، والمنظمات غير الحكومية، والوسائل الإعلامية، بهدف إسقاط العملية الثورية والحكومة.
وفي كوبا، طالما عانى شعب هذا البلد الفخور والإنساني لعقود طويلة. وطالما تحملوا ما يمكن تسميته بالإرهاب ضد بلدهم الجميل. عملت الولايات المتحدة والغرب على دعم الغزو والأعمال الإرهابية، وحتى محاولات التأثير في الأنماط المناخية وتوليد الجفاف المدمر. هذا كله إضافة إلى تسميم المحاصيل الزراعية.
أي "معارض" كوبي، أي مجرم يحمل السلاح ضد النظام الكوبي والحكومة، يتلقى على الفور التمويلَ والدعمَ من الولايات المتحدة.
وحتى الوسائل الإعلامية الغربية، التي تجري استفتاءات سرية في كوبا، غالباً ما تتوصل إلى النتيجة القائلة إن معظم المواطنين الكوبيين يدعمون النظام. لكن هذا يغضب الغربَ أكثر. يدفع الشعب الكوبي ثمناً باهظاً لحريتهم، لكرامتهم، ولاستقلالهم.
هناك أمثلة أخرى كثيرة عن كيفية بناء "المعارضة" والإرهاب ضد الحكومات "غير المرغوبة" (في نظر الغرب).
كاد البوليفيون أن يفقدوا مقاطعة سانتا كروز "البيضاء" اليمينية بسبب دعم، وربما تمويل، "الحركة الاستقلالية" هناك، بهدف معاقبة الحكومة الشعبية التي يرأسها إيفو موراليس لأنه اشتراكي جداً، ومحلي جداً، ومحبوب جداً. وفي استعراض للتضامن والعالمية هددت البرازيل بغزو وإنقاذ جارتها بهدف الحفاظ على وحدتها. وهكذا أنقذ وزن هذا العملاق المسالم والمحترم بوليفيا من الدمار المحتم.
ولكن الآن حتى البرازيل تتعرض لهجمات "صناع المعارضات"!
لاأريد أن أكتب التفصيل عن الصين هنا، في هذا التقرير. فالقراء يعرفون موقفي، ولكن بإيجاز شديد: كلما بنت الحكومة الشيوعية القطارات السريعة، والحدائق العامة، وآلات التمارين المجانية، وخطوط النقل العامة، والأرصفة العريضة، كلما حاولت تقديم العناية الطبية المجانية للجميع مرة أخرى، وكلما حاولت تقديم التعليم المجاني للجميع – كلما تعرضت للتشويه وقيل عنها إنها "أكثر رأسمالية من الدول الرأسمالية" (مع أن أكثر من 50% من إنتاج البلد في أيدي الحكومة).
وعلى غرار الصين وكوبا وفنزويلا، تتعرض روسيا للشيطنة بشكل مستمر، في كل يوم وفي كل ساعة. وأي أوليغاركي، أو أي شخصية شعبية معتوهة تتناول بالنقد حكومة الرئيس بوتين، سرعان ماتلقى التمجيد من قبل الولايات المتحدة وألمانيا والحكومات الغربية الأخرى إلى درجة التقديس.
والسبب في ذلك، بالتأكيد، ليس سجل حقوق الإنسان الروسي بل لأن روسيا‘ على غرار دول أمريكا اللاتينية والصين، تقف في وجه المحاولات الغربية لزعزعة وتدمير البلدان المستقلة التقدمية في كافة أنحاء العالم. كما يرجع ذلك إلى التأثير المتزايد للإعلام الروسي، وخاصة "روسيا اليوم" التي أصبحت الصوت الرئيسي في مواجهة الدعاية الغربية. ولاداع للقول إن كاتب هذه المقالة مرتبط بفخر بهذه المحطة والجهود التي تبذلها.
* * *
من المؤكد أن العالم يعيش الآن ما يمكن تسميته "الموجة الجديدة" لهجوم إمبريالي غربي. يُشن هذا الهجوم على كافة الجبهات، وهو في تسارع. فتحت زعامة الحائز على جائزة نوبل للسلام، باراك أوباما، وحلفائه من المحافظين الجدد الأوروبيين و "الاشتراكيين الفاشيين في جوهرهم"، إضافة إلى رئيس الوزراء الياباني المعاد انتخابه، يصبح العالم مكاناً في غاية الخطورة. يبدو مثل بلدة حدودية تتعرض للغزو من قبل عصابات مجرمة.
المفهوم الإنجيلي القائل "من ليس معي فهو ضدي" يكتسب بشكل متزايد عمقاً جديداً.
واحذروا من الألوان. احذروا من "الانتفاضات"، أو "الاحتجاجات" المناهضة للحكومات. أي منها حقيقي، وأي منها مصنَع من قبل الإمبريالية والكولونيالية الجديدة؟
يبدو الأمر مربكاً بالنسبة لغالبية الناس الذين يتغذون على ما يقدمه لهم الإعلام الرسمي المرتبط بالشركات العالمية. ومن المقرر أن يكون الأمر على هذه الشاكلة! فكلما ازداد الناس تشوشاً، كلما قلت قدريهم على التمرد ضد هذا القهر وهذه المخاطر المحدقة بهم.
