محمد الماغوط مازال حاضراً بيننا
محمد الماغوط: قبرك البطيء لن يبلغ الجنة أبداً
في مثل هذا اليوم، وضع النقطة النهائيّة لحياته، كأنّه يوقّع مقالته الأخيرة، ليدفن في معقل القرامطة عند تخوم الصحراء. جاء إلى مائدة الشعر جائعاً وغاضباً، قلب الطاولة على الجميع، ثم صفق الباب وراءه وخرج... ثلاثة دواوين جعلت منه الأب الشرعي لقصيدة النثر
قبل رحيله بأشهر، اختار محمد الماغوط (1934 ـ 2006) اسم «البدوي الأحمر» عنواناً لكتابه الأخير. الأرجح أن هذا العنوان يمثّل صورته الأخيرة. البدوي الذي وجد نفسه في الضوء، مرتبكاً في مصعد، فشعر بالذعر. وها هو يعود إلى زهده الأول وعزلته الاختيارية، بعدما عاف الشهرة وأضواءها، إذ انتهى إلى كائن ضجر بمباهج الحياة. سوداوي ومحزون. ذهب إلى بداوته الأولى متخفّفاً مما علق بها من أمجاد وخيبات وانكسارات وهزائم. حتى إنّه استعاد أصوات مغنّين شعبيين على الربابة لترافقه في أيامه الأخيرة، قبل أن يُدفن في مسقط رأسه السلمية، معقل القرامطة عند تخوم الصحراء. هكذا، اكتملت دائرة الحنين إلى «الدمعة التي ذرفها الرومان على أول أسير فك قيوده بأسنانه ومات حنيناً إليها». الماغوط ابن الحياة التي لا سقف لها، لأنّه ولد في العراء، وظل يحاول ستر عورته إلى آخر حروفه الهاربة من أقفاص اللغة، نحو الحرية وهي متلبّسة بالجريمة الكاملة.
قبل نصف قرن، جاء إلى مائدة الشعر جائعاً وغاضباً، قلب الطاولة على الجميع، ثم صفق الباب وراءه وخرج، مثل بدوي تائه في صحراء شاسعة، لا بوصلة تهديه إلى الطمأنينة. هكذا ظلّت قصيدته «خارج السرب»، وبعيداً عمّا عداها من مقترحات الحداثة. قصيدة رعوية تعمل على المحسوس بأقصى طاقة اللغة على احتمال الوجع الفردي والصراخ، وتنطق بحنجرة شاعر أتى من القاع والأزقة الخلفية من دون بلاغة. فهو يختزل علاقته بالتراث بإشارة دالة «عندي أغنية زياد وفيروز «كيفك إنت»، أهم من كل شعر البحتري».
لم يكن قد سمع برامبو أو بودلير، ولا بتنظيرات سوزان برنار حول قصيدة النثر. حين تسلّلت قصيدته مثل حصان طروادة إلى ذائقة القارئ العادي من دون جسور أو كمائن، وذلك لفرط بساطتها وخشونتها وغضبها وتمردها وعصيانها، ما أربك النقّاد في التعامل معها، فاضطروا إلى الاعتراف بها، واستثنائها من مقترحات قصيدة النثر العربية التي أنجزتها جماعة مجلة «شعر»... فكانت «التهاباً مزمناً في الحواس»، ينتقل من سلالة شعرية إلى أخرى. وهذا ما جعل الماغوط الأب الشرعي لقصيدة النثر من دون منازع. هكذا، تُوّج باكراً أميراً للتسكع والأرصفة. ألم يقل مرّة: «ليس لدي ما يربطني بهذه الأرض سوى الحذاء»، و«اختصاصي الوحيد هو الحرية»؟.
لغة نافرة، وصورة شعريّة مبتكرة، ونبرة مأساوية لمتشرد أصيل. من دون بيان شعري، اقتحم الجدران العالية ببلاغة مضادة. بلاغة الغجري وترحاله ونواحه ونزيفه: «اهربي أيتها الغيوم، فأرصفة الوطن، لم تعد جديرة حتى بالوحل».
في أوائل التسعينيات، التقيت الماغوط أول مرة. الصديق الذي رافقني لإجراء المقابلة، كان يدرك أنّ الماغوط سيرفض الإجابة عن أسئلتنا، لعلمنا المسبق بكراهيته للاستجواب و«السين ـ جيم»، لأنّه يذكّره بالتحقيق الأمني. وضعنا آلة التسجيل سرّاً تحت الطاولة وكنّا كلما سألناه عن أحد الشعراء الكبار، يجيب متهكّماً «لكنّه... ألم يمت في حرب الخليج؟».
