محمد عبد الكريم ..أمير حوّل البزق إلى شيطان
يتفق جميع الموسيقيين والنقاد على أن البزق لم يشهد أيام عز كالتي شهدها بين يدي أميره محمد عبد الكريم، حكاية طويلة قصها ذلك العازف القصير القامة، دوّنها بنَفَس العمالقة، فأبدع عازفاً ومؤلفاً وملحناً ومطوراً لآلته. كان أحد الأمراء الثلاثة (أمير الشعر: أحمد شوقي، أمير الكمان: سامي الشوا، أمير البزق: محمد عبد الكريم).
ففي حي الخضر الشعبي في حمص بدأت القصة، كان والده علي مرعي من أمهر عازفي العود والبزق، tكان بابه الأول إلى عالم النغم، وعندما توفي الأب عام 1913، تولى أخوه مهمة الوالد، فألحقه بمدرسة ابتدائية في «باب السباع»، ونذر نفسه لتعليمه العزف على البزق حتى برع فيه، فشكلا ثنائياً موسيقياً (عود بزق) نال قسطاً كبيراً من الشهرة في حمص.
في الرابعة عشرة من عمره، أصيب إصابة بليغة في ظهره إثر حادث عنيف، سبب له عاهة دائمة، احدودب ظهره نتيجة لها، وتوقف نمو جذعه، ومنذ ذلك التاريخ هجر المدرسة واهتم بالعزف على البزق اهتماماً خاصاً حتى غدا عازفاً لا يجارى، وغدت سهرات أهل الطرب في حمص وأفراح بيوتاتها لا تستقيم إلا بعزفه الخلاق.
وكما ذكر الباحث الموسيقي «صميم الشريف» فإن حمص لم تكن حلم «عبد الكريم»، فطموحاته غدت بعد أن أصبح يجيد العزف على العود وعلى «النشأة كار» ـ العود الصغير ـ لا تتسع لها مدينة حمص، فرحل إلى حلب ليذهلها بعزفه ثم إلى دمشق التي انحنت له صاغرة وأطلقت عليه لقب «أمير البزق» ليغلب هذا اللقب حتى على اسمه.
في العاشرة من عمره انتقل محمد عبد الكريم إلى دمشق مع والدته، وهناك تعرف إليه فخري البارودي الذي قدمه للمجتمع الدمشقي، وبسرعة استطاع أن يفرض نفسه عازفاً متميزاً على البزق، بداية نشاطه كانت مع فنان خيال الظل (أبو شاكر) الذي كان يقدم عروضه في مقهى النوفرة، وكان محمد عبد الكريم يرافقه في العزف على البزق، ثم بدأ يعزف ضمن فرق دمشق الموسيقية، وانطلق يقيم الحفلات الموسيقية على آلته، وخلال ذلك أخذ ينهل من المعارف الموسيقية العربية والغربية.
أولى رحلاته كانت إلى حلب أقام فيها العديد من الحفلات، وبدأ فيها أولى خطوات التلحين، حين لحن أغنيته (ليه الدلال وأنت حبيبي) وغناها بصوته، وخلال زيارته إلى حلب تعرف على الموسيقي «كميل شامبير» الذي دعاه إلى القاهرة.
عام 1925 زار القاهرة ودامت زيارته سنتين حيث تعرف على أقطاب الموسيقى فيها مثل محمد القصبجي وزكريا أحمد وداوود حسني ومحمد عبد الوهاب، وأحيا العديد من الحفلات، وعرض عليه (ليتوباروخ) وكيل شركة أوديون الألمانية للاسطوانات السفر إلى ألمانيا لتسجيل عدة اسطوانات.
