ميساء آقبيق: رحلتي إلى بلاد العم سام (2)
الرحلة مستمرة.. تمثال الحرية
الجمل - ميساء آقبيق: في اليوم الأول لزيارتي مدينة نيويورك سارعت إلى حجز مكاني على العبارة المتوجهة إلى جزيرة تمثال الحرية..
وأنا واثقة أن كثيرين يعرفون ماذا يعني هذا الرمز بالنسبة لأمريكا، وأعلم أن لا أحد يرغب في قراءة محاضرات تاريخية أو معلومات عن هذا التمثال، والحقيقة أن انبهاري لم يكن فيه، وإنما في الجزيرة القريبة والتي تسمى جزيرة "إيليس". إنها المكان الذي كان يتجمع فيه المهاجرون إلى أرض الأحلام أو أرض الميعاد أو الأرض الجديدة، مهما كان اسمها بالنسبة إلى أولئك الطامحين لحياة أفضل، أو الهاربين من واقع مأساوي.
هناك، في جزيرة "إيليس" ليس في وسع المرء إلا أن يعود إلى الخلف مئتي عام على الأقل، يجد نفسه أمام مكان مميز. وبالاستماع إلى شرح تفصيلي مسجل عبر أجهزة يمكن استئجارها تتكشف للزائر أسرار وخبايا تاريخ غير بعيد. كان المهاجرون يتجمعون في هذا المكان ويخضعون للفحص الطبي ويسجلون أنفسهم في وثائق رسمية، والزائر يرى صور أناس من كل أصقاع الأرض، منهم من تشبه ملامحه ملامحنا نحن العرب، آثارهم وصورهم ومجسمات المباني التي كانوا يقيمون فيها بشكل مؤقت، إلى جانب كثير مما كانوا يحملونه معهم من ثقافاتهم. آلة العود الموسيقية، ماكينة الخياطة القديمة، صور أمكنة بائسة كانوا ينامون فيها، كانوا يتحملون كثيرا، بدءا من مشقة سفر طويل، إلى جحر في مساحات ضيقة، إلى ضيق ذات اليد، ومن يكتشف أن لديه مرض معد أو أنه غير مفيد للمجتمع الجديد، كان يجبر على أن يعود أدراجه من حيث أتى.
كل شيء موثق، بالصور البيانية والمجسمات ثلاثية الأبعاد، أعداد المهاجرين من كل قارة على حدة على مدى عقود، نسبة النساء مقارنة بالرجال. لقد عرف أوائل الواصلين إلى الأرض الجديدة ماهي حاجتهم... القوة البشرية.. إنها أرض مترامية الأطراف بحاجة لمن يزرعها ويبنيها ويحييها، ويبدو أن سكانها الأصليين لم يحسنوا استغلالها أولم يعرفوا كيف يستفيدون منها. إن فكرة اجتذاب الخبرات والقدرات البشرية إلى أمريكا تحت مسمى الحرية والتحرر والديمقراطية والحق في العيش الكريم فكرة غاية في الذكاء، لم يكن بمقدور ثلة من المغامرين تحمل عبء بناء بلاد شاسعة كهذه، كما أن من تمكن من الوصول في البداية وباشر في بناء ممتلكاته كان حتما يحتاج إلى من يخدمه ليوسع ثرواته، وما سيادة القانون الموجودة هناك إلا وسيلة للحفاظ على هذه المكتسبات. اليوم وبعد مئات السنين يبدو وكأن الوضع لا يزال على حاله، هناك غنى فاحش في أيدي نخبة من الرأسماليين والباقي يعملون بطريقة أو بأخرى، بشكل أو بآخر على خدمة وزيادة أموال وامبراطوريات الأغنياء. وهذا الكلام ليس نظريا، إنه موثق بالإحصاءات الرسمية، إذ أن عدد أصحاب المليارات في أمريكا هو عدة آلاف، وبالمقارنة مع عدد سكان البلاد البالغ نحو ثلاثمئة مليون نسمة تكون النتيجة أن باقي السكان يحركون عجلة الاقتصاد لدعم أولئك الأثرياء ولدعم دولة لم يكفها ما لديها من غنى فقررت عبور المحيطين شرقا وغربا للاستفادة من كنوز الأرض في البلدان الأخرى. ومنذ أن كان يتجمع المهاجرون في جزيرة "إيليس" كان الأقوى هو الذي يبقى، أما الضعيف وذريته فهاهو في بلاده يزرع ويحصد بذار أرضه ليقدمها حتى لو بطريق غير مباشر إلى تلك الدولة الكبرى.
غير أن ذكاء المشرعين هناك ألهمهم لتوفير ضمان اجتماعي وصحي وحقوق يتمتع بها المواطن ويتميز بها عن غيره من سكان بقية العالم، فبات من يحمل الجنسية الأمريكية السيد في كل مكان يذهب إليه.
في هذا العصر، هناك بلدان كثيرة تمتلك ثروات طبيعية هائلة يحتاجها العالم لكنها لم تستطع إيجاد وسيلة تجتذب فيها قوة الخبرة البشرية وتوفر لها استقرارا وانتماء يحقق بناء دولة كبرى حتى وإن كانت هذه الخبرة البشرية متوفرة فيها. في أمريكا الجنوبية على سبيل المثال استمرأ بعض الحكام لعبة المال والسلطة فقرروا استعباد شعوبهم وإغراقها في مزيد من الفقر لكي يبقوا على رأس الهرم، وكذلك كان الحال في بعض دول آسيا باستثناء الصين التي تحكم بقيم الثورة، وغرق أهل أفريقيا في صراعات قبلية وعرقية أضاعت كنوز أرضهم، وحار الأوربيون فترات طويلة بين التعايش مع انتهاء حقبة الاستعمار القديم والهيمنة على بلاد الآخرين وبين ثورات فكرية قسمتهم إلى شيوعيين واشتراكيين ورأسماليين وليبراليين وشاخ مجتمعهم بسبب قلة المواليد وضاعوا بين الحفاظ على هوية عرقية ورفض المهاجرين والأديان الأخرى وبين محاولة اجتذاب قوة عاملة تبقي عجلة الاقتصاد على حالها، أما نحن العرب فتائهون بين الجميع..
إضافة تعليق جديد