مستقبل السياسات الروسية الخارجية: إلى أين؟

الجمل: بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك الكتلة الشرقية برز مفهوم "ما بعد الاتحاد السوفيتي" كأساس لخلفية سياسة موسكو الخارجية، والآن، وبعد حوالي عشرين عاماً، يقول الخبراء أن مفهوم روسيا في السياسة الخارجية بدأ يطغى أكثر فأكثر لجهة الإحلال محل مفهوم ما بعد الاتحاد السوفيتي فما هي دلالات وتداعيات ذلك؟
* ماذا تقول المعلومات حول السياسة الخارجية الروسية الجديدة؟
برز مفهوم "روسيّة" سياسة موسكو الخارجية كمفهوم جديد صاغته نتائج الحرب الجورجية – الروسية ويمكن الإشارة إلى ذلك ضمن المعطيات والنقاط الآتية:
• اندلعت في الجمهوريات التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي ما أطلقت عليه تسمية الثورات الملونة التي أدت إلى صعود القوى السياسية الموالية لمحور واشنطن – تل أبيب وعلى وجه الخصوص في جورجيا (الثورة الزهرية) وأوكرانيا (الثورة البرتقالية) وغيرها، ولكن لاحقاً تآكل نفوذ قوى الثورات الملونة وحالياً تشهد كل من جورجيا وأوكرانيا كيرغيزستان صراعاً داخلياً بدءاً فيه حلفاء واشنطن أكثر ضعفاً في مواجهة قوة حلفاء موسكو المتزايدة.
• أدت نتائج الحرب الجورجية – الروسية إلى بروز موسكو كلاعب رئيسي في دول الجوار الروسي.
• برزت تركيا وإيران في دور اللاعبين الإقليميين القادرين على المناورة وبناء التحالفات والتأثير على تطورات الأحداث والوقائع في الجمهوريات التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي.
• برز دور الاتحاد الأوروبي الساعي إلى توظيف ملفات الجمهوريات المستقلة في محاولة القيام بدور الطرف الثالث المستقل عن نفوذ واشنطن.
على هذه الخلفية، أصبحت الجمهوريات المستقلة عن الاتحاد السوفيتي تلعب دوراً مؤثراً في الاعتبارات المتعلقة بمعادلات توازن القوى بين أطراف الصراع الدولي.
* السياسة الخارجية الروسية في المرحلة القادمة: إلى أين؟
تحليل الأداء السلوكي للسياسة الخارجية الروسية في مرحلة ما  بعد الحرب الجورجية – الروسية يشير إلى الآتي:
• اعتماد مذهبية الصراع اللامتماثل في مواجهة المخاطر ومن أبرز المؤشرات على ذلك أن روسيا تستخدم نفوذ القوة النفطية كعامل رئيسي في الصراع ضد نفوذ القوة العسكرية وبكلمات أخرى، فقد سعت واشنطن إلى نشر قواعدها العسكرية في دول الجوار الروسي، وبالمقابل سعت موسكو إلى تخيير جيرانها بين الحصول على المزايا النفطية الروسية مقابل عدم الدخول في اتفاقات عسكرية مع أمريكا أو مواجهة الحرمان من هذه المزايا في حال الدخول في الترتيبات العسكرية الأمريكية.
• أثبتت القوة النفطية الروسية فعاليتها في مواجهة قوة أمريكا العسكرية وتمثلت البراهين على ذلك في قيام دول آسيا الوسطى بالتخلي عن الاتفاقات العسكرية مع واشنطن وما قيام كيرغيزستان مؤخراً بإغلاق قاعدة "ماناس" العسكرية الجوية الأمريكية إلا دليل وبرهان على ذلك.
• التكيف مع معطيات البيئة الإقليمية الخاصة بالمجال الحيوي للسياسة الخارجية الروسية، بحيث أصبحت موسكو تتعامل مع دول جوارها الإقليمي على أساس اعتبارات الأوضاع الجزئية، فهناك سياسة خارجية خاصة بدول البلطيق الثلاثة (أستونيا – لاتفيا - ليتوانيا) وهناك سياسة خارجية روسية خاصة بدول آسيا الوسطى الخمسة (كازاخستان – تركمانستان – أوزبكستان – طاجيكستان - كيرغيزستان) وهناك سياسة خارجية روسية خاصة بدول القوقاز (جورجيا – أرمينيا - أذربيجان).
• احتواء الصين عن طريق منظمة تعاون شنغهاي بحيث تحول صراع خط بكين – موسكو السابق إلى علاقات تعاون بالشكل الحالي.
• عدم الاهتمام بالتوسع في ردود الأفعال المناهضة للنفوذ الأمريكي وعلى سبيل المثال لا الحصر لم تسع روسيا إلى منافسة الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية أو بلدان الكاريبي كما كان الاتحاد السوفيتي يفعل من قبل.
• التخلي نهائياً عن خطاب السياسة الخارجية الإيديولوجي العقائدي الذي كان سائداً أيام الاتحاد السوفيتي واستبداله بخطاب قائم على علاقات التعاون من أجل تعزيز المصالح المشتركة واحترام القانون الدولي.
* مواجهة موسكو – واشنطن:
من المعروف أن المواجهات الدبلوماسية بين العواصم تستخدم العديد من الوسائل المتباينة والآن ما هو واضح في دبلوماسية إدارة الصراع التي تستخدمها حالياً موسكو نلاحظ الآتي:
• تزايد استخدام "القوة الناعمة" بدلاً عن "القوة الخشنة" فموسكو تستخدم حالياً لغة بناء المصالح والالتزام بالشرعية الدولية كأساس لتمديد نفوذها خطوة وراء خطوة، وقد نجحت موسكو في بناء التحالفات والروابط القوية مع جيرانها والآن تتقدم باتجاه عبور دول الجوار إلى أقاليم الجوار وحالياً تشهد الساحة الأوروبية تزايداً مضطرداً لتأثير القوة الناعمة الروسية وذلك بما أدى إلى سعي الدول الأوروبية من أجل المضي قدماً في الاعتماد على واردات النفط الروسي بما يمكنها لاحقاً من التخلي عن مظلة النفوذ الأمريكي.
• السعي لإجهاد قدرات واشنطن عن طريق استخدام مذهبية "شد الأطراف"، وبكلمات أخرى، فقد ظلت روسيا تقف في المنطقة الوسطى بين أمريكا وكوريا الشمالية، وأمريكا وإيران، ضمن مناورة مزدوجة تضمنت إعلان روسيا تأييدها من حيث المبدأ لمطالبة أمريكا بعدم السماح لكوريا الشمالية ولإيران ببناء القدرات النووية وفي الوقت نفسه عرقلة جهود واشنطن الساعية لبناء تحالف عسكري دولي يتولى أمر توجيه الضربات العسكرية الدولية ضد إيران وكوريا الشمالية وقد أدت هذه الاستراتيجية الروسية من جهة إلى عرقلة تنفيذ واشنطن لمخططاتها العدوانية ومن الجهة الأخرى إلى جعل كل من كوريا الشمالية وإيران تكسبان الوقت اللازم والفرصة لبناء قدراتهما النووية.
وتجدر الإشارة إلى أن السياسة الخارجية الروسية تسعى حالياً إلى استخدام مفهوم التعاون الأمني الروسي – الأوروبي كوسيلة لاستدراج دول الاتحاد الأوروبي ليس من أجل التحالف مع روسيا وإنما من أجل تحييد الاتحاد الأوروبي بحيث تقف كطرف ثالث محايد خارج دائرة صراع موسكو - واشنطن أما بالنسبة لدول آسيا الوسطى فتسعى روسيا إلى استخدام مفهوم التعاون الأمني الروسي – الصيني على أن ينضم إليه لاحقاً الاتحاد الأوروبي، كوسيلة لإبعاد النفوذ الأمريكي عن المنطقة.
وبالنسبة لأفغانستان فإن ما هو مثير للاهتمام والجدل يتمثل في احتمالات موافقة روسيا على التعاون مع واشنطن في مجال خطط أمن واستقرار أفغانستان، ومن الممكن أن تتبدد هذه النظرية تماماً إذا عرفنا أن ثمة قولاً روسياً يقول: «إذا أردت أن تقتل عدوك فمن الأفضل ألا تبدي له العداء السافر وأن تجعله يشعر أنه في موقع الصديق بحيث تمد له يد الصداقة وتشد من أزره كما تشد المشانق على أعناق الرجال».
وحالياً تقول المعلومات أن موسكو وافقت على القيام بـ"شد أزر" صديقتها واشنطن في أفغانستان عن طريق السماح بتمرير الإمدادات للقوات الأمريكية وقوات الناتو عبر روسيا، فهل ستشد موسكو من إزر واشنطن "كما تشد المشانق على أعناق الرجال" أم لا؟ وكما يقول المثل الإنجليزي "لننتظر ونرى!".

الجمل: قسم الدراسات والترجمة