وفي عام 1927 سافر إلى ألمانيا بادئاً جولة أوروبية، فأحيى فيها العديد من الحفلات، كما سجل لشركة أوديون خمس اسطوانات تضمنت مجموعة من المقطوعات الموسيقية والارتجالات. ومن ألمانيا اتجه إلى فرنسا حيث أحيا العديد من الحفلات نال فيها إعجاب الفرنسيين قبل العرب. وفي إيطاليا انتزع إعجاب الايطاليين خاصة عندما عزف على بزقه لحنين شعبيين لمدينة نابولي .
وبعد عودته من أوروبا تنقل بين المدن السورية ليقيم الحفلات، كما زار بيروت والتقى فيها عازف البزق اللبناني محيي الدين بعيون أشهر عازفي البزق في الوطن العربي آنذاك، والذي أبدى إعجابه بأمير البزق.
إذاعة القدس
وفي مطلع الثلاثينيات سافر محمد عبد الكريم إلى القدس، وتعرف الى كبار الموسيقيين الفلسطينيين مثل يوسف بتروني ويحيى السعودي وروحي خماش ومحمد غازي، لكن زيارته الأهم إلى فلسطين كانت عام 1936 لحضور افتتاح إذاعة القدس، حيث عمل عازفاً ضمن فرقتها الموسيقية، ثم تولى رئاستها، وخلال وجوده في القدس لحن للعديد من المطربين الفلسطينيين مثل فهد نجار وماري عكاوي ومحمد غازي، وعند افتتاح إذاعة الشرق الأدنى في يافا حضر افتتاحها ووضع لها شارتها الموسيقية، كما شكل فرقتها الموسيقية وتولى رئاستها.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، سافر أمير البزق إلى لندن لإحياء بعض الحفلات وتسجيل بعض الاسطوانات، ومن لندن عاد إلى القدس ليتعلم التدوين الموسيقي على يد يوسف بتروني، كما وضع ألحاناً جديدة لمحمد غازي وماري عكاوي ليعود بعدها إلى دمشق ويمارس نشاطه الموسيقي في نادي دمشق الموسيقي، وفي إذاعة دمشق المحلية وعند جلاء المستعمر الفرنسي عن سورية. كان محمد عبد الكريم من أوائل الذين شاركوا في احتفالات الجلاء في سورية، وعند افتتاح إذاعة دمشق الوطنية وضع شارتها الموسيقية وعمل ضمن فرقتها الموسيقية، وتابع إبداعاته الموسيقية في مجال التلحين والتأليف الموسيقي.
طور بالبزق وجدد بعقد البزق وأضاف إليه (زندّ ودساستين) وغيّر الطاسة وصنعها من خشب (موندرين) وزاد وترين على البزق ووضع بالقرار وتراً إضافياً ( الأول: قرار والثاني: جواب). أما رباطي زند البزق فقد كان عددها (18) رباطاً وجعلها (38) للتنوع في النغم. وقد كانت معظم آلات البزق سابقاً من صنعه وهكذا كما يقولون زاد في الطنبور نغماً.
له لحن بل مقام خاص به مسجل باسمه باسم (مريومة).
ويعتبر من المساهمين بتأسيس إذاعات كل من (دمشق القدس الشرق الأدنى) هذا ويعتبر من أسرع عازفي البزق بالعالم، حيث سبق له وتنافس مع العازف التركي الشهير والسريع جداً (شنشلار) وتفوق عليه .
تعتبر معزوفة محمد عبد الكريم (رقصة الشيطان) من أصعب وأسرع المعزوفات على البزق، لذلك لقب بألقاب كثيرة منها (شيطان البزق باغنيني البزق أمير البزق ملك البزق ... الخ)
كذلك كان الأمير من المعجبين والمحبين للموسيقى الغربية (الموسيقى الكلاسيكية موسيقى الباليه موسيقى الجاز موسيقى الحجرة). وأعجبه من الموسيقيين السوريين (علي الدرويش سامي الشوا - توفيق صباغ جميل عويس نجيب السراج عبد الفتاح سكر).
لحن الكثير من الأغنيات من مشاهير المطربين والمطربات أمثال: سعاد محمد صالح عبد الحي ماري مكاوي فهد نجار فايزة أحمد بأشهر أغانيها يا جارتي ليلى نجاح سلام وأغنيتها الجميلة رقة حسنك وجمالك.. وغيرهم .
موهبة عظيمة
موسيقيون ومطربون ومطربات كبار عايشوا براعته الموسيقية فتحدثوا عن «عبد الكريم» وعلى رأسهم موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب الذي قال: «إذا كانت الموسيقى الغربية تفتخر بـ«باغانيني» كأشهر عازف كمان، فالموسيقا الشرقية تفتخر بمحمد عبد الكريم كأشهر عازف بزق».
«أنت موهبة عظيمة يا سلام يا أمير» (أم كلثوم)
«إنك من فلتات الطبيعة» (عباس محمود العقاد)
«أسمع الأنغام الصحيحة التي ليس فيها زيف» (أحمد شوقي)
«قال لي أحد العازفين: انتبه فالأستاذ محمد لا يعلمك اللحن فقط، بل يعلمك كيف تغني، ولم أكن أدرك يومها ذلك إلى أن كبرت» (صباح فخري).
«أمير البزق، نغم حائر ولحن متميز، هل هو معجزة أم أسطورة؟ أم هرم من الأهرامات الفنية الكبيرة؟ أم عبقري أم فيلسوف أم عملاق؟ إنه مزيج من كل هذه الاستفهامات» - (المطرب الراحل نجيب السراج)
مفارقات عديدة شكلت نكهة مميزة لمسيرة الأمير لما يتمتع به من روح الدعابة وسرعة البديهة وحب التحدي، ولربما كان أبرزها ما حدث في أمسية موسيقية أقامها على أحد مسارح لندن، ففي لحظة ظهوره على الخشبة استقبله الجمهور هناك بالضحك والاستهزاء نظرا إلى قصر قامته وضعف بنيته فما كان منه إلا أن خلع حذاءه وأخذ يعزف بأصابع قدمه على البزق، حينها عزف مقطوعة من التراث الموسيقي البريطاني، وفي بعض المصادر قيل إنه عزف النشيد الوطني البريطاني، فتحول موقف الجمهور بعدها للذهول والإعجاب والتصفيق.
ولا تخلو قصة لقبه من المفارقة حيث استمع الملك فيصل (ملك العراق آنذاك) إلى عزفه في حفلة، فأعجب به، ووصفه بأنه أمير العزف على آلة البزق. فطلب منه محمد عبد الكريم (فرماناً) يشير إلى ذلك، فأصدر فيصل أمرا ملكياً بتسمية محمد عبد الكريم أميراً لآلة البزق. ولا تزال هذه الصفة ترافق اسمه حتى اليوم.
ولعل غرابة ردود أفعاله في بعض المواقف أصبحت إحدى سمات شخصيته المميزة، ما جعل أصدقاءه متلهفين دائما لالتقاطها وتدوينها وروايتها، ففي ذات ليلة، وبينما كان الأمير في إحدى السهرات، تناهى إلى سمعه صوت نهيق لحمار، فاهتم به كثيراً، وصمتَ صاغياً، إلى أن انتهى الحمار من نهيقه، عندها رفع محمد عبد الكريم رأسه وقال: «لقد كانت القفلة نشازاً».
الرحيل الحزين:
في غرفة متواضعة في حي عين الكرش بدمشق قضى قسطاً كبيراً من حياته، فشهدت هذه الغرفة الكثير من إبداعاته والكثير من حزن الأمير الفقير المعدم الذي قدم للحياة كل ما يملك من فن.. فلم تقدم له أكثر من الألم، قاسمه مرض السرطان عامه الأخير، وأجبره على الرحيل عام 1989، ولم يرافق جسده المسجى إلى مقبرة الدحداح بدمشق إلا عدد قليل من المشيعين، فكانت الخاتمة التي لم يستحقها أمير مثله.
عبد الله القصير
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد