مانديلا في فيلم أسطوري:سيرة رجل صنع التغيير وحارب ثقافة الثأر
عشية الاحتفال ببلوغ نيلسون مانديلا التسعين من العمر، بدأ الممثل والمخرج الأمريكي كلينت ايستوود مطلع العام الماضي... تصوير فيلم يروي جانباً من السيرة الذاتية لهذا المناضل الجنوب أفريقي الذي قضى في السجن (27) عاماً، في صراع طويل لم يلن ضد نظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا.
الفيلم الذي يحمل عنوان: (Invictus) ويعني باللاتينية ( الذي لا يقهر) وضع للعرض في صالات السينما مؤخراً... وهو يقدم مانديلا بصورة تسعى لاستلهام روح الشخصية وجوهرها قبل أي شيء آخر... علماً بأنه ليس أول فيلم أمريكي يستلهم سيرة ' مانديلا'؛ فقد سبقه فيلم ( وداعا بافانا-Goodbye Bafana) الذي ركز على سنوات السجن الطويلة التي قضاها هذا المناضل الأفريقي، عبر حكاية سجين يسرد مذكراته التي يكون مانديلا محوراً رئيسياً وبطلاً فيها.
الفيلم الجديد، مقتبس عن سيرة روائية لمانديلا كتبها جون كارين بعنوان ( ملاعبة العدو)، وتم تحويلها إلى سيناريو سينمائي، بمتابعة من الممثل مورغان فريدمان، الذي طالما حلم بتجسيد سيرة حياة الزعيم الأفريقي... وهو ما نلمس أثره في طريقة تجسيد فريدمان لشخصية مانديلا في هذا الفيلم، الذي لا يركز على سنوات السجن الطويلة، التي جعلت من مانديلا أسطورة في التحرر الوطني، ومناهضة أعتى صنوف الشر الإنساني، ممثلة بنظام التمييز العنصري... بل هو ينطلق من حدث خروجه من سجنه في جزيرة روبن عام 1990، ثم انتخابه كأول رئيس أسود لجمهورية جنوب أفريقيا، بعد فوز حزبه ( المؤتمر الوطني الأفريقي) بأغلبية ساحقة في أول انتخابات متعددة الأعراق، بعد قرون من احتكار الأقلية البيضاء للحكم والثروة في البلاد.
تحويل الهامشي إلى جوهري!
الولوج إلى سيرة مانديلا في هذا الفيلم، يكاد يكون ولوجاً من الباب الخلفي... فالفيلم لا يركز على أعمال مانديلا الأساسية ولا على المهام والتحديات الكبيرة التي واجهته في بداية تسلمه للرئاسة، لكنه يختار قصة أو حدثاً يكاد يكون هامشياً في سلم اهتمامات رئيس دولة كبيرة عانت من صراع عنصري مرير... فالحدث الأساسي الذي ( يشتغل) عليه مانديلا في هذا الفيلم، هو حدث رياضي... يتعلق برياضة ( الركبي) التي تعتبر مع فريق ( سبرينغبوكس) من رموز القومية البيضاء في جنوب أفريقيا، ويرصد الفيلم وقائع نهائيات كأس العالم 1995 في رياضة الركبي، والمباراة النهائية التي أحرزت فيها جنوب أفريقيا النصر.
التحدي الأساسي الذي واجه مانديلا منذ البداية، كان تحسين مستوى فريق يعاني تراجعاً كبيراً، ويعيش مأزق الانتماء العرقي في زمن يحمل قيماً ومفاهيم جديدة، لا ترضي الجميع بالتأكيد... فأعضاء وكابتن الفريق يعيشون حالة توتر واشمئزاز وهم مطالبون بالتأقلم مع الحياة الجديدة... والأغلبية السوداء تكره هذا الفريق وما كان يمثله حتى تاريخ قريب إلى درجة أن معظم الحاضرين يصوتون في اجتماع رياضي على فكرة حل الفريق نهائياً!
هنا يسارع مانديلا إلى الوصول إلى مكان الاجتماع... يرتجل خطاباً إنسانياً بسيطاً وشفافاً يقوم على فكرة الصفح والمصالحة، يقول: (الماضي هو الماضي... لندر وجهنا إلى المستقبل) بعد أن ينتهي يطلب من الحاضرين السود الذين يوافقونه الرأي أن يرفعوا أيديهم... المفاجأة الحقيقية: لا أحد يرفع يده!
على هذا النحو يمضي الفيلم، عبر سرد سينمائي مليء بتفاصيل ومعطيات الصراع من جهة، وبرغبة مثالية في صنع مستقبل جديد من جهة أخرى. فمانديلا منذ البداية لا يعجب في سلوكه المتسامح أحداً... البيض يشكون في جدية نهجه المتسامح ويتعاملون معه بازدراء داخلي وريبة ظاهرة... والسود يعتبرون أن مانديلا يكافئ البيض ( بشكل أو بآخر) على ما ارتكبوه من فظائع في حقبة التمييز العنصري... وعبر هذا التناقض والتضاد ينسج الفيلم الدراما الخاصة به من صراع رغبات ومواقف وماض وحاضر ومستقبل في آن معاً... فالسود يعانون من وطأة الماضي البغيض، والبيض يرتابون في الحاضر، ومانديلا يريد أن يؤسس للمستقبل القائم على التعايش والتسامي على آلام وجراح الماضي، ونبذ ثقافة الثأر والانتقام.. إنه صراع تيارات ينتمي كل منها إلى زمن، ويدافع كل منها عن قيم زمن، ويخشى كل منها من ضياع مكاسب زمن!
دراما السلوك وفن الحياة!
يريد مانديلا باختصار أن يكون رئيساً لكل مواطني جنوب أفريقيا... ولهذا يختار بين حرسه الرئاسي الخاص، أربعة من الضباط البيض، إلى جانب زملائهم السود الذين يصدمون بوجود هؤلاء... لكن الصدمة سرعان ما تتحول إلى أمر واقع مشوب بالشك المتبادل، ثم إلى تعايش قائم على فكرة الإخلاص لهدف واحد، يبدو في الظاهر صغيراً ( حماية أمن الرئيس) لكنه في صورته الأعم والأشمل هو تعبير عن التأسيس لأمن وطن تشترك قومياته في حمايته معاً.
صورة نيسلون مانديلا التي يحاول هذا الفيلم أن يبنيها، ليست مشحونة بفكرة نبيلة فقط، لكنها موشاة بتفاصيل سلوكية آسرة أيضاً.. تفاصيل ترسم صورة حياتية لرجل عظيم، يحول البروتوكول الرئاسي من حوله، إلى شبكة علاقات بسيطة وشفافة، تكتنفها الكثير من الحميمية الملهمة لمشاعر الآخرين، ولشعورهم بالانتماء، وترسيخ قيم الوطن الجديد في وجداناتهم... ولهذا يصر مانديلا حين يقابل كابتن فريق الركبي (يؤدي دوره بتعبيرية عالية مات ديمون) أن يحضر له الشاي بنفسه، بعد أن يصرف الخادمة... ويتحدث له عن فترة الاعتقال التي أمضاها في زنزانة ضيقة طيلة 27 عاماً، حوّلها بإيمانه بالحرية إلى فضاء واسع، طالما تغنى فيه بقصيدة عن العزيمة والصبر وقوة الاحتمال... قصيدة يهديها لكابتن الفريق الأبيض الذي يخوض تحدي إعادة تأهيل الفريق والنهوض به... فلا يجد مانديلا ما يحدثه به ـ كي يدرك أهمية هذه المهمة- أفضل من الإلهام الذي يشحن البشر بالأمل ويغيرهم، ويبدل إسقاطاتهم المترسخة في الأذهان.
يخرج الكابتن مذهولاً... وفي مرآة هذا الذهول البليغ الذي يسيطر على تعابير ديمون منذ لقائه بمانديلا، نرى عظمة هذا الرجل، وفي رحلة تقصي السر يذهب الكابتن إلى الزنزانة التي قضى فيها الزعيم الأفريقي سنوات السجن الطويلة... وهناك يدرك الحقيقة التي لا تصدق: مانديلا يدافع اليوم عن أولئك الذين سجنوه في زنزانة ضيقة طيلة ما يقرب من ثلاثة عقود! ولعل ما بدا هامشياً في نظر أقرب المقربين إلى مانديلا، اتضح أنه أكثر ما استطاع أن يجمع الناس: إنها الرياضة... الرياضة المشحونة بالحلم بالنصر، وبمشاهد التآخي... التي تجعل بعض البيض الذين كانوا أثناء المباراة النهائية في كأس الركبي، يطردون فتى أسود كلما اقترب منهم في أحد الشوارع، يعانقونه بحرارة انفعالية أثناء نشوة النصر بتحقيق الهدف... مشهد يختزل ببلاغة ألف كلمة، ويعكس حرفية السيناريو الثري بالدلالات، وبالرغبة في التقاط جوهر الالتقاء الإنساني!
الهروب من الماضي!
من الواضح أن الفيلم تحاشى الحديث عن الماضي واستعادة صورة التمييز العنصري المؤلمة، التي كان يمكن أن تشحن المشاهد بمشاعر شتى، وباستثناء المشهد الافتتاحي لفريق من البيض يتدربون على لعبة الركبي في ملعب أنيق، مقابل فريق من الفتيان السود الذين يتدربون بثياب رثة وفي ملعب متواضع، فإن الفيلم لا يطيل النظر إلى الماضي... وكأنه لا يريد أن ينكأ جراح التمييز العنصري الغائرة في النفوس، وكأنه يريد أن يبحث عن نقطة التقاء وفرح تدغدغ المشاعر، وترسم مشاهد بصرية سهلة لمواكب الفرح بالفوز ببطولة الركبي وهي تقطع الشوارع بتآخ ٍ بين البيض والسود... لكن أياً تكن الدوافع والأهداف من وراء ذلك الخيار، فإن الفيلم ينجح في النهاية في أن يقدم سيرة ذاتية مختلفة، تختزل تاريخ شخص عظيم كمانديلا في فكرة مثالية عن الصفح والغفران وتجاوز آلام الماضي.. وهو يقدم ذلك كله ببناء درامي متين، وحوار مقتضب يميز مانديلا ( البطل الدرامي) فيعطيه قدراً من الجلال، ويضفي على أفعاله وسلوكه معنى البلاغة الدرامية، التي تقول عن صاحبها أضعاف ما تقوله الكلمات... وما تحتاجه الكلمات أيضاً.
( مورغان فريمان) يتغلغل في أداء شخصية مانديلا في نسيج الشخصية، في روحها، في شرطها البيئي والموضوعي، في عظمتها الإنسانية التي تجعلها قريبة من الآخرين في لحظات الدفء، ومتمايزة عنهم تمايزاً بالغاً في لحظات الإصرار على ترسيخ ثقافة التسامح. الصمت التأملي الذي يشغل العينين بالمعاني، ندوب الزمن القاسي التي تملأ الوجه، المشية المتعبة والمليئة بالأمل والإيمان... كل هذا يعكسه فريمان بمرآة صافية... بدا معها كما وصف نفسه: ( سيد روحه) وأمام فريمان، يتألق مات ديمون في أداء شخصية يمكن وصفها بأنها: ( ردة الفعل) فأهم مشاهد ديمون هي تلك التي يكتشف فيها بدهشة بالغة ما يفعله مانديلا... فيغدو أسيراً له، باحثاً عن سر فرادته، وفي عيني ديمون نقرأ الكثير عن مانديلا... وعن معنى ما يفعله من أجل المستقبل!
الأمل والإيمان!
إن فيلم ( إنفكتوس) يبقى نموذجا ناجحاً من أفلام السيرة الذاتية... قدم فيه مخرجه، كلينت ايستوود، دراما شخصية مشغولة بإيمان عميق، وتركيز شديد، ولغة كلاسيكية منضبطة تسعى لوضع الشخصية وأفعالها في سياق يقرأ دلالاتها الإيجابية، ويرى نبلها الإنساني.. وهو فيلم يحمل الكثير من الإيمان والأمل... الأمل بقدرة البشر على نبذ ثقافة الثأر والانتقام، وزرع الخير في بيئة يمكن أن تكون صالحة لأسوأ أنواع الشرور... عبر هندسة بالغة الثراء لصناعة التغيير... تلك الصناعة التي يقودها رجل بحجم نيلسون مانديلا وكفى!
محمد منصور
المصدر: القدس العربي
إضافة تعليق جديد