نَسِفُّ حين يجد الآخرون معاني لحياتهم

08-11-2008

نَسِفُّ حين يجد الآخرون معاني لحياتهم

ما زالت أفلام المسابقة الرسمية للفيلم الروائي الطويل في مهرجان دمشق السينمائي تحظى بإقبال جماهيري أقل كما في كل دورة، إذ يفضل الناس أن يركنوا إلى أفلام لها سمعتها ومكانتها في تاريخ السينما، وهي التي تعرض هذا العام في تظاهرات مثل تظاهرة أندريه تاركوفسكي، أو تظاهرة الأفلام الحائزة الأوسكار وتحف السينما العالمية وسواها. أما أفلام المسابقة»أنشودة طوكيو« الياباني فلا يتابعها في الغالب سوى المعنيين وبعض أفراد الجاليات الأجنبية الذين يهتمون بسينما بلادهم. غير أن أفلام مسابقة هذا العام لم تخذل من اختار مشاهدتها خصوصاً مع فيلم مثل «ثلاثة قرود» لمخرجه التركي نوري بلجي جيلان، وهو الحائز جائزة أفضل إخراج في مهرجان كان السينمائي. والفيلم يبدأ من حادث سير يقضي فيه عابر سبيل، فيقرر السائق، وبحجة أن الحادث يمكن أن يشوش على حظوظه في الفوز في الانتخابات، أن يلصق الأمر بسائقه الفقير، وإزاء مبلغ باهظ من المال يذعن الفقير فيدخل السجن. لكن الحادث لا يقف هنا، إذ يتردد الصدى مدوياً في العائلة؛ حين تضطر الأم تحت إلحاح الابن الوحيد لأن تعجّل في طلب المال. الرجل، صاحب المال، يستغل الأمر ليبدأ علاقة جنسية مع الزوجة، سيعرف الابن لاحقاً بهذه العلاقة، وكذلك الزوج عند خروجه من السجن. تصبح هذه العلاقة «السرية« مفضوحة للجميع، من دون أن يبوح بها أحد للآخر. الابن يتورط بقتل عشيق أمه، فيعمد أبوه إلى شاب بمبلغ من المال كي يتحمل وزر الجريمة ويدخل السجن بدلاً من ابنه. إنها إذاً دائرة لجريمة تتكرر، وفضيحة مسكوت عنها. الحكاية عادية بالطبع، لكن المعالجة والأداء التمثيلي يجعلان منها حكاية شديدة التأثير. إن هذا التكرار الذي أراده المخرج للسكوت عن الجريمة يوحي بأن حياتنا برمتها تقوم على سكوت مشابه، وعلى إذعان مشابه، على فضيحة يريد الجميع أن يتكتم عليها، فيما نرى جميعاً أي أثر يحدثه الصمت في العائلة الصغيرة المؤلفة من ثلاثة أفراد، فهل يرمز ذلك أيضاً لفضيحة مشابهة في المجتمع التركي برمته؟
- الفيلم الياباني «أنشودة طوكيو« للمخرج كيوشي كوروساوا، والحائز جائزة تظاهرة «نظرة ما« في الدورة الأخيرة لمهرجان كان السينمائي، يناقش أيضاً موضوع العائلة، فربّ العائلة، الموظف المرموق، يرفض، حين يقال من وظيفته في إطار تسريحات وظيفية بالجملة، الاعتراف أمام العائلة بذلك، فيظل يصحو كل يوم زاعماً الذهاب إلى وظيفته، فيما يمضي الوقت متسكعاً في الشوارع، بل يصل به الأمر إلى الوقوف في طابور المشردين للحصول على وجبة طعام مجانية. تسليط الضوء على مشكلة الأب وتقاعده يكشف ما يصيب العائلة من تفكك؛ الابن الأكبر لا يجد عملاً فيضطر إلى التطوع في الجيش الأميركي ثم لا يلبث أن يتحول إلى قاتل في حرب العراق. أما الزوجة فتفكر في ترك المنزل، خصوصاً حين تكتشف مأساة زوجها عندما تراه واقفاً في طابور الطعام المجاني، ثم في بزة عامل تنظيفات. لكن الأمل يأتي من الطفل الأصغر، الذي يطلب من عائلته إرساله إلى دروس البيانو، فيرفض الأب معنّفاً إياه، في تأكيد جديد على خلل عميق في العائلة، فما يكون من الطفل إلا أن يدّخر من مال مخصص لطعام المدرسة من أجل دروس بيانو يتلقاها خلسة. وينتهي الفيلم حين نراه يعزف في امتحان أمام حشد مذهول، وأمام أبوين مذهوليْن يقتنعان أخيراً بموهبة ولدهما. وأيضاً، ومثل سابقه «ثلاثة قرود«، لا يتحدث الفيلم عن مشكلة فريدة وخاصة من نوعها، إنه يتحدث عن المجتمع الياباني وما يصيبه، فالأب العاطل عن العمل سيتعرّف أثناء تسكّعه الى زميل «عاطل« بكامل قيافته، يخفي أيضاً حكاية إقالته، وينتهي به الأمر إلى الانتحار مجبراً زوجته على انتحار مشابه. إنها أيـضاً أزمة مجتمع بأسره يخفي، رغم نجاحه الظاهري، أزمات هائلة في العمق.
الحكاية التالية تأتي من تشيكيا مع فيلم «قوارير مستعادة« لمخرجه جان سفيراك، وهو حكاية طريفة عن رجل ستيني سئم مهنة التدريس، مع طلبة عاجزين عن فهم الأدب الرومانسي، يقرر ترك هذه المهنة، لكن ملل الحياة الزوجية والخوف من الوحدة والعطالة، وحب الحياة قبل كل شيء تدفعه إلى البحث عن مهنة، يعثر على مهنة ساعي بريد، المهنة الشبابية التي يصعب عليه التعامل معها، فيتعرض لحادث سير يقعده لبعض الوقت، ثم ينتقل إلى مهنة أخرى هي استلام قوارير فارغة في سوبر ماركت، المهنة التي يولع بها حيث تصبح نافذته على العديد من العلاقات مع الناس، لكن بعد حين يفاجأ بآلة من شأنها أن تستلم عنه القوارير، فتلغي دوره ووظيفته.
نتعرف على خيانات الرجل أو محاولات للخيانة مع نساء ولو في خياله، ونجده واقعاً تحت أثر ملل واعتياد على زوجته، التي لا يكترث لشيء مما تفعله، ينتبه إليها فقط حين يراها ترقص مع شخص مولع بها، فيقرر أن يمضي بها إلى رحلة ريفية يركبان خلالها المنطاد، الذي ترهبه الزوجة، ويؤدي خوفها إلى التصاق حميم غير معهود بزوجها، في مشهد نادر في حياتهما الزوجية، في وقت تتابع فيه آلة استلام القوارير الفارغة عملها بشكل آليّ، ولكن مع إلغاء لنافذة التواصل البشري.
- الفيلم الهندي «نجوم على الأرض« يحكي قصة جميلة ومؤثرة عن طفل يعاني مرضاً نفسياً يعيقه عن الكتابة والقراءة، لكنه المرض نفسه الذي أصاب آينشتاين وبيكاسو ودافنتشي وسواهم من مبدعين، الطفل بالغ الذكاء ومولع بالرسم بشكل يشي بمبدع واعد، لكن جهل العائلة، الصارمة والناجحة في مسيرتها، يؤدي بها إلى إرسال الولد إلى مدرسة داخلية يفقد معها الولد دفء العائلة مما يفاقم من أزمة الصبي.
المدرسة، كما العائلة، تكاد تصل إلى حدّ الاعتقاد أن الولد متخلف عقلياً، ولولا مدرس الرسم المبدع في تعامله مع الأطفال، والذي عانى المرض نفسه في طفولته، لأُرسل الولد إلى مدرسة للمعوقين، انتباه مدرس الرسم واهتمامه يكشفان عن إبداع الصبي الذي يتفوق على مئات الطلبة والمعلمين، بل على معلم الرسم نفسه، حين تفوز لوحته بمسابقة كبرى للرسم، يستعيد الولد قدرته على التعلم، حيث يكون العلاج مبدئياً بالاعتماد على الشفاهة في التعلم، وفي العودة إلى كنف العائلة. العائلة تدرك أي ذنب اقترفته مع الصبي، كما يدرك المشاهد أي موهبة يمكن أن نخسر حين نخطئ في التعامل مع مواهب الأطفال، النجوم على الأرض. الفيلم عذب ومليء بالخيال، وبصور مقرّبة لعالم الطفولة.
مع هكذا مستوى جميل ومؤثر من الأفلام، لا ندري أين نضع الفيلم السوري «حسيبة« من إخراج ريمون بطرس، والمبني على رواية لخيري الذهبي بالاسم نفسه، إذ يبدو الفيلم بلا مقولة ولا غاية، بلا منطقية في الأحداث والشخصيات، الأمر الذي حوّله إلى نوع من الكوميديا.
فمثلاً كيف نفسر صعود حسيبة إلى الجبل مع الثوار برفقة أبيها، إذا كانت ستحرم لاحقاً من الخلف وتعاني ما تعانيه من عذاب؟
لقد بدا الأمر كأن الفيلم، لا المجتمع، يريد أن يعاقب البنت التي ذهبت للقتال مع الثوار، كان يمكن أن نفهم أن يرصد الفيلم رفض المجتمع مثلاً لسلوك بنت تخرج عن نواميــسه، لكن الفيلم بدا رفضاً لسلوكها لا لسلوك المجتمع. فيلم هزيل ومؤسف أن يمثل سوريا في مهرجان تقيمه دولياً لترويج صورة حسنة عن نفسها.

راشد عيسى

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...