هيثم مناع: نصائح مجانية في السياسة الخارجية
تشكل مشاعر السلطة بطبعها عنصر اضطراب للأشخاص، حتى لو كانت ابنة عملية تعويم إعلامية ودبلوماسية خارجية تتطلبها الأوضاع السورية. ورغم ثقتنا بأن أحدا من شركائنا في المعارضة السورية يتعاطى حبوب الهلوسة، لم يعد بعض إخوتنا في المواطنة يقفون على الأرض، وإن لم ينجحوا كذلك في اعتلاء العرش، فقد صار القوم مثل آلهة أبيقور، معلقين بين السماء والماء، يعتقدون أن معاملات الاستلام والتسليم من الأسد قد تمت بنجاح. وكون دورهم في الثورة لم يتعد اللقاءات الإعلامية والدبلوماسية وتلقي المدائح والمساعدات السخية وإرسال رسائل غزل للشبيبة الثائرة، لا يستغرب أن يتبسموا أحيانا وهم يتحدثون عن آلاف الضحايا من قتلى وجرحى، قبل أن يوزعوا صكوك الغفران لهذا المعارض أو تلك التنسيقية، ولهيب النيران لذاك الطرف الإقليمي أو الحزبي. أليسوا الممثل الشرعي والوحيد للثورة والشعب وقريبا الدولة؟
شعور كبير بالسعادة يتملك «المسؤول» القادم عندما يعلم بأن يافطة قد رفعت في غفلة عن المتظاهرين تذم وتمدح. أليس من يقرر أيام الجمع يقرر أسماء الوزراء في الحكومة الانتقالية؟ أليس المثقف المطالِب بكوريدور إنساني صدى لصوت الشعب والثورة؟ ألم يتحدث أحد أشاوس العلمانية السورية في الهلال الشيعي؟ ألم يطالب أحد المعارضين بالقطع المنهجي مع نهج المقاومة «المدمر»؟ ألم يلتحق بقدرة قادر من طالب برنار هنري ليفي بالابتعاد عن الملف السوري، بأهم أطروحاته حول المقاومتين الفلسطينية واللبنانية مع «كوكتيل كوشنر» في الكوريدور الإنساني؟ ألم يصل الابتذال إلى تغييب القضايا المركزية للثورة كالعودة من الانتشار الأفقي إلى البؤرية ومن الحراك الواسع إلى الفئوية مع تعامل غير واضح خجول مع التسلح والتطيف؟ ما معنى الركون لأسماء في يوم الجمعة تشكل موضوع تفرقة وخلاف وزراعة وهمٍ في صفوف المجتمع الأهلي الحامي والمشارك في الثورة (من أحرار الجيش والجيش الحر والحـظر الجوي وتجميد العضوية وطرد السفراء والمنطقة العازلة... إلخ). ثم هل أنجزنا مهامنا الداخلية من تحديد معالم الجمهورية السورية الثانية والعـقد المؤسس للدولة المدنية الديموقراطية إلى أشكال ضمان حقوق المواطنة والأقليات والموقف الوطني الواضح من قضية الجولان وقرابة مليون نازح ونصف مليون لاجئ لنتحدث في الأمن والاستقرار لتركيا والويل والثبور لإيران وتحديد موقع حماس في الخارطة الفلسطينية؟ إلى غير ذلك من أوراق مجانية للقوى الخارجية، باستعارة تعبير سمير عيطة.
يمكن القول ان السياسة الخارجية مرآة لصحة الجسد، أي الذات السياسية أو السيادة. وهي تعبير جوهري عن فكرة الدور، وترجمة النظرة للنفس والآخر. السيادة هنا، باعتبارها الشرط النظري لسيرورة تسلم الناس مصائر حياتهم بأنفسهم، أي السلاح الحقوقي والاستراتيجي المشبع بالقدرة على التعبئة الداخلية التي تسمح بسياسة خارجية فاعلة: الثقة بالذات التي تنبع عادة من شرعية سياسية - ثقافية وشعور بالأصالة المجتمعية، تمنح السياسة الخارجية الكبيرة دورا كاريزمياً لا يتطابق بالضرورة مع الحجم الفعلي للقوة المعبرة عنه كما تمسخ السياسة الصغيرة أصحابها مع ما يترتب على ذلك لمستقبل الوطن. وأخيرا، لا يمكن أن نترك أساسيات العلاقات الخارجية لرغبات بعض المتظاهرين في مقاطعة دولة منديلا أو البرازيل أو الهند وحمل أعلام دول غير ديموقراطية؟ العلاقات الخارجية لأي ثورة أو دولة تقوم على وعي عميق للعلاقة بين النحن والآخر، بمعنى التصور السياسي والاقتصادي والثقافي لطبيعة العلاقات بين الدول والشعوب وثنائيات التفاعل بين الإنساني: العزلة - التدخل، العمل الفردي - العمل الجماعي، القيم - المصالح، الحياد - الانحياز، المثالية - البراغماتية، المشاركة - الهيمنة، التعاون - السيطرة .. وما من شك في أن المساحات الرمادية بين هذه الثنائيات تحتل الهامش الأكبر في حقيقة السياسة الخارجية لدولة أو حزب أو منظمة غير حكومية. وفي السياسة الخارجية، كما في المجتمع، لا يغتفر للمرأة بيع شرفها لأول عابر سبيل.
نقرأ في صفحة الويب الرسمية للخارجية الفرنسية الجملة التالية: «ترتكز السياسة الخارجية الفرنسية على تقليد دبلوماسي قائم منذ عدة قرون، وعلى بعض المبادئ الأساسية: حق الشعوب في تقرير مصيرها، واحترام حقوق الإنسان والمبادئ الديموقراطية، واحترام دولة القانون والتعاون بين الأمم. وفي هذا الإطار، حرصت فرنسا على الحفاظ على استقلالها الوطني دون أن تكف عن العمل على تنمية أشكال من التضامن الإقليمي والدولي». بالطبع لا يمكن لأي باحث في العلوم السياسية أن يأخذ على محمل الجد هذا المقطع. فالثورة الفرنسية التي حملت بضعاً من هذه المبادئ لا يزيد عمرها على قرنين وعقدين تخللتها ردات وانقلابات ونظم عسكرية واحتلال ألماني. ومن الصعب القول ان فرنسا بكل مكوناتها السياسية التي وصلت الحكم عملت بهذه المبادئ. فقد خسر الشعب الجزائري أكثر من مليون من أجل استقلاله، وآثرت معظم الحكومات الفرنسية العلاقة مع الحكومات التي تربطها بها علاقات استراتيجية ومصلحة قومية عليا، بغض النظر عن طبيعتها الديموقراطية. وقد امتنعت الحكومة الفرنسية عن إدانة ضم إسرائيل لأراض سورية محتلة كما دعمت عسكريا عدة حكومات موالية لها في افريقيا لا تمثل شعوبها بحال. وفي حين يتحدث آلان جوبيه عن أيام بقيت في عمر الدكتاتورية السورية، ويحدد من يمثل الشعب ومن لا يمثله في صفوف ثورة الكرامة، لم يجرؤ وزير الخارجية الفرنسي في حياته السياسية على أن يوجه نقدا للسياسة السعودية ولو تعلق الأمر بقيادة المرأة للسيارة في مملكة الصمت؟ فما معنى أن نتحدث عن ثوابت عمرها قرون؟
لكن ثمة بالتأكيد منطقا مرجعيا قد يكون قراءة المصلحة القومية العليا عند رجل الدولة، أو مراعاة خلفيات الوعي الجمعي، كذلك استنباط التوجهات الأساسية في المجتمع السياسي والمدني وترجمتها في سياسة خارجية تعبر عن الهموم الرئيسية للناس. لكن هناك أيضا بالتأكيد لغة تجمعات الضغط والمصالح الاقتصادية التي تترجم حاجياتها في خطاب للسياسة الخارجية يتحدث عن الحكم الرشيد والديموقراطية من دون أن ينوه بحال للخلفية الحقيقية للموقف السياسي المعلن.
صحيح أن العولمة قد عززت نسبية السيادة وحددت من نطاق سيادة الأصغر وتعبيرات أشكال ممارستها في السياسة الخارجية خاصة في السياسات الإقليمية، ووضعت الهيمنة الغربية قواعد تحدد أوليات الدول الغنية في القانون الدولي. فحركة البضاعة لا تجوز مراقبتها، أما حق البشر في التنقل فهو مقيد بكل المعاني. إعلان الحليف حالة الطوارئ جزء من ضرورات دولة القانون، وقيام دولة مارقة بهكذا إجراء هو انتهاك لحقوق الإنسان... إلخ. إلا أن هذه النسبية لا تنسينا الدرس الكبير في أن من ينطلق من موقع دوني لا يمكن أن يرفع رأسه عاجلا أو آجلا، ومن يبدأ صغيرا لا يمكن أن يكبر.
حتى اليوم، الدولة الحديثة، التي بنيت على مفهوم الأمن، أكثر منه على أساس إقامة العدل، وبكل أحجامها، ما زالت ضرورية لعملية حفظ التوازن الشكلي للعلاقات الخارجية بين الدول. ويمكن القول اليوم ان من النتائج المباشرة للحرب على الإرهاب والعدوان على العراق، تعزز مفهوم السيادة الافتراضية virtual للدول الضعيفة على حساب نظرية السيادة المباشرة للدولة العظمى. فقد أدى ضرب السيادة العراقية (إلغاء الجيش وحل المؤسسات الأساسية للدولة) إلى خلق وضع كارثي غير قابل للسيطرة، عزز فكرة أميركية بديلة تقول بضرورة تحديد معالم الدور والنطاق والتصور للسياسة الخارجية للبلدان الحليفة كما للبلدان الخارجة عن المنظومة، مع بقاء المفهوم التقليدي للأمن الداخلي للدولة. وهكذا تغير أسلوب الخارجية الأميركية في الحديث مع الحكومات أو المعارضات المعدة من الخارج بحيث تعطي الضوء الأخضر لمساعدتها ماديا وإعلامية ودبلوماسيا أو تحجب عنها النعم. وتعتبر من واجبها أن توجه لها الملاحظات سواء تعلق الأمر بهياكلها الداخلية أو العامة أو بسياساتها المزمعة.
في غياب الشرعية السياسية الداخلية، شكلت السياسة الخارجية أحد مصادر الشرعية للسلطة التنفيذية. فالصراع العربي الإسرائيلي والتوازن الاستراتيجي العربي الفارسي والجهاد ضد الغزو السوفياتي لأفغانستان أصبحت في أوقات مختلفة مصدر التعبئة الوطنية وبديل الدولة المواطنية. الأمر الذي أدى إلى كوارث كبيرة عندما نسيت الدول الأطراف أنها لا تتمتع بقوة داخلية (شرعية سياسية داخلية) تسمح لها بدور خارجي إلا ضمن رضا القوى العظمى. ما نراه جليا في اطمئنان الرئيس العراقي صدام لاحتلال الكويت بعد حربه مع إيران، أو غياب أي مبرر لاستمرار الوجود العسكري السوري في لبنان بعد تحرير الجنوب. مع ما حققت هذه التصرفات من نتائج كارثية على صعيد سيادة دول المنطقة، نتائج توضح مدى خطورة غياب الشرعية السياسية الداخلية على هوامش السياسة الخارجية. لكنها أيضا تحمل كل مخاطر الجنوح المقابل: أي شعور من استقوى من الضحايا بأنه قوي بالفعل. أي أن تتصرف مثلا إمارة الكويت كقوة إقليمية لمجرد قيام تحالف دولي واسع لإعادتها للوجود، أو يتحدث بعض المعارضين السوريين في الخارج بوصفهم راسمي معالم الشرق الأوسط الجديد. هنا تتم ولادة سيادة افتراضية مضخمة تحمل كل مخاطر التحطيم الذاتي.
لا يمكن أن نتعامل مع السياسة الدولية والإقليمية بمستوى القذافي أو عبد الجليل عندما نكون في دولة مواجهة مباشرة مع الإسرائيلي، وليس بالإمكان التضحية بوحدة الثوار لإرضاء الباب العالي أو طمأنة السيدة كلينتون. هناك صورتنا عن أنفسنا كمشروع ثورة ديموقراطية لا مجرد سماسرة إقليميين، وهناك الزمان والمكان والحاجة الوطنية الفعلية وقوة الموضوع في الوعي الجماعي أو قدرته على الاستقطاب الشعبي وقدرة أعدائه على تحجيمه أو ضربه كعناصر متحركة من الضروري أخذها بعين الاعتبار عند كل موقف استراتيجي هام في العلاقات الخارجية لسوريا الغد الديموقراطية.
هيثم مناع
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد