واشنطن تسحب قواتها من سوريا: «مفاجأة» استراتيجية
يُتقن دونالد ترامب لعبة شغل بال المراقبين. بالأمس أشغل كل دوائر القرار في العالم. أعلن ما لوّح به منذ أشهر: سحب القوات الأميركية من سوريا. لا تقديرات «البنتاغون» أو النصائح الإسرائيلية والأوروبية أثرّت بقرار الرجل. جملة «انسحاب القوات الأميركية رهن انسحاب الإيرانية» وُضعت في الأرشيف أيضاً.
القرار السريع و«المفاجئ» في انتظار ترجمة ملموسة على الأرض. ترجمة قد يبدأ صداها ببدء تحرّك القوات التركية نحو منبج. «البيت الأبيض» يشيع أنّ في ذلك اتفاقاً مع أنقرة، والفراغ الذي سيحدثه انسحابنا سيملؤه حليف من «الأطلسي»، لا حلفاء دمشق. هؤلاء الأخيرون كانوا أمس في صدد تقييم القرار الأميركي وبحث تداعياته والمآلات التي ستظهر شرقيّ الفرات. فشريكة موسكو في «أستانا» تتوجّه نحو «خيار أميركي» في الشمال السوري.
خيار سيظهر تأثيره على علاقة الطرفين وتنسيقهما، وخاصة في ملف إدلب. تبقى القيادة الكردية المسلحة الخاسرة الوحيدة، والتي بدأت تلمس هزيمتها المقبلة بعد حرق الأميركيين لما يعتبرونه «ورقة» فيما هم بكل سذاجة يرونه «تحالفاً استراتيجياً».
«هزمنا داعش في سوريا، المبرر الوحيد (بالنسبة إليّ) للبقاء هناك خلال رئاسة ترامب»؛ هكذا فسّر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، إعلان إدارته (مجدداً) قرار سحب القوات الأميركية المنتشرة في سوريا، المناقضَ (في الشكل) لكل الحجج التي ساقها مسؤولو وزارتي الخارجية والدفاع لبيانِ «خطأ» هذه الخطوة. طوال أشهر مضت، لم يفوّت معظم المسؤولين الأميركيين أي فرصة للحديث عن أهمية بقاء القوات الأميركية هناك، لضمان «مرحلة ما بعد داعش» و«تحجيم النفوذ الإيراني» و«تحقيق التوازن» مع الوجود العسكري الروسي و«حماية إسرائيل والحلفاء»، وغيرها من المبررات المفترضة التي تلت مرحلة «إقناع» ترامب بتمديد مهمة القوات على نفقة «الحلفاء» الذين دفعوا مبالغ طائلة تحت بند «تحقيق الاستقرار» في المناطق «المحررة حديثاً» من «داعش».
هذا الإعلان الذي سيحمل تغييرات كبيرة لمنطقة شرق الفرات، خاصة في ضوء التهديدات التركية المتنامية خلف الحدود الشمالية، جاء بداية عبر تسريبات من مسؤولين حكوميين، قبل أن يخرج عبر القنوات الرسمية من البيت الأبيض ووزارة الدفاع، ليظهر وكأنه قرار «توافقي». ووفق تصريحات عدة مصادر داخل إدارة ترامب، تناقلتها وسائل إعلام أميركية، فإن قرار الانسحاب اتّخذ قبل مدة، وكان يجري الإعداد لإعلانه بنحو منسّق، غير أن ترامب أصرّ على الكشف عنه سريعاً في هذا التوقيت. وزارة الدفاع الأميركية، بصفتها المعنية الأولى بتنفيذ القرار، أكدت في تصريحات للمتحدثة باسمها، دانا وايت، أن «التحالف الدولي حرر مناطق سيطرة داعش، ولكن الحملة على التنظيم لم تنتهِ بعد»، مضيفة أنه «يجري إعادة القوات الأميركية إلى الديار، مع انتقالنا إلى المرحلة الجديدة من الحملة». ولفتت وايت إلى أن تفاصيل الانسحاب لن تعلن لأسباب عملياتية مرتبطة بحماية القوات، مشيرة إلى أن بلادها ستواصل العمل مع الحلفاء لهزيمة «داعش» إينما نشط. وعقب هذا التصريح الرسمي من الوزارة، كرّت سبحة التصريحات من مسؤولين عسكريين وديبلوماسيين، التي تتحدث عن بدء سحب موظفي وزارة الخارجية من مناطق شرقيّ نهر الفرات، وعن جدول زمني للانسحاب يمتد بين 60 و100 يوم. ورغم أن التصريح الرسمي لم يذكر صراحةً أن الانسحاب سيكون لكل القوات، إلا أن عدداً من المسؤولين (ممن لم تُذكر أسماؤهم) أكد أن القرار المتخذ هو إجراء «انسحاب كامل».
وإلى جانب حساسية القرار بالنسبة إلى مستقبل منطقة شرقيّ الفرات وسوريا، فقد زاد توقيته من التساؤلات التي يسوقها إلى المشهد. إذ أعلنه بعد أيام قليلة على اتصال هاتفي بين ترامب ونظيره التركي رجب طيب أردوغان، وعقب ساعات فقط على إقرار صفقة منظومة «باتريوت» للدفاع الجوي بقيمة 3.5 مليارات دولار بين تركيا وواشنطن. وعلى خلاف ما تحدثت بعض الأوساط، فقد نقلت وكالة «رويترز» عن مسؤول في الخارجية الأميركية قوله إن القرار جاء بعد اتصال ترامب وأردوغان و«كل شيء حدث بعد ذلك هو في إطار تنفيذ الاتفاق الذي جرى التوصل إليه في تلك المكالمة»، لتعود وكالة «رويترز» وتنقل عن مسؤول أميركي رفيع تأكيده أن ترامب لم يناقش الانسحاب مع أردوغان قبل اتخاذ القرار، لكنه أبلغه بذلك، وهو ما يتساوق مع ما قاله الرئيس التركي سابقاً عن «الرد الإيجابي» الذي سمعه من ترامب حول العملية العسكرية المرتقبة.
وبينما التزمت أنقرة الصمت (حتى مساء أمس) تجاه القرار الأميركي، كان لافتاً أن ردود فعل القوى السياسية والعسكرية التي ترعاها الولايات المتحدة الأميركية في شمال شرقي سوريا، أظهرت أنها لم تكن على علم مسبق بنية الإدارة الأميركية. وهو ما خفف من زخم تصريحاتها الإعلامية. ومع بقاء تفاصيل الانسحاب المرتقب رهن الأيام القليلة المقبلة، نقلت وسائل إعلام أميركية تأكيدات من مسؤولين مطلعين، أن قرار الانسحاب سيشمل القوات العاملة في منطقة التنف، قرب الحدود السورية ــــ الأردنية ــــ العراقية، وهو تفصيل يطرح تساؤلات عن مصير الفصائل المسلحة العاملة هناك ومدنيي مخيم الركبان، ويعيد تسليط الضوء على مقترحات سابقة (لم تنفذ) تقضي بنقلهم إلى مناطق «قوات سوريا الديموقراطية» أو إلى مناطق النفوذ التركي.
وكما بدا القرار مربكاً للمؤسسات الرسمية الأميركية، لم يخرج أي تصريحات واضحة من حلفاء واشنطن تشير إلى مستقبل القوات العاملة ضمن إطار «التحالف الدولي». وخرج موقف يتيم من وزير الدولة في وزارة الدفاع البريطانية، توبياس إلوود، يعرب فيه عن مخالفته ترامب في افتراض «هزيمة داعش». وبينما شكّكت بعض التصريحات الرسمية الروسية في النيات الأميركية بإجراء انسحاب عسكري كامل، وذهبت أخرى إلى اعتباره «مساعداً لدفع العملية السياسية»، لم تعلّق دمشق على التصريحات الأميركية حتى وقت متأخر من ليل أمس. وبالتوازي، توافقت تعليقات معظم الباحثين في أبرز مراكز البحث الأميركية مع عدد من أعضاء مجلس الشيوخ والمسؤولين الحكوميين السابقين، على أن الانسحاب هو «تكرار خطأ» ارتكب مراراً في الشرق الأوسط.
ومن المؤكد أن النتائج المرتقبة للانسحاب الأميركي ــــ إن حصل ــــ مرتبطة بآلية تنفيذه، كذلك فإنها رهن خطط وتفاهمات اللاعبين المنخرطين في الملف السوري. وبدت التحركات الديبلوماسية الأميركية الأخيرة التي شملت جيران سوريا، وكأنها «إشهار» لنية الانسحاب المبيّتة لدى ترامب، ليفتح الإعلان السؤال عن مقاربة تلك الأطراف للواقع الجديد المرتقب. فأنقرة التي تعد العدة لدخول المناطق الحدودية بين نهري دجلة والفرات، تبدو أبرز المرشحين لاستثمار الخطوة الأميركية، ولا سيما وإن نفّذت بالتنسيق معها، بشكل يتيح للقوات التركية ملء الفراغ الذي ستتركه نظيرتها الأميركية تباعاً. كذلك، أكدت دمشق وحلفاؤها مراراً ضرورة عودة كل المناطق السورية إلى سلطة الدولة، وفي الوقت نفسه لم يغلقوا قنوات الاتصال مع «قوات سوريا الديموقراطية»، رغم التعثر الذي اعترض المحادثات أكثر من مرة.
الأخبار
إضافة تعليق جديد