من الحرب البارِدة..إلى الهراوة الساخِنة!؟
صحيح أن الواقع يتغيّر والتاريخ يسير، وسيره بالتأكيد تسجيل لهذا التغيير.. وصحيح أيضاً أن قوّة التغيير أحادية المنهج والرؤى، وأحادية الهدف، بالمنظور الأميركي لكن هذا كله لا يشفع للمُتخلّفين سواء في فهم مظاهر التغيير بنسَقها ومقاصدها، أو بمصير المقصودين من ورائها، غير أن لعبة المواقع في بعض الأحيان تكشف عن مظاهر أخرى تكون واقعة ضمن خلفيات غير مُعلَن عنها. وهذا ما كشفت عنه روسيا بمواقفها الأخيرة وما ظهر من الصراع الدائر يبن إيران وأميركا.. إن ظهور روسيا على خط المواجهة وفق التصريحات الحادّة للرئيس فلاديمير بوتين، إلى جانب إيران وحزب الله والمقاومة العراقية، كشفت حقائق عدّة، منها، أن الثورة ضد الهيمنة الأميركية لم يُلقَ عليها القبض كما تدّعي الأبجدية السياسية الأميركية، وأن هذه الثورة ليس بمقدور أي أحد اعتقالها، لأنها ثورة أمم وشعوب، وثقافة مبادئ وشعور عام، بل إن ظهور فجوات في النظام الدولي الجديد هي أشدّ فتكاً به وبالاتجاهات المُتوخّاة منه، إن المصالح المُتبادَلة هي رصيد كل نظام، وإن التبادُل بين كل الدول وفقاً لهذه المصالح هو قوام التفاهم وقِيَم التعايُش المُشترك بينها، هذا مبدأ عام – ولو نظرياً على الأقل – وأحد المُسلّمات في النظام الدولي المنشود عالمياً لا أميركياً، لكن أميركا أبهرتها القوّة العسكرية التي هي عليها الآن فاختزلت مصالح العالم كله في مصالحها! وهذا يعني في أدنى حالات هذا المعنى إننا دخلنا بداية الانهيار لهذا النظام- وتبعا لذلك – بداية المحاولة لإيجاد بديل آخر يلتقي فيه العالم كله في خارطة متوازِنة في ما يُعرَف بالتوازُن الاستراتيجي، قوامها أطراف مُتعدّدة (تعدّدية قُطبية).
لم تكن إذن، تجربة الصاروخ الروسي العابِر للقارات (سارمات) مُجرّد لعبة عسكرية في مساحة هي أقرب للانفجار، إن بسبب الامتلاءات الأميركية على أكثر من صعيد، أو بسبب الوضع العالمي ككل. وإذا كانت كذلك فهي بداية تجربة لحربٍ باردةٍ مسرحها هذه المرة بالأساس أوروبا، وأميركا تهمها إعادة بناء خارطة أوروبا وفق ما اصطلحت على تسميتها بـ (أوروبا الجديدة في مواجهة أوروبا القديمة.) والإدارة الأميركية بهذا المنطق المنحوت أصلاً من بقايا النازيّة، تدفع بنفسها إلى الواجهة العسكرية وفق منطق الماضي، بأدواته وملامحه، مع أن العالم شهد مُتغيّرات لم يعرفها من قبل، مُتغيّرات وزّعت أدوات الموت – السلاح النووي – على دول عدّة ولو بنِسَبٍ مختلفةٍ، قابلةٍ للاشتعال في أية لحظة.. فاذا لم تعد إسرائيل قاعدة أميركا الأمامية، أمام مواقف كل من إيران، وحزب الله، والمقاومة الإسلامية في فلسطين، فإن أميركا بدورها لم تعد قادرة على تغيير المواقف والمواقع بالهراوة الساخِنة.. فهي تئنّ الآن في مناطق عدّة وتحاول الخروج من وحل هذه المناطق وبأيّ ثمن!
هناك إذن واقع مُتغيّر وواقع ناشئ، الأول تتحكّم فيه مسيرة التاريخ، والثاني تتحكّم فيه إرادة الدول، وروسيا بموقفها الرافِض لنشر الدرع الصاروخية الأميركية في أوروبا تقود المُتغيّر الثاني.. في هذا المُتغيّر أيضاً لا يمكن وصف إيران بأنها تلعب اللعبة الدموية على الواجهة التاريخية كما تحاول أميركا وصفها، ولا تأخذ باللعبة السياسية خارج منظور واقعها التاريخي، إنه واقع يُغذّيه الماضي ويدفع به نحو خارطة المستقبل.. هناك شعور قومي إيراني مُتّزن مبني على فرضيات توافقية مع الثابِت والمُتغيّر، لا توافقات تصادُمية وفق المنطق الأميركي، فإيران مثل روسيا. فالأولى سقطت مؤقتاً بسقوط الشاه لأسباب خارجية لكنها تعلّمت بحفريات الزمن وذلك السقوط أنها أمام الإعصار الأميركي كواحدٍ من أكبرِ الشواهد على هزيمة أميركا في إيران، وروسيا سقطت أيضاً مؤقّتاً بعد تقسيم الاتحاد السوفياتي لأسباب داخلية وخارجية، ووضعت لسنواتٍ ضمن مفهوم الثورة الآيلة للخراب، لكنها ولتاريخها المُتنوّع وقاعدتها العسكرية المُتطوّرة تمكّنت من ردمِ الفجوات التي سقطت فيها وأعادت ذاكرتها إلى الواجهة كقوّة عالمية لها ما تقوله إذا دقّت ساعات المواجهة.. وهناك جملة من المُتغيّرات وأخرى من المُعطيات تجعلها في الواجهة الأمامية للأحداث على الدوام، وهذا ما عبّرت عنه بمواقفها الأخيرة، مواقف دفعت بالبيت الأبيض الأميركي إلى إعادة النظر في بعض مواقفه من إيران، وروسيا، وإن لم يُظهِر ذلك. واضح، أن العالم مُتغيّر، وأنه أيضاً في سباق نحو التسلّح من جديد، وأن مفهوم المُتغيّر فيه لم يعد لاصِقاً بالسياسة الأميركية لوحدها، بل إن أميركا نفسها تتّجه تدريجاً نحو استدراك هذه المُتغيّرات ضمن شراكة دولية مع روسيا، وأن مبدأ الاستدراج الذي مارسته ضد روسيا وإيران والشرق الأوسط بصفة عامة أصبح مُجرّد بقايا تذكار.
عالم اليوم يعتمد على منطق الرفض لأيّ فكرٍ جارِفٍ نحو الهيمنة الأحادية ويتساءل فيه عُقلاء السياسة والتاريخ عن الهدف من وراء النيران المُشتعلة من دون حصول الأهداف على الواجهة التي حوصِرت فيها أميركا – وتبعا لذلك – ينظرون إلى الواقع من خلال منظور آخر يكون فيه المُتغيّر مُلزِماً للكل ولصالح المجموعة الدولية. إن السؤال المطروح الآن بإلحاح هو هل توافق أميركا على الخروج من المأزق الذي حدّدته لغيرها ووقعت فيه من دون وعي منها، أم أنها ستحاول اللعب من جديد على خارطة الطارئ والظرفي إلى حين سقوطها كما يُقرّر قادة الفكر الحر فيها؟ السؤال مطروح والجواب مفتوح على احتمالات عدّة.
محمّد لواتي - الميادين
إضافة تعليق جديد