في نهاية السهرة، اعترف صديقي بأنّنا سجّلنا الحديث على كاسيت، فما كان من الماغوط إلا أن صادر الشريط، وقال «إذا وافقت ابنتي شام على محتوياته، سأعيده لكما». بالطبع لم نستعد الشريط. وحين طالبناه بمقابلة صريحة، وعدنا «اتصلا حين يهطل المطر أول مرة»، لكنّ أمطاراً كثيرة هطلت، ولم تتم المقابلة أبداً.
خلال مرضه، كنت أزوره باستمرار وأسجّل أقواله في ذهني قبل أن أنقلها إلى الورق: أفكار عن الشعر والمسرح والسينما، وطفولته المعذّبة في السلمية، وقسوة والده، وذكرياته في سجن المزة، وتشرّده في بيروت.
لم يكتب صاحب «العصفور الأحدب» (1960)، مذكّراته، لفرط تبرّمه بالخلود الشخصي. حاولت إقناعه بإنجاز كتاب حوارات معه. تأجل المشروع مراراً بذريعة المرض والمزاج السوداوي، ثم طلبت أرشيفه الشخصي لإعداد كتاب عن حياته. في صيف 2001، أخبرني أنّه أنزل أرشيفه من السقيفة أخيراً، وكانت الغنيمة دسمة. رحتُ أرتّب مواد الأرشيف لترميمها بأسئلة تضيء جوانب خفية من حياته: مثل ذكرياته في سجن المزة أواخر الخمسينيات، وكيف كتب قصيدته الأولى «القتل» وراء القضبان على ورق سجائر لفّ، وعلاقته برفيقة دربه سنية صالح... دمشق ومقاهيها، ومجلّة «شعر» ويوسف الخال، وأنسي الحاج، وأدونيس.
اكتشفت خلال قراءة أرشيف حواراته، أنّ صاحب «الفرح ليس مهنتي» يكرر الإجابات نفسها، حتى إنّني كتبت معلّقاً في مقدّمة الكتاب، إنّه لا يغيّر أقواله، كما لو أنّه وقّع محضر شرطة في قضيّة اتهام. كأنّه يعيد الاعتراف بـ“جرائمه” مع سبق الإصرار! هكذا أنجزت «اغتصاب كان وأخواتها» (دار البلد ـ 2002)، وخلال الإعداد للكتاب، اتصل بي مرةً يدعوني لزيارته. يومها، ناولني ورقة صغيرة تحمل عبارات رقيقة وتوقيع سعاد حسني. أخبرني أنّها كتبت هذه الرسالة أثناء زيارتها له في أحد فنادق القاهرة. الأرجح أنّه فرح البدوي بما لديه من كنوز صغيرة على رغم شهرته، كأن تعترف نجمة بأهميته. وربما لهذا قال مرة: «لا توجد ثقافة في مصر... هناك سعاد حسني». يومها، أساء بعض المثقفين المصريين فهم هذا المجاز، فشنّوا عليه حملات متلاحقة. كان يعتني بإطلاق مانشيتات ساخنة، وقنابل دخانية من دون أن يهتم بحجم الدمار الذي ستخلّفه، ما أوقعه في ورطات كثيرة، لغويّة في المقام الأول. في أحد حواراته، قال: «أكره الضجر والشيوعيين». الواقع أنّه ليس للماغوط مواقف معلنة في كتاباته ضد الشيوعيين... لكنّ قوة المانشيت وطرافته قادته إلى قوله. ما يذكّر بحكايته مع القوميين السوريين، إذ يروي أنّه كان حائراً بين حزب البعث، والحزب القومي السوري، فاختار الثاني، لوجود مدفأة في مقر الحزب، وكان حينها معدماً وجائعاً تصطك أسنانه من البرد!
مرةً، شنّ حملة على عبد الوهاب البياتي لعدم اعترافه بشاعريته، فقال ساخراً إنّ البياتي يدّعي النضال السرّي ومطاردة الأنظمة العربية لأشعاره، في حين «لم يوقفه شرطي مرور في حياته»... على عكس ما كان يقوله عن بدر شاكر السيّاب. إذ كان يكنّ له موّدة خاصة، مذ تشردا معاً على أرصفة بيروت، وقد كتب عنه إحدى أجمل قصائده «أيها التعس في حياته وفي موته. قبرك البطيء كالسلحفاة لن يبلغ الجنة أبداً. الجنة للعدّائين وراكبي الدراجات». لعل هذه القصيدة تصلح لتكون مرثية للماغوط نفسه. فها هي الذكرى الثانية لرحيله تمرّ من دون تحية رسمية واحدة، أو وردة يلقيها عابر على قبره البعيد.
خليل صويلح
- المبدع في الشرق عموماً، قطّ جائع في حانوت للمعلّبات
- اتسخت اللغة من سوء الاستعمال، بل اغتُصبت وفقدت عذريتها على أيدي الدجاّلين من الخطباء والشعراء
- أنا بدوي أغنّي في أوركسترا الصحراء
- جميع الحقوق محفوظة ويكفلها القانون. قانون الطوارئ طبعاً
- محاصر بين تيار العولمة وتيار الأصولية، فكيف أوفِّق بين الاثنين؟ هل أصلّي على الإنترنت؟
- الطغاة كالأرقام القياسية، لا بد من أن تتحطّم في يوم من الأيام
- أخذوا سيفي كمحارب، وقلمي كشاعر، وريشتي كرسّام، وقيثارتي كغجري، وأعادوا إليّ كل شيء وأنا في الطريق إلى المقبرة. ماذا أقول لهم أكثر مما يقوله الكمان للعاصفة؟
محمد الماغوط
سيرة:
ثلاثة دواوين «حزن في ضوء القمر» (1959)، «غرفة بملايين الجدران» (1960) و«الفرح ليس مهنتي» (1970)، وضعت محمد الماغوط في مقدمة شعراء قصيدة النثر، وظل حتى اليوم «كولومبوس» قارة الشعر الجديد. ولد عام 1934 في السلمية، محافظة حماه. درس في كلية الزراعة، لكنّه سرعان ما تركها مفضّلاًً «الحشرات البشرية». في 1955، أودع سجن المزّة لانتمائه إلى الحزب القومي السوري الاجتماعي، فكتب مذكّراته على لفائف السجائر. لدى خروجه، ذهب إلى بيروت، أيام عز مجلّة «شعر»، فصار من فرسانها.
تزوّج الشاعرة سنية صالح التي فجع بوفاتها عام 1985. وكان دوماً يردّد «بدأتُ وحيداً وانتهيت وحيداً». نال جوائز عدة، أبرزها العويس (2004 ـــ 2005). صمت شعرياً في وقت مبكر، لكنّه واصل الكتابة للمسرح والسينما («الحدود»، «التقرير») بالاشتراك مع دريد لحام. وبقي يكتب مقالات غاضبة عصيّة على التصنيف، جمعها عند «دار الريّس» في «سأخون وطني» (1987)، و«سيّاف الزهور» (2001)، و«شرق عدن غرب الله» (2004) و«البدوي الأحمر» (2006). أعماله الشعريّة والمسرحيّة نشرتها «دار العودة» في بيروت، وأعادت طباعتها «دار المدى» في دمشق أواخر التسعينيات. رحل في 3 نيسان (أبريل) 2006، مختزلاً تجربته كالآتي: «ثمة لا أبدية رافقتني وسترافقني دائماً».
شاعر بلا أسلاف... وبورثة كثيرين
بعد مجموعات ثلاث، بدا أنّ الماغوط أنهى شغله مع الشعر. لم ستغرق ذلك منه سوى عشر سنوات تقريباً. ضرب الرجل «ضربته»، وعاد إلى ركنه كملاكم فاز بالمباراة بالضربة القاضية، في الجولة لثالثة. بعد ذلك جرّب مراراً أن يعود فلم يزد شيئاً. كان الجميع متفقاً على أنّ تجربة الماغوط صارت وراءه! باتت عودته إلى الشعر أشبه بالشائعات، وكان يكتفي كلّ مرّة بالترنّح بين ظلال نبرته القديمة، وعنف المقال السياسي الهجائي الذي كتبه في منابر عدة.
كتب الماغوط قصيدته دفعةً واحدةً، حارة وخشنة ولاذعة وغير مروّضة، وغير مكترثة بشروط أو شكليات مسبقة. كانت مكتوبة بطاقة القهر والخوف والفقر والضعف والغضب العادي. ظهر الماغوط ناضجاً ومكتملاً، بادئاً من نفسه ومنتهياً بها. شعر الماغوط، بهذا المعنى، أشبه بمعجزة، ولو أنه لم يكتب سوى مجموعته الأولى، لكان ذلك كافياً. لعلنا لا نعرف شاعراً غيره هو ابن نفسه تقريباً. سليل نبرته وفطرته وبدائيته. لا صنعة ولا تقنيات ولا تناصّ ولا مرجعيات في هذا الشعر. لا نجد أسلافاً ولا شعراء آخرين ولا وصايا نقاد في شعره. لعل الماغوط ليس مديناً سوى لفرديته، وغريزته، وتسكّعه الأسطوري بين الشارع والسجن والمقهى والحانة، ومعاملة المدن القاسية لريفيته البريئة. ولهذا، على الأرجح، كان صعباً على الشاعر مواصلة كتابة قصيدة هي إلى هذا الحد خشنة وضارية وبلا رحمة. كان صعباً أن تُضاف فروع وأوراق جديدة إلى ذلك «النبت الشيطاني» البدائي والفريد. كتب الماغوط قصيدته وتركنا حائرين أمام نضارتها الغريبة. قصيدته لم تكن مدينةً لأحد، ثمّ صار لها ديونٌ في أعناق شعراء لا يكفّون عن التكاثر.
حسين بن حمزة
مسرح الفوضى والصراخ الخافت
محمد الماغوط ليس كاتباً مسرحيّاً، لكن المسرح يحبّه. كان يصنع مسرحاً من كلّ شيء. من الكلمات أوّلاً وأخيراً. المرارة الضاحكة التي تنضح من قصائده، حملها معه إلى المقالة والمسرحيّة. كان صاحب «العصفور الأحدب» في حاجة ماسّة إلى تفريغ نقمته على العالم، وتعرية معاصريه، ونكء جراحهم، ووضع الوطن في قمامة كما فعل في «المارسييز العربي»، تلك المحطة المضيئة في سبعينيات بيروت التي تغيب عند ذكر مسرح محمد الماغوط.
«مسرح» الماغوط؟ كل شيء عند الماغوط كان قابلاً للمسرحة. من الشعر طبعاً، إلى المقالة الصحافيّة والتعليق السياسي المباشر الذي سرعان ما ينعطف تحت قلمه ليأحذ منحىً آخر. كان قد وقّع عقداً خفيّاً مع لغة الحياة، وصنع أدباً من الشعارات السياسية، والأوجاع القوميّة، والتصريحات الصحافيّة. إنّه مسرح ديكوره مفردات أشبه بثمار وحشيّة، يرصفها الشاعر ويدمجها في كيمياء خاصة. هكذا مارس إغراءً مدهشاً على المخرجين. المسرحي المغربي عبد الواحد عوزري، جمع ـ أواسط الثمانينيات ـ مقالات صحافيّة لصاحب «المهرّج» وقولبها في احتفال مشهدي، «ماغوطي» بامتياز. فكانت «حكايات بلا حدود» من بطولة ثريا جبران (وزيرة الثقافة الحالية في المغرب). أما نصوص «سأخون وطني» (دار الريّس)، فقدّمت في أكثر من قراءة مشهديّة. اقتبس عنها وائل رمضان مسرحيّة «لشو الحكي» في دمشق قبل سنوات، ومثله فعل طاهر نجيب في الناصرة «نعم سأخون وطني»، ثم صارت في فلسطين أيضاً «هبوط اضطراري» مع عماد جبارين... ووصلت تلك النصوص إلى يافا، حيث تجسّدت مع «مسرح السرايا العربي» في «سيّداتي، سادتي» من إخراج أديب جهشان. وهذه الأيام بالذات تعرض، في فلسطين الـ٤٨، مسرحيّة «وجبة هجاء مع محمد الماغوط». العمل من إخراج مسعود حمدان (مسرح «النقاب» في عسيفا) الذي قام بعمليّة توليف لكتابات نثريّة وشعريّة مختلفة للشاعر الراحل. حول عامود فقري مستوحى من سيرة الماغوط الذاتيّة. تحيّة غير مباشرة للماغوط الذي اعتمد غالباً على المونتاج والكولاج لخلق مواجهات بين الحاضر (المنحطّ والمأزوم)، وشخصيات الأدب والتاريخ، من عطيل أو هارون الرشيد إلى صقر قريش.
نتوقف كثيراً عند مسرحيّاته الأدبيّة، «العصفور الأحدب» (1960) و«المهرج» (1960) التي قدّمتها لينا أبيض، العام الماضي، في بيروت. و«خارج السرب» (1999) التي أخرجها جهاد سعد في دمشق، وننسى النصوص التي كتبها ـ بالعاميّة ـ لدريد لحّام، ولم ينشر حتى اليوم: «ضيعة تشرين» (1973)، «غربة» (1976)، «كاسك يا وطن» (1979)... علماً بأنّها تحتوي على كل عالم الماغوط بغنائيّته وسخريته ونقمته.
مسرح الماغوط؟ مسرح فانتازيا وأفكار وشخصيات مسطّحة، تحمل شحنة رمزيّة بعيداً عن أي همّ درامي. كوميديا سوداء متواصلة، أسندَ بطولتها إلى الكلمات. مرافعات عابثة تنضح سخرية وغضباً . ألم يعترف يوماً بأن مسرحه ليس فيه «سوى الصراخ والفوضى»؟ ربّما علينا أن نضيف: الصراخ الخافت!
بيار أبي صعب
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد