ماذا حدث في سوق دوما (1 من 2)
الجمل ـ* ايريك دريستير ـ ترجمة رنده القاسم:
هجوم السادس عشر من آب 2015 على السوق في بلدة دوما السورية ، على أطراف العاصمة دمشق، أثار غضبا دوليا. و انصبت التهم على الحكومة السورية من قبل ما يبدو أنهم معنيون في هذا العالم، مع الإعلان عن مسؤولية الرئيس الأسد و الجيش السوري على الهجوم،و تجريمهم في محكمة الرأي الإعلامية.
من المثير للانتباه ، أن هذا الإعلان كان قبل القيام بأي تحقيق، و دون أي دليل ملموس عدا تأكيدات الناطقين باسم المتمردين و المصادر المعادية للحكومة. بالطبع كان هناك قلة مخجلة من الأسئلة الاستقصائية التي تم توجيهها مع اندفاع الهيئات الإعلامية ، و التي كانت أبعد ما يكون عن الحياد خلال السنوات الأربع و النصف الماضية، وراء الحقائق التي تلائم روايتها القديمة حول "الأسد السفاح".
كاتب هذه السطور يدرك تماما أنه مع توجيه أسئلة صعبة سوف يوصف بال "المدافع" أو "المروج للأسد" أو أي هراء مشابه، و بصراحة أي من هذه التسميات لا تعني شيئا مقارنه بعذابات الشعب السوري، و الوحشية غير المحدودة التي ستحل بهم إذا تمكنت الهيئات الإعلامية و مؤيدو الحرب من تحقيق تدخل امبريالي آخر باسم "الإنسانية".فالهدف هو طرح الأسئلة الصحيحة ، و إلقاء الشك على الرواية الدعائية التي ستستخدم بلا شك لتبرير المزيد من الحرب.
يجب تجهيز أولئك العاملين لأجل السلام من أجل البحث في الحقائق التي تقدمها الآلة الإعلامية ، و ذلك لمواجهة كل ما هو صعب، مع القيام بذلك بدافع العدالة فقط، فضحايا هذه الحرب ، في الماضي و المستقبل، لا يستحقون أقل من هذا.
مناقشة رواية دوما:
عند البحث بعناية في الأدلة الموثقة للهجوم، و مقارنتها بالادعاءات التي نشرتها وسائل الإعلام الغربية، سيبدو للعيان أمور شاذة مقلقة.
و لا يبدو أن الادعاءات مبالغ بها فقط ، فعند وضعها ضمن السياق التاريخي لهذه الحرب ستتوضح أيضا ملاءمتها لنموذج التشويه و التضليل المتبع لأجل أهداف سياسية، أكثر مما تفعل التقارير الحيادية. و بالطبع اللقطات الفجة التي أخذت للمشهد تناقض إلى حد كبير بعض الإدعاءات التي قدمها الشهود و النشطاء (و هو وصف مثير بحد ذاته) و التي تستشهد بها وسائل الإعلام غالبا.
أولا، هناك ادعاء بأن أكثر من مائة مدني قد قتلوا في ضربة جوية شنها الجيش السوري. و بالتأكيد هناك الكثير من الصور لدعم هذا الإدعاء مع وجود حطام مبعثر في كل مكان، و قيام عاملي الإغاثة بحمل الضحايا، و اندفاع المدنيين الهلعين حول ساحة السوق المدمرة . و لكن إذا نظر المرء إلى مقاطع الفيديو، بما فيها تلك التي قدمتها وسائل إعلامية مثل الغارديان ، فانه سيلحظ غياب شيء ، ألا و هو الجثث...
بالطبع يبدو غريبا شن ضربة تستطيع إزالة سوق مكتظ يوم الأحد و القضاء على أكثر من مائة شخص، و مع ذلك ما من مشاهد فيديو أو صور تظهر أجسادا ممزقة بالانفجار!! فمن المتوقع أن ترى جثثا مشوهة، أعضاء متناثرة على الأرض، بركا من الدماء...الخ. و لكن أي من هذا لم يظهر للعيان.
و لنقارن بين مشاهد دوما و بين تلك التي أتت من غزه في الثلاثين من تموز 2014 خلال الحرب الإسرائيلية الشرسة. إذ قامت ضربة جوية إسرائيلية بقتل خمسة عشر شخصا و جرح أكثر من مائة و خمسين آخرين، و قد ضربت أيضا سوقا مكتظا مسببة دمارا مروعا.و في مشاهد الفيديو المتعلقة بغزة كنت ترى جثثا دامية و أعضاء مبتورة و الكثير من الدماء في الشارع، و صورا أخرى رهيبة.
أو لنقارنها بمشاهد الفيديو في تفجير عيد الميلاد 2013 الذي طال أيضا سوقا مكتظا و لكن في بغداد. فمشاهد الفيديو لذاك الهجوم كانت شنيعة، تظهر ضحايا انفصلت رؤوسهم عن أجسادهم أو أرجلا لا تزال معلقة بأجسادها بما تبقى من الجلد ، و جثثا ميتة لأطفال و صورا أخرى مرعبة بكل معنى الكلمة.
كل هذه المشاهد كانت غائبة بشكل جلي عن صور الضربة الجوية التي طالت دوما. لماذا؟؟ اللقطات المتنوعة من المشهد، و المكررة عبر وسائل الإعلام المعادية للأسد و على وسائل إعلام التيار الرئيسي لا تظهر أي صور كهذه. و مشاهد الفيديو الأولية التي التقطت مباشرة بعد الهجوم لا تظهر أي جثث.
هناك لقطة تظهر جثثا، و لكن دون دليل على أنهم ضحايا الضربة الجوية. و من المثير للانتباه أن كل الضحايا الذين يظهرون في الفيديو ذكور بعمر الخدمة العسكرية، مع أن الهجوم كان على سوق مكتظ حيث يفترض وجود أطفال و نساء.و بالطبع في وسط الحرب يقتل محاربون يوميا ، و من المعقول جدا أن الجثث التي صورت كانت لمحاربين قتلوا بطريقة أخرى و ببساطة عرضوا أمام الكاميرا كما و لو أنهم ضحايا الضربة الجوية.
و للصدق، فان ساعات من البحث كانت لأجل فيديو واحد فقط، التقط بعد التفجير، و يظهر جثثا لعدد من الضحايا الذكور. و لكن، ما من علامات تشير إلى الموت بضربة جوية ، فالجثث كاملة و ما من أعضاء ناقصة ، و القليل من الدم(بعكس لقطات غزه و بغداد). و قد يكون الاستنتاج المنطقي بناءا على الدليل المتوفر هو أن الرجال في لقطات الفيديو ماتوا من انهيار بناء، ربما البناء المدمر الذي خلفهم.
و بينما يبدو من المستحيل أن تقول ماذا حدث بالضبط، فمن المؤكد أن ما من دليل محدد على ضربة جوية هي بمثابة "مجزرة متعمده" ، الحجة التي تبنتها وسائل الإعلام الغربية و نظراؤها في المنطقة الممولون من السعودية و قطر.
و فحص موضوعي للأدلة قد يؤدي إلى احتمال أن تكون الضربة الجوية موجهة ضد مبنى مجاور للسوق.و مع ذلك، خلال ساعات من الهجوم، كانت الرواية ،و التي يبدو أنها مجهزة مسبقا ، تقول أن : الأسد عاقب مدنيين أبرياء، في جريمة حرب واضحة.
هناك سؤال هام آخر يتطلب فحصا دقيقا و يتعلق بالضحايا أنفسهم. و بشكل طبيعي يجب عدم الاستخفاف بأي أحد يقتل أو يجرح في الحرب، و لكن في محاولة اكتشاف ما هو صح أو لا يجب أن يفحص المرء بدقة كل الأدلة. و قائمة الضحايا، و كذلك طريقة معاملة الجثث تطرح أسئلة أكثر من الأجوبة.
وفقا لقائمة أسماء الضحايا التي نشرت في اللغة العربية من قبل لجنة التنسيق في دوما، و هي مجموعة مؤيدة للمتمردين، كان هناك مائة و ضحيتين للضربة الجوية. و بعد الترجمة تبين أن القائمة تضم ثلاث نساء بين الضحايا المائة و الاثنين، و من السذاجة تصديق أنه في سوق مكتظ ، و بضربة جوية مزعومة لا تميز بين الجنسين، لا يكون سوى ثلاث نساء فقط بين الأموات.
كيف أمكن ذلك؟ يبدو على الأرجح ، و كما ذكر أعلاه، أن القائمة تضم أسماء مقاتلين ميتين ربما قتلوا في مكان آخر، في معركة مع الجيش السوري مثلا ، و قد أضيفت أسماؤهم ببساطة إلى القائمة من أجل دعم رواية "المجزرة في السوق".
علاوة على ذلك، سمعنا عن دفن الضحايا في قبور جماعية، و هو أمر آخر مثير للحيرة. و قالت رويتر في اليوم التالي للحادث:
"ليلة الأحد دفنت ستون جثة في قبرين جماعيين ، حسب قول المتحدث باسم قوة الدفاع المدني السوري في دوما، و هي خدمة الإغاثة العاملة في المناطق الواقعة تحت سيطرة المتمردين... كما دفن خمسة و ثلاثون آخرون يوم الاثنين، و كان عدد الوفيات فوق المائة...... و قال المتحدث البالغ من العمر ثمانية و عشرين عاما و الذي رفض ذكر اسمه لأسباب أمنية :" كان من الصعب حقا تحديد هوية الشهداء. فبعضهم كان محترقا حتى العظم، و بذلك لم يكن بالإمكان إضافتهم إلى القائمة الموثقة" ، و ذكر أيضا أن منزله دمر بالهجوم."
و بشكل طبيعي يثير الوصف الرمادي في المقال مشاعرا قوية و ردا عميقا. و لكن، هناك سؤال محير و هو: إذا كانت لجنة التنسيق في دوما قادرة على كتابة قائمة بكل أسماء الضحايا ، فلماذا دفن الكثيرون دون مراسم في قبور جماعية؟
و حتى لو افترضنا أن أرقام القتلى صحيحة، فإذا كان من الصعوبة بمكان تحديد هوية الجثث التي احترقت بشكل سيء، فانه لا يزال هناك من يمكن تحديد هوياتهم، و بالتالي من المفترض تسليم هذه الجثث لعائلاتها من أجل الدفن، و مع ذلك لم يتم ذلك، و لماذا؟؟؟
إن اللجوء إلى القبور الجماعية يشير إلى الرغبة في إخفاء سريع للجثث ، و يجب أن يتطرق أي تحقيق صادق في الحادث إلى مسألة استخدام القبور الجماعية بهدف إخفاء المعلومة الأساسية و هي : هوية المقتولين.
النظرية البديلة، و المدعومة من قبل الأدلة المتوفرة، تقول أن الجيش السوري قام بضربة جوية في دوما الواقعة تحت سيطرة المتمردين ، و أن الضربة استهدفت مبنى كان مأوى لمجموعة إرهابية, و هذا ما يفسر كون أغلبية الموتى من الرجال، و يفسر أيضا الحاجة للسرية في دفن الجثث و الهدف من الضربة العسكرية السورية.
و إضافة إلى ذلك، ليس مخفيا على أحد من الذي يعمل في دوما و لماذا يتم استهدافهم، كما ذكرت خلية التفكير Carnegie Endowment الأميركية المعنية بالسلام عام 2013:
"مدينة دوما كانت لمدة طويلة معقلا للتمرد، و العديد من الفرق المسلحة كانت ناشطة في المنطقة، و الكثير منهم ذي نزعات أصولية. لواء الإسلام التابع لعائلة علوش، أصبح مع الوقت أكثر نفوذا من الآخرين، لاسيما بعد إعلانه مسؤوليته عن هجوم الثامن عشر من تموز 2012 ضد مكتب الأمن القومي في دمشق ، و الذي أودى بحياة العديد من الشخصيات الأمنية السورية القيادية. و في آذار 2013 ، توحدت الفرق الأساسية في المنطقة ضمن كيان محلي تحت اسم مجلس مجاهدي دوما. و ضمت المجموعة الجديدة لواء الإسلام، لواء شهداء دوما، لواء أسود الغوطة، لواء ثوار الغوطة الشرقية، لواء أسود الله، لواء توحيد الإسلام، لواء الفاروق، لواء شباب الهدى، كتيبة السيف الأموي، كتيبة الشرطة العسكرية، كتيبة حماية النظام، و كتيبة الإشارة".
هذه المعلومات الأساسية ألغيت تماما من رواية الإعلام الغربي حول ما حدث في دوما، و لأسباب واضحة، و هي أنها تقوض كذبة أن قوات الأسد ترتكب مجزرة بحق مدنيين كعقاب جماعي.و عوضا عن ذلك تدعم تصريحات المتحدثين باسم الجيش السوري حول استهداف الجيش لعناصر إرهابية داخل المدينة، تماما كما فعل في وقائع سابقة. و هذه النقطة هامة جدا لأنها تشير إلى أن الحادث الأخير جزء من حرب دائرة مع فرق دوما المقاتلة ، حرب شهدت أعدادا لا تحصى من الصواريخ التي أطلقت على دمشق من دوما و ضواحي أخرى .....
*محلل جيوسياسي مستقل مقره في نيويورك
عن موقع The 4th Media الإلكتروني
الجمل
إضافة تعليق جديد