سوريا في البرازيل (2)
كنت أضع دمشق بقلبي والبرازيل في عيني وأنا أنظر إلى جمهور البرازيليين المنحدرين من أصلاب السوريين في كنيسة مار جرجس في برازيليا.. وكان الأب خوان يجلس إلى يساري يتأمل أبناءه الذين لم ينجبهم ولكنه يربي أرواحهم للارتقاء بثقافتهم الروحية في بلد أكلته المادة كما تأكل البقر عشبها في غابات البرازيل الشاسعة..
ففي اليوم الأول من وصولنا تعرفنا على نخبة من شخصيات الجالية السورية في عشاء دعا إليه السفير السوري في البرازيل د. محمد خضور، وأغلبهم ينتمون ثقافياً إلى التيار القومي السوري الاجتماعي، برعاية دونا سلام، السيدة الثمانينية التي مازالت تذكر أحاديث الزعيم أنطون سعادة عندما كانت طفلة وتتقمص شخصيته الأبوية كما لو أنه مازال حياً يبعث الهوية السورية فيما تبقى من ولاء الأبناء للآباء الذين جاؤوا قبل قرن من الزمان.. الأب خوان المولود في تشيلي لوالد من أصل سوري، قال لي أثناء العشاء أنه ترك بيت والده قبل أربعين عاماً وهو يجوب العالم باحثاً عن تقاطع الإشارات الخفية بين التاريخ والجغرافيا وشرح لي تأويلاته حول بعض المجازر الإسرائيلية في فلسطين.. ومن خلال هاتين الشخصيتين، بين عشرات المدعوين، كونت صورة عن بنية الخطاب الذي سأفتتحه مع الجالية ، وقررت استخدام الأسلوب الحكائي باللهجة العامية، فقلت:
بالأمس تحدثت مع الأب خوان حول الإشارات الإلهية ودلالاتها الدنيوية، ولأني نشأت في مدرسة صوفية حروفية، سأدخل أبواب دمشق معكم عبر مفاتيح الإشارات الخفية التي تتقاطع فيها خطوط التاريخ الطولية مع خطوط العرض الجغرافية ، فلطالما كنت أتوقف أمام الكنيسة المريمية في سوق مدحت باشا حيث يمتد الشارع المستقيم ، أقدم أوتستراد في العالم مازال يمشي عليه البشر منذ خمسة آلاف عام، في المدينة الأكبر سناً والأعتق عمراً فوق هذا الكوكب، دمشق القديمة التي دخلها العرب المسلمين وتوقف الجيش الإسلامي عند القوس الروماني مقابل الكنيسة بعدما فتح أسقف دمشق (العربي) الباب الشرقي لخالد بن الوليد وأبي عبيدة بن الجراح فدخلوها سلماً وسمي باب السلام وأعطي المسيحيون عهداً بالحفاظ على كنائسهم وأعمالهم تقديراً لعصبيتهم العربية التي دفعتهم للتعاون مع المسلمين العرب ضد المسيحيين الرومان..
هناك، على كتف الكنيسة المريمية ترتفع مئذنة إسلامية من دون قبة أو جامع بخلاف المآذن الإسلامية عبر التاريخ، وقد استمرت هذه المئذنة كتوقيع للمصالحة والتعايش بين الديانات حتى يومنا هذا، حيث يمكننا رسم صليب يتقاطع بين الكنيسة والمئذنة ويقسم دائرة دمشق القديمة إلى أربعة أقسام: الشمال الشرقي يتوضع فيه المسيحيون، وحي اليهود في الجنوب الشرقي، وحي الشاغور السني في الجنوب الغربي، فيما يتوضع الشيعة في الشمال الغربي، بينما يجمع سوق مدحت باشا بين مصالح الجميع المزدهرة بالتعاون بين التجار ورجال الدين والعسكر الذين يعبدون ربان: الله والمال، ولهذا استمرت دمشق في الحياة عبر آلاف السنين برعاية غرفة تجارة دمشق التي روضت الجميع منذ أيام الإسكندر المقدوني عندما كانت تتحدث دمشق باليونانية وحتى أيام البعث العربي الاشتراكي الذي كان يمتطي الاشتراكية باسم العمال والفلاحين ولم يشذ عن القاعدة التي رسمتها روح التجارة .. وهذا أحد أسرار دمشق الخفية، دمشق التي تشكل رحم أمنا سوريا في قلب العالم القديم حيث تلاقحت فيه بذور كل القوميات والطوائف العابرة والمقيمة حتى شكلت نموذجاً للتاجر الدمشقي الفريد في العالم، التاجر الذي لا يفلّس أبداً وفي ظل كل الظروف السيئة والجيدة.. فسياسة دمشق من سياسة تجارتها، تلعب على التوازن وإن كانت تصرح بغير ذلك، وتبقي على الخيط الذي يصلها بالأعداء قبل الأصدقاء، وهو ما يسمى في السياسة بشعرة معاوية ابن أبي سفيان الذي اكتشف قبلي بعض أسرار دمشق وكان أحد أدهى حكام بلاد الشام منذ 1400 عام حيث قال: لوكان بيني وبين الناس شعرة لما انقطعت، فإذا شدوها أرخيتها وإذا أرخوها شددتها.. وهذا أيضاً أحد أسباب صمود دمشق اليوم في الوقت الذي سقطت فيه العديد من العواصم العربية بأيدي السلفيين...
كذلك كنت آخذ العديد من زوار سوريا الأجانب إلى الشارع المستقيم، كما أخذتكم الآن إليه، لأشرح لهم بتفصيل أكبر سر التعايش بين السوريين، ولأقول لهم أنه لم تنشب سابقاً ولن تنشب لاحقاً أي حرب أهلية، وما يجري في حمص إن هو إلا صدام بين سفلة الطوائف ومجرميها، ممن يغذيهم المال السعودي والدعم اللوجستي التركي، ويدمر حياة الناس دون النظام.. ولهذا فقد استيقظ مجمل السوريين، من معارضين ومؤيدين، على ما يحاك لهم ولوطنهم ، فوجهوا جهودهم نحو الإصلاح الذي كان مطلبهم منذ البداية، ثم جاء آخرون فامتطوها وجعلوا من إسقاط الدولة هدفاً لهم، لكنهم فشلوا حتى الآن، لأن الشعب هو خط الدفاع الأول عن وحدة وسيادة الوطن، وهو داعم للجيش في جهوده، الجيش المؤلف من كافة أطياف الشعب السوري.. و رحلتنا إليكم هي بهدف دعم أسر شهداء الجيش والشرطة عبر مبادرة الوفاء التي ستتحدث لكم عنها السيدة رمال صالح ..
رمال صالح: (المبادرة وليدة الأحداث تعنى بكل الشهداء مدنيين ومن رجال قواتنا المسلحة.النشاطات التي قمنا بها: زيارة 42 أسرة في مدينة طرطوس وتقديم المعونة لهم، و16 أسرة في مدينة السويداء وتقديم معونة مادية 100000 ل.س، التواصل مع أسر الشهداء,حيث كنا همزة وصل بينهم وبين أجهزة الدولة ليتمكنوا من قضاء الأمور التي هم بحاجة إليها، شاركنا في فعالية باص العيد الفطر والأضحى في مدينة دمشق، شاركنا في باص العيد باسم الشهداء في مدينة دير الزور، وكان لنا شرف المشاركة في ترميم دار الأمان.التي طاولتها يد الإرهاب الغادر بحي كفر سوسة، قمنا باستئجار بعض المنازل للأسر المتضررة في مدينة طرطوس، كان لنا شرف المشاركة في كل الاحتفالات والمسيرات الشعبية في كل المحافظات والتي تدعم مسيرة الإصلاح بقيادة السيد الرئيس بشار الأسد، المشاركة في فعالية خبز وملح بالتعاون مع دار الفنون، للمبادرة مكاتب في كل محافظات القطر، نقوم حاليا بإنشاء صندوق مالي أطلقنا عليه اسم صندوق الدعم المالي لأسر وأهالي الشهداء. هذا الصندوق يقوم بتقديم قروض طويلة الأمد دون فوائد لتشغيل المشاريع التعاونية الصغيرة، قمنا برفقة وفد وطني يضم بعض الشخصيات المعارضة الوطنية بزيارة دولة فنزويلا واجتمعنا بالجالية السورية وشرحنا بوضوح وشفافية ما يجري على أرض سورية وتواصلنا مع بعض منظمات حقوق الإنسان ومنظمة الصليب الأحمر وقدمنا لها بالصور والوثائق الجرائم التي ترتكبها العصابات المسلحة ضد المواطنين السوريين. وتقدمنا لهذه المنظمات بدعوى قضائية ضد جميع الإرهابيين والمسلحين ومن ساندهم وحرضهم سياسيا ودينيا وضد كل من انتقص وأساء للشعور الوطني وكرامة السوريين،قمنا بتقديم المساعدات المادية والسلل الغذائية في كل من محافظة درعا وحمص واللاذقية بالإضافة إلى استقبال المرضى والقيام بالعمليات الجراحية لكل من كان بحاجة إليها).
رحاب ناصر: أعمل مديرة لدار الفنون التابعة لمنظمة الشبيبة بدمشق ومشاركة في دعم مبادرة الوفاء لأسر الشهداء بحيث تغدو مؤسسة نظامية متخصصة في القضايا الإنسانية والإجتماعية لأسر الشهداء.. كنا كدار للثقافة والفنون ننشط في مجال الموسيقى و التدريب المسرحي، ثم حولنا نشاطنا بعد الأحداث في سوريا إلى مجال المساعدات الإنسانية للمتضررين بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية، حيث أطلقنا بالتعاون مع عدد كبير من المتطوعين السوريين مبادرة "خبز وملح" وانضمت إليها جمعيات تطوعية سورية أخرى تضافرت جهودها لتأمين احتياجات