ولكن في النهاية، وعلى الرغم من كل شيء، صوت الشعب التايلندي في الثاني من شباط/فبراير! تسلقوا المتاريس، وواجهوا أولئك الذين يحاولون إغلاق مراكز الاقتراع.
وفي أوكرانيا، لاتزال الأغلبية تدعم الحكومة.
ولم تسقط فنزويلا وكوبا.
ولم تتمكن العصابات الجهادية من السيطرة على سوريا بعد.
ولا تزال شعوب إرتريا وزمبابوي تقف خلف قياداتها.
الناس ليسوا قطيعاً. ففي العديد من بقاع العالم بدأ الناس يعرفون أعداءهم الحقيقيين.
عندما دعمت الولايات المتحدة الانقلابَ على تشافيز، رفض الجيش الانصياع، ومع أداء رجل أعمال مختار بعناية للقسم الرئاسي بدأ الجيش يحرك دباباته نحو كراكاس، دفاعاً عن القائد الشرعي المنتخب. وبقيت الثورة!
رحل تشافيز، ويقول البعض إنه سُمم، أنه حقن بالسرطان، أنه ضرب من الشمال. لا أعرف إن كان ذلك صحيحاً أم لا، ولكن قبل أن يرحل أخذت له الصور وقد بدا أصلعَ ومتعرقاً ويعاني من مرض لاشفاء منه، لكنه بدا مصمماً وفخوراً. كان يصرخ: "هنا لا يستسلم أحد!" وهذه الصورة، وهذه الرسالة ألهمَتا الملايين من الناس.
أذكر أنني، السنة الماضية في كراكاس، كنت أقف أمام لوحة كبيرة لوجهه، وهو يتلفظ بهذه الكلمات. شعرت أنني أريد أن أشكره وأعانقه لو استطعت، لوكان مايزال حياً. ليس لأنه كان كاملاً – لم يكن كذلك. ولكن لأن حياته وكلماته وأفعاله ألهمت الملايين، وسحبت أمماً بأكملها من لجة اليأس، من الكآبة والموت، من العبودية. هذا ماقرأته في وجهه: "يحاولون أن ينالوا منكم، لكنكم تقاتلون ... تسقطون، لكنكم تنهضون وتقاتلون ثانية. يحاولون أن يقتلوكم، لكنكم تقاتلون ... من أجل العدالة، من أجل بلادكم، ومن أجل عالم أفضل." لم يقل تشافيز هذه الكلمات بالطبع، لكن هذا ما شعرت به وأنا أنظر إلى صورته.
لكن معظم أمريكا الجنوبية كانت حرة ومتحدة ضد الإمبريالية الغربية، ومن الصعب هزيمتها. أجل، هنا لم يستسلم أحد!
الكثير من الشعوب الأخرى العالم لاتزال ضعيفة جداً ومقيدة.
يعمل الغرب باستمرار على تصنيع ومن ثم دعم القوى الاستبدادية، سواء كانت هذه القوى إقطاعية أو دينية. فكلما تعرض الناس للقمع، كلما عجزوا عن القتال من أجل العدالة ومن أجل حقوقهم. وكلما كانوا خائفين، كلما كان من السهل السيطرة عليهم.
الإقطاع، والقمع الديني، والدكتاتوريات اليمينية المتوحشة، كل هذه تخدم على أفضل وجه سوق الإمبراطورية الأصولي وهوسه بالهيمنة على الكوكب.
لكن ترتيب العالم بهذا الشكل غير طبيعي، ولذلك فهو مؤقت. الكائنات البشرية تواقة للعدالة، وفي جوهرها جنسٌ محترم وتشاركي. توصل ألبير كامو، في روايته القوية "الطاعون" (التي تشكل دعوة رمزية لمحاربة الفاشية)، إلى هذه النتيجة: "الكائنات الإنسانية تثير الإعجابَ أكثر مما تثير الاحتقار".
ما يفعله الغرب للعالم الآن، من إشعال النزاعات، ودعم اللصوصية والإرهاب، والتضحية بملايين البشر من أجل مصالحه الاقتصادية، ليس بشيء جديد. كل هذا اسمه: "الفاشية العادية". أتت الفاشية وهزمت في الماضي. وسوف تُهزم مرة أخرى. سوف تُهزم لأنها على خطأ، لأنها ضد التطور البشري الطبيعي، ولأن الناس في كافة أرجاء العالم بدؤوا يدركون أن البُنى الإقطاعية التي يحاول الغرب تأسيسها في العالم كله تنتمي إلى القرن الثامن عشر، وليس إلى هذا القرن، وهم ليسوا على استعداد لتقبُلها مرة ثانية.
http://www.counterpunch.org/2014/02/03/west-manufactures-opposition-movements/
تُرجم عن ("كاونتربنتش"، 3 شباط/فبراير 2014)
الجمل
إضافة تعليق جديد