واحة الراهب: نكون أو لانكون

17-07-2007

واحة الراهب: نكون أو لانكون

كيف لنا أن نكون.. ونحن يتآكلنا هاجس أساسي, بات شعارا فنياً يوجه أهداف الكثرة منا لتحقيق وجودهم وهو (أنا ألغي الآخر, إذاً أنا موجود).

ورحم الله (كانْتّ) وكل من نادى بالفكر كجوهر للوجود, وأساس للتطور والعلاقات التنافسية الانسانية.‏

أما الآن فالإلغاء هو سيد الاحكام في العلاقات البشرية.. ننشأ على نسف الآخر إن كان مغايرا عنا قبل أن ينسفنا في سباق محموم وكأنه معركة وجود, لنثبت أننا هنا باقون وعلى أنقاض الآخرين قائمون, الدول العظمى على أنقاض الصغرى, والمواطنون على أنقاض مرؤوسيهم وزوجاتهم, وزوجاتهم على أنقاض ابنائهن, وأبناؤهن على أنقاض العالم كله إن اتيحت لهم الفرص المؤاتية.‏

ولم يعد ينأى عن ذلك الهاجس أي مهنة أو مجال, حتى الثقافة والفن والابداع والفكر, والمفترض بهم أن يكونوا بصيرة الانسان للوصول الى جوهر الحقيقة, أي الصراع من أجل الكمال, إذ تنطفىء باكرا جذوة تمرد المبدع -وهي الوقود الحقيقي لتطور المجتمعات الحضارية- ويستهلك ما تبقى من طاقاته الابداعية في تكريس احساسه بعجزه المستفحل والمتفاقم تضخما وطردا بقدر ضآلة المعارك المجانية التي يدفع لخوضها بعبثية فائقة توجه طاقاته وتستنفدها على حساب المعارك الكبرى التي تستهدف حقيقة وجوده في أن يكون أو لا يكون.‏

وبقدر ما يردم فوق تلك الجذوة المتمردة من رماد, بقدر ما تستعر جمرتها لهبا حارقا في معانده لإلغاء موتها الأخير عند أول مسرب لدفعة هواء.‏

وكلما أوغلت في محاولاتي لفهم هاجسي هذا وما يتبدى عن مظاهره كفعل ورد فعل حيال الالغاءات المتفاقمة (وعلى كل الاصعدة الذاتية والموضوعية) أدركت كم هي عظيمة قدرة الذاكرة العربية- من الانهزامات الكبرى لما قبل سقوط الاندلس إلى يومنا هذا-.‏

قدرتها على ايجاد الفوهات والنخور لتسريب ما يمكن أن تراكمه تجاربها من خبرة تنضج بحد ذاتها فعلنا ورد فعلنا, وتدرأ عنا خطر الوقوع في الحفرة ذاتها مرتين.‏

ذاكرة ترفض أن تفطم عن وهمها, بل وكأنها لم تخرج بعد سكينة رحم الأم وأمانه, لا تريد للعقل أن يخلخل مستقرها ويوقظها من سقم سباتها لتراكم التجارب وتواجه الواقع, وكلما أوغل الواقع أكثر في حدة تخلفه, كلما أمعنت في هروبها وغوصها في السبات العميق, حيث تطفو تماوجات أطياف غيبية تؤجج خدر الدماغ, وتستنفده باكتشاف فوهات أكبر ,وفتحات أكثر تضمن أقصى الافراغ للذاكرة من تراكماتها , حتى وإن كان تؤجل المصائب ولاتلغيها, وهكذا نجد أنفسنا نراكم المصائب فقط دون غيرها, وهكذا أيضا يصبح عجزنا مزمنا ويعجزنا عن إيجاد مخارج لخيباتنا اللا متناهية, إلا عبر التماهي مع ما ينقعون به أدمغتنا من أكاذيب مموهة تدغدغ وهمنا, فنعيش انتظارا لا متناهيا لغودو, أو لخلاص يأتينا من الفضاء أو من أي عالم جديد أو قديم.. لا دور لنا في صياغة خلقه أو حتى في رفضه, فنعوض عجزنا بانغماسنا أكثر في تقوقعنا على ذات تفاقم تضخمها بقدر الامعان في الغائها, فنخالها محور قرار الكون وسيدة هذا العالم الذي بدوره يمعن في نأيه عنا فما عدنا نحتسب إلا أرقاما في مصارفه المالية والسياسية والوجودية.‏

ويا ويل من تسول له نفسه أن يوقظنا من خدرنا.. يصبح عدونا الأول, نلغيه.. نحطمه.. ننسف حسناته.. نسربها عبر الفوهات والنخور المتكاثرة كالبثور الطفيلية المتقرحة تضخما على الذاكرة, وتحشذ كل عواطفنا لنغدقها على من يطفىء فينا جذوة الفكر, ويريحنا من الأمل بأن لأحلامنا جذوراً في الأرض منها وإليها المستعر.‏

وإذ بذاتنا تنقسم إلى ذوات متصارعة بين حلمها وفكرها الموءود, وبين ما تضخم في خفاء الباطن من الذاكرة, وما تراكم بسبب هذا الإلغاء والاقصاء والتفريغ, ذوات تتصارع مع محيطها أيضا من القوى الأصغر وحتى الأكبر التي تهابها وتعجز عن ردع أذاها والتي لم تعد تترك لها هامشاً للتعبير عن نفسها دون إلغاء إلا بما يخدم تجزيء ما تبقى من أجزائها المجزأة, ذاتياً وعرقياً ودينياً وطائفياً وسياسياً, ليصبح العراق أعرقة وعراقات, وفلسطين دولتين ثم دويلات, ولبنان ألبنة وكنتونات وكل ما تجود به التعددية الطائفية والعرقية والاثنية والسياسية حين تكرس تعدديتها لاقصاء الاخر وليس التعايش معه والاعتراف به.‏

- وهكذا يصبح أقرب لفهمنا ادعاء عالم نفس أميركي بأنه قادر على تصنيع شعب بأكمله بحسب المواصفات المطلوبة منه سياسيا أو اجتماعيا أم استعمارية أو حتى للاستمخاخ النفسي فقط.‏

ولو أن هول هذه الافكار وفداحة ما يدبر لنا من أفخاخ ومؤامرات خارجية استعمارية فقد قدرته على اقناع أحد بأنها وحدها من يفعل فعله بمصيرنا ووجودنا المتآكل نخرا من دود خله الذي منه وفيه, والقادر وحده إما على إجهاض أي حلم, وإما بإجهاض تلك المؤامرات والاستحكامات بمصيرنا, وفيتنام وكوبا وروسيا والصين واليابان وفنزويلا خير تجارب ماثلة للعيان.. تؤكد قدرة الشعوب على هذا الاجهاض, الذي يحول مجرى الصراعات التدميرية التجزيئية الى صراعات حيوية لتطوير المجتمع وتلاحمه.. صراعات لا تجهد في التنكر لمقاومته أو تسميتها إرهاباً.. ولا تحول الهزيمة الى نصر أو نكسة في أبسط الاحوال أو يميع أهم نصر تحقق في هذا الزمن العربي المهزوم.. نصر المقاومة الوطنية اللبنانية في تموز الفائت ضد العدوان الإسرائيلي على لبنان.‏

نصر على أعتى جيوش العالم من مقاومة في بلد لا يكاد يلمح جغرافيا على خريطة هذا العالم, نصر منبثق عن ثمرة الاعتراف بالآخر, نصر أعاد لأول مرة للعرب كرامتهم وألغى يأسهم وعجزهم, محطما اسطورة جيش العدو الإسرائيلي الذي لا يقهر, فتأتي عقلية الالغاء تلك لتحويل أشرف نصر الى هزيمة داخلية, عجز العدو نفسه عن تحقيقها بكل سلاحه وعتاده, هزيمة تقسم المجزأ وتجزيىء المبعثر وتطحن الأخضر باليابس.‏

لتعلن عن ذوات ملتهبة تقرحا نرجسيا تقول إنها موجودة فقط عبر الغاء الآخر واقصائه.. وإلا فالطوفان.. وعلي وعلى أعدائي يا رب.‏

فهل هكذا نعلن عن وجودنا في أن نكون في زمن العولمة المتوحشة.. نلتهم بعضنا البعض بانتظار ان نصبح لقمة أكبر لمن سيلتهمنا؟! أم ان ذواتنا المتضخمة قابلة للشفاء؟! أم أنه مؤشر للفناء العربي بأجمعه .. الهاجس الأكبر.. فلاتكون.‏

المصدر: الثورة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...