نزف الكفاءات والشباب يهدّد سوريا الفتيّة
يعيش شباب سوريا أسوأ أيامهم تحت ظروف اللجوء والنزوح والفقر، فلا شكلّت الهجرة ملجأً آمناً لمن اجتاز منهم رحلة الموت البحرية، ولا الصبر على ويلات الحرب أنقذهم من الغلاء والحرمان. طوال 5 أعوام، استمرّ نزف الكفاءات الشابة بتواتر مختلف. العديد صبر أعواماً رفضاً للهجرة، ليضطر بعدها إلى السفر بعد بيع ممتلكاته لتغطية التكاليف.
الأطباء كانوا من أبرز المهاجرين، ورغم غياب رقم دقيق، تقدّر الإحصاءات عدد من غادر سوريا بنحو 17 ألف طبيب، منهم أطباء «معروفون» وميسورو الحال، سافروا منذ بداية الأحداث سعياً إلى استقرار أفضل. الحال مشابهة لدى المهندسين الذين تقدَّر نسبة المهاجرين منهم بـ 25%. وترى إحداهم، هي المهندسة مجدولين العبد، أن «سوريا طاردة لشبابها بسبب نظام المحسوبيات والفساد. كان حلم السفر يراودني قبل الحرب، التي دفعتني إلى اتخاذ قرار جريء بالسفر بمفردي إلى السويد بعد معاناة طويلة». كذلك، ضيّقت ظروف الحرب على حرية الإعلاميين، ودفعهم انخفاض الأجور إلى البحث عن بدائل خارج البلد. وتوضح الإعلامية رغد البني، قائلة: «اليأس كان السبب الأساسي لمغادرتي البلاد، فقد كانت تؤلمني رحلة نزوحي بين مناطق دمشق بحيث فقدت شعور الاستقرار وربما المواطنة»، مشيرة إلى أنه «لا غنى عن العودة حينما تتاح الفرصة المناسبة». وخلافاً لزميلته، اكتفى الصحافي فراس القاضي بالانتقال إلى دمشق بعد الظروف القاسية التي عاشها في مدينة دير الزور، ويقول: «عايشنا الحصار 7 أشهر، جعنا كثيراً ورأينا أطفالنا يذبلون أمام أعيننا، وأطفال يموتون من الجوع وقلة الدواء، لكن عندما استطعنا الخروج إلى دمشق لم تخطر ببالي مغادرة سوريا، فلها علي الكثير، كذلك لا أريد لأولادي أن يكونوا سوريين بالذكريات وبالصور فقط».
ولم يسلم الحرفيون وحرفهم من لعنة الهجرة، وفقدت سوريا نحو 80% من حرفها اليدوية، وهو ما يُعَدّ الأخطر بين الخسائر، لأن ترميم اليد العاملة الحرفية يحتاج إلى وقت طويل. ويوضح أحد حرفيي النول، وسيم شكاكي، أن «العدد الأكبر من الحرفيين هاجر جراء تضررهم من الحرب، ليتقلص عدد حرفيي مهنة النول إلى 3 فقط، أنا واحد منهم. أما أنا فرفضت مغادرة سوريا حفاظاً على مهنة أجدادي».
وحول توزع القطاعات المهاجرة، توضح الباحثة الاقتصادية الدكتورة رشا سيروب أنه «برغم هجرة عائلات بأكملها، تبقى فئة الشباب الأكثر هجرة لتهرُّب الذكور من الخدمة العسكرية، وعدم وجود تصور واضح لمستقبلهم». وتضيف أن «تجاهل الحكومة للأوضاع الاقتصادية والمعيشية، وعدم اكتراثها إلا بسعر الصرف فاقم الأزمة، فقد كان واضحاً عدم رغبتها في اتخاذ إجراءات هدفها حماية حقوق المواطنين الذين آثروا البقاء»، مشيرة إلى أن «سرعة تخلي المواطنين عن وطنهم تفرض دراسة الواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي قبل الأزمة». وترى أن التأثير الأكبر هو أن «خروج الثروات البشرية العلمية والحرفية، أفقد سوريا أهم طاقاتها القادرة على بناء اقتصاد معافى».
دولة كهلة!
وقد يكون من أهم التأثيرات التي ستحملها موجات الهجرة ـ وسط تعامٍ حكومي مريب ـ هو تحويل سوريا إلى دولة كهلة. التحول لا يتطلب الكثير لملاحظته، إذ «تكفي مراقبة من يسير في الطرقات، دون الاعتماد على الأرقام» وفق الدكتورة سيروب، التي تشير إلى خلل آخر يتمثل بـ«غلبة العنصر الأنثوي بعد هجرة الشباب الذكور هرباً من خدمة العلم». التصور هذا يخالفه عميد المعهد العالي للدراسات والبحوث السكانية، الدكتور أكرم القش، الذي يؤكد أن «هذا الخلل لا يزال ضمن النسب الاعتيادية، فنسبته لم تتعدَّ 1%، خاصة أن الهجرة شملت جميع الفئات»، مشيراً إلى «انخفاض تأثيره المستقبلي بعد تراجع حركة الهجرة العام الفائت». ويرى أن «القول إن المجتمع السوري أصبح كهلاً غير صحيح، فاليوم نسبة الكهول لا تتعدى 10%، بينما تتجاوز نسبة الشباب بين 20-40 عاماً 30%، ما يعني أن سوريا لا تزال زاخرة بالكفاءات الضامنة لطبيعتها الفتية». ويتابع دحض «الافتراضات» السابقة، موضحاً أن «المؤسسات لم تفرغ. لكن المشكلة بعدم توظيف كوادر جديدة، بدليل أن نسبة البطالة تزيد على 60%، فاليوم مقابل آلاف الأطباء المهاجرين يوجد مثلهم دون عمل، والأمر ينطبق على كل الاختصاصات»، مرجعاً أسباب عدم استثمار الكوادر الشابة الفائضة إلى «قلة الموارد والرغبة بتقليل النفقات». من جهة أخرى، يمسك الباحث الاقتصادي الدكتور عمار يوسف، العصا من المنتصف، قائلاً إنه «في حال استمرار اللجوء بشكله الحالي، فإمكانية تحول سوريا إلى دولة كهلة أمر وارد، لكنه حالياً غير متوقع»، مضيفاً أن «هناك نسبة شباب كبيرة تجعلها تقاوم هذا التحول، كذلك فإنهم بمجرد تحسن الظرف الأمني سيعودون إلى الوطن»، وهو ما ترى سيروب أنه غير ممكن، لأن غالبية المهاجرين «باعوا كل ما يملكون»، مضيفة أن «الحكومة تتصرف وكأن البلد لا يعيش حالة حرب».
لا أرقام رسمية... خوفاً من التسريب!
تغيب الأرقام الرسمية لأعداد الشباب المهاجر، لتبقى الإحصاءات محصورة بتقارير المنظمات الدولية ودراسات الباحثين. ووفق دراسة أعدّها الباحث عمار يوسف، فإن «نسبة الشباب المهاجر (بين 18-40 عاماً) تقدَّر بنحو 77% من اللاجئين، بعد وصول عددهم إلى 4.5 ملايين، يتوزعون بين تركيا (2154 مليوناً) ولبنان (874 ألفاً) والأردن (539 ألفاً) والعراق ـ تحديداً إقليم كردستان ـ (231 ألفاً)، بينما بلغ عددهم في أوروبا ـ خاصة ألمانيا ـ قرابة 770 ألفاً».
وبينما يشكك عميد المعهد العالي للدراسات والبحوث السكانية بهذه الأرقام، خاصة في أوروبا، التي «لم يتجاوز عدد المهاجرين إليها 500 ألف تشمل جميع الفئات»، يبرر مسؤولو المكتب المركزي للإحصاء تقصيرهم بإعداد دراسات عن هذه الظاهرة، بالحرب وتداعياتها، رافضين اعتماد أرقام تقريبية «خوفاً من استخدامها ضد الدولة السورية عند الإفصاح عنها». وكان قد صدر تعميم حكومي بعدم نشر أي دراسات إحصائية، كان آخرها المسح السكاني لعام 2015، الذي سرّبت بعض معلوماته، كعدد سكان سوريا البالغ 18 مليون نسمة فقط، ما يعني خسارة نحو 5 ملايين شخص.
رحاب الإبراهيم
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد