وبقيت لوحات الطرق.. رافقتكم السلامة
في كل رحلة إلى مدن الساحل السوري، يكون هناك في الباص من يشاهد حرستا المُدمرة للمرة الأولى. مثيرٌ هو تأمل الوجوه التي تلتصق بزجاج النوافذ، تتابع بعيونها المُتسعة دهشة خط الدمار المُمتد على بلدة بأكملها. بصورةٍ أو أخرى يشعر الركاب بأنهم محميون داخل الحافلة، أجسادهم منكمشة في المقاعد، مختبئة في رحم الباص كما لو أنه أوكواريوم، لكن وبدلاً من مشاهدة كائنات بحرية تعوم من خلف زجاج، هم يتأملون بقايا الحرب التي خرجت من عقالها على تخوم دمشق، وظلّت تدخل إلى قلب العاصمة بصورةٍ أكثر حياء.
ما أهدأ الركام! الركام ساكنٌ الآن، كحجارة بازلت تركها بركانٌ ثائر قبل آلاف السنين، مستقرٌ على الأرض كما لو أنه وُجِد هكذا، رمادياً مبعثراً.. هو ساكنٌ إلى تلك الدرجة التي يصعب معها تخيّل المعارك والاشتباكات والعويل الذي أولده، تبدو أشلاء الأبنية متدلية من الطوابق المرتفعة؛ وكالاتٌ لسيارات سويّت في الأرض وبقيت شعارتها، مصانع تحمل الأسماء الأولى لأصحابها. أين ذهب الجميع؟ من مات منهم ومن أفلس؟ ماذا يفعلون الآن فيما تعبر حافلة تضم ركاباً مذهولين يتأملون ما كان ملكهم يوماً ما؟
عند أحد المنعطفّات لوحة تضمّ أسهمًا تتفرع باتجاهات ثلاثة: تدمر، العراق، دير الزور. حيادية اللوحات الطرقية مستفزة، كما لو أنها شواهد من زمنٍ آخر، تشير بلا مبالاة إلى أماكن زالت عن خريطة الواقع، وبقيّت في خرائط الذاكرة. مدنٌ أصبح من الصعب قراءة اسمها دون اعتصارٍ في عضلة القلب ورغبة بإغماض العيون أو إشاحتها.
في إحدى الاستراحات على طريق حمص، تصل شاحنة مُحملة بأكياس من القرمشلية الحمصية (حلوى من السكّر والطحين تمتاز بلونيها الأبيض والزهري الفاقع)، بالتزامن مع باص نقلٍ يقّلُ جنوداً بوجوهٍ كالحة، عائدين لتوّهم من إحدى ساحات المعارك في إدلب أو حلب. تبدو القرمشلية ملونة أكثر من اللازم، منتميةً إلى زمنٍ مضى، تحفّز ذكرى غامضة عن رحلاتٍ ليلية متأخرة وأطفالٍ توّاقين لرؤية البحر، فيما يبدو الباص المحمّل بالجنود متعباً مغبراً يدور ويلف في طرقات الحاضر بدون أن يستقر على وجهة.
طوال سنوات خمس، اقتصر السفر للأغلبية على ساعات النهار الأكثر أمناً، بحيث يظن المرء أن الطريق يتلاشى ويختفي بعد الساعة الخامسة مساء، كما لو أن الظلام والرعب يبتلعانه، لكن اليوم يستطيع البعض، في مناطق محددة من سوريا، معاودة السفر ليلاً، ليكتشفوا أن الطرقات ما زالت مكانها، تثقب ظلمتها الأضواء العاكسة كما دائماً. يعيد سكون الطريق الليلي ذكريات السفر في رحلات الحادية عشرة ليلاً في مقعدٍ أخيرٍ في حافلة بينما المطر يتساقط، والأفكار تضج في رؤوس المسافرين على وقع الإيقاع الرتيب لأغنية «نسيت النوم» لأم كلثوم تنبعث خافتةً من مسجلة السائق.
في مفاصل أخرى من طرق السفر من دمشق وإليها، يغدو الطريق مُعلّماً لجوجاً، أو جَدّاً من ذوي الحكمة يُثقل على عابريه بالدروس. من شباك باصٍ، قد يشاهد المرء شجرة واحدة دائمة الخُضرة تختصر بأغصانها متدرجة الألوان مصير بلاد الحرب، هناك الأخضر الذي بَهُتَ من القِدَمِ والغبار، وكلح لونه من الشمس وتقلّبات الطقس، ومن ثم أغصانٌ محترقة بكاملها جراء الاشتباكات والمعارك التي حدثت في تلك المنطقة، لا تزال بعضها ملتصقة بالشجرة الأم. وهناك أخيراً أغصانٌ غضةٌ خضراء، نَمَت مؤخراً بدلاً من أخرى تفحّمت وحالت رماداً، ماضي البلاد وحاضرها وربما مستقبلها يتفرّع أغصاناً مورقة من جذع شجرة تراها وأنت تدخل إلى دمشقٍ التي ترحب بك قادماً من مدنٍ قصية أخرى ودعتك بلوحات طرقية مقتضبة كُتب عليها: «رافقتكم السلامة».
نور أبو فراج
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد