معبر بستان القصر في حلب: إذلال يومي وفرمانات «خنفشارية»
«يمنع خروج جميع المواد التموينية والمحروقات والأدوية والزيوت ومستلزمات الأطفال والحليب ومشتقاته والخضار واللحوم والخبز منعاً باتاً...». هذا الإعلان لم يكن على بوابة حدودية لحكومة اشتراكية تريد حماية المنتج المحلي بمنع التصدير، بل على معبر «اصطناعي» بين شطري مدينة، وضعته جماعة إسلامية، لمنع دخول تلك المواد عشية شهر رمضان 2012 إلى الشطر الآخر الذي لم تتمكن من «تحريره» بعد.
بين رمضان 2011 ورمضان 2013 انقلبت مدينة حلب رأساً على عقب. في العام الأول لم تفلح «ثورة الشعب»، رغم اشتعال حماة وحمص ومناطق كثيرة ونزيف الدماء، في إخراج تظاهرة حقيقية واحدة في المدينة التي توجّست شراً من لفظ «ثورة». وفي الثاني، حضر الثوار بأنفسهم إلى المدينة لتجويعها بعد نهب أسواقها وأملاك سكانها الذين يتهمهم الثوار بـ«الكش والشوي على طريق المحلق بينما النظام يقتل شعبه». ولكأن الحصار الغذائي الذي فرضه «المحرِّرون» على «المحرَّرين» محاولة لإكساب مقولة انشغال الحلبيين بشواء اللحم في النزهات الربيعية صفة الحقيقة.
حافلتان للنقل الداخلي وضعتا فوق بعضهما بعضاً على مدخل حي بستان القصر في آب 2012، ليبقى رصيفان لعبور الأهالي المتعبين. اشتهرت هذه الصورة كخلفية لـ«يوم الحشر»، وهي في الحقيقة أيام تتكرر في «معبر بستان القصر» الذي يربط الأحياء التي احتلها المسلحون من المدينة بالأحياء الشرقية التي لا تزال تحت سلطة الدولة. يحشر فيه آلاف البشر بين النيران ويتساقط بعضهم غارقاً بدمه. لكن المحشورين تمرّدوا أكثر من مرة على «أمير المعبر» النافخ في حنجرته «تكبير» كتيمة سحرية للاستيلاء على حاجات الآخرين وممتلكاتهم. اندفعوا بصدورهم للعبور، وهتفوا نكاية بـ«أمير المعبر»: «بالروح بالدم نفديك يا بشار» و«الجيش الحر حرامي بدنا الجيش النظامي».
أصبح المعبر، قبل أن يفك الجيش السوري الحصار عن أحياء المدينة، مؤشراً إلى أسعار السلع في أحياء غرب حلب، فإغلاقه ليوم واحد يرفع الأسعار بنسبة 100%. أما إغلاقه لأيام عدة فقد يتسبّب في اختفاء السلع من رفوف المتاجر.
وقد قام الجيش السوري في بعض الأحيان بإغلاق المعبر، لا أمام البضائع فحسب، بل أمام السكان أيضاً. لكن ذلك لم يكن يستمر سوى أيام معدودة، من دون سبب واضح.
ولمعبر بستان القصر توأم «راحل» شمالاً، هو معبر «بستان الرز». انتهى دور هذا المعبر بسيطرة المسلحين على حي الشيخ مقصود لينتفي مبرّر وجوده للانتقال بين شطري المدينة. المعبران اشتهرا بعد إغلاق الشوارع بين الشطرين في باب النصر وميسلون وبستان الباشا وكل الطرق المؤدية إلى الريف، وآخرها طريقا المنصورة ودمشق.
الإذلال
تعدّدت صور الإذلال في يوميات الحلبيين على المعبر. كل مادة غذائية تُضبط «متسللة» إلى الجهة الغربية من حلب التي يقطنها نحو مليوني مواطن، يتهم حاملها، مع إهانته، بأنه «يهرّبها» إلى الجيش، فيما يقسم «المذنب» بأنه يحملها لإطعام أسرته. وأمام «خنفشارية» فرمانات ولاة أمر المؤمنين الجدد، تفتقت العقلية الحلبية عن حيل طريفة لتهريب الطعام ستبقى محفورة في الذاكرة طويلاً. فصندوق التلفزيون الخشبي أصبح «براداً» يحتوي بضع ربطات من الخبز وكميات من اللحم والزيت وحليب الأطفال. وجيوب مراهق اتسعت لفخذي دجاجة وصدرها وجانحيها. ضبط الفتى بالجرم المشهود من قبل مسلحين إسلاميين. لكنهم طمأنوه بأنهم لن يقتلوه، لأنه يهرب الطعام لجنود الأسد!
الخزي يبلغ أوجّه مع ذاك الرجل الذي تزنّر بكيلوغرامين من لحم الكباب حول بطنه، مستلهماً حزام الانتحاري الناسف.
كشف المسلحون محاولته، فعاقبوه بدهن جسده عارياً بالكباب، تحت أشعة شمس تموز ودرجات حرارته التي فاقت الأربعين. يغطيه الذباب، فيما يتفاخر «أمراء المؤمنين» بما يقومون به ويصورونه بجوالاتهم ويسارعون لبثّه عبر أجهزتهم الفضائية، مصرّين على أنهم قبضوا على مهرّب طعام للجيش!
لم يكن الإذلال وحده خصيم الحلبيين، كرفع الأيدي والسير كأسرى الحرب والتفتيش المهين ورمي الطعام أرضاً، فرصاص القنص، والرصاص الطائش في المواجهات بين المسلحين والجيش أودت بحياة العشرات الذين اختلطت دماؤهم بـ«مهرباتهم» من خضر وفواكه وأغذية.
جثث المتوفين والقتلى نقلت بين طرفي المدينة على عربات الخضر وعربات الجر، وأصبح المعبر إحدى علامات حلب الفارقة. حفر في ذاكرة الحلبيين المأساة، واختزلها إلى حدّ بعيد، سجّل معاناتهم، وبات رمز مهانتهم وانتهاك مدينتهم.
«أمير المعبر»
وللمعبر «أمراء» تعاقبوا عليه وجنوا ثروات طائلة، أسوأهم حظاً كان زكريا العتك «أبو غياث»، وهو أربعيني قتل برصاص قناص من الجيش السوري، يضطلع «الأمير» بدور الضابطة الجمركية، والعدلية، والصحية، ومهام جميع فروع الأمن، والفتوى كذلك، وما قدر الله. في مقرّه يجب فحص شهادات المنشأ، ورخص المرور التي تصدرها الهيئة الشرعية، المتمركزة في مستشفى الأطفال، بعد دفع «الأتاوات» المترتبة، بما «يرضي الله» طبعاً، ووفق النسب الموضوعة لكل مادة. فقد المعبر أهميته الاقتصادية بعد فتح طريق خناصر (الذي يربط الأحياء الحلبية التي لم يحتلها المسلحون بوسط دمشق، وبات معبراً للأفراد بالدرجة الأولى وللبضائع المصنعة أو المواد الأولية. لكن العقل الاستثماري تفتق عن بديل من الأتاوات التي تُفرض على السلع والبضائع، وباتت تفرض على «الرؤوس»، ووصلت إلى ثلاثة آلاف ليرة في كل عبور.
«داعش» في حلب
مع تمدد تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» في حلب، سعى إلى مدّ نفوذه إلى المعبر الذي يحقق هدفين، معنوياً ومادياً، مستغلاً الاستياء الشعبي العارم من ممارسات المسلحين وكراهية الناس لهم. لكن محاولة «داعش» قوبلت باستياء «الهيئة الشرعية» ومسلحيها. فسيطرة التنظيم على المعبر تعني أنه أصبح الرقم واحد في المنطقة المحتلة من المدينة، وعلى احتكاك مباشر بسوريين يعيشون في ظل النظام. أما الهدف المادي فهو الأهم، إذ إن المعبر يدرّ مبالغ فلكية على الهيئة وفصائلها. في تشرين الأول 2013، ومع تهاوي المناطق بيد «داعش» ريفاً ومدينة، سارع «أمير التشويل» الأشهر أحمد عفش زعيم «لواء أحرار سورية» إلى نفض يده من المعبر وسحب كتائبه من المنطقة، مبدياً استعداده للتعاون مع أي جهة قضائية لـ«محاسبة المسيئين». ولكن لم تتمكن «داعش» من السيطرة على المعبر، فسرعان ما «حسّنت» الهيئة الشرعية تعاملها مع الناس وحاسبت «بعض المسيئين»، رغم أنّها منذ سيطرتها الكاملة على المعبر، نهاية العام الماضي، رفعت قيمة «رسم المعبر» أضعافاً مضاعفة، ليصبح 2525 ليرة سوية (حوالى 16 دولار)، بعد أن كان سابقاً 25 ليرة فقط (أقل من ربع دولار).
المعبر اليوم
مع تصاعد عمليات الجيش في الشهرين الأخيرين، اجتازت المعبر خلال ايام أمواج بشرية قدرت بعشرات الألوف. أغلق المعبر مجدداً وبات على الأشقاء والجيران والأبناء قطع مسافات تتراوح بين 200 كيلومتر و450 كيلومتراً، للتنقل بين حيين متجاورين. إذ لا يوجد أحد في شطري حلب ليس له أخ أو أخت أو قريب من الدرجة الأولى في أحياء الشطر الآخر، ومع ذلك فإن التقسيم القهري وجد تعبيرات له في النفوس. يشعر سكان الأحياء الغربية بالغدر ونكران الجميل، فقد احتفوا بنازحي الأحياء الأخرى ووفروا لهم كل ما يحتاجونه، في حين كان المقابل حصاراً وقصفاً وتظاهرات تطالب بإغلاق المعبر لأن سكان الأحياء الشرقية ليسوا مسؤولين عن رفاهية مناطق النظام. هكذا راكمت ثورة الغرائب التناقضات المصطنعة في النفوس، فيما تدخل الحرب عامها الرابع، لكن الجميع يدركون أن المعبر... عابر.
باسل ديوب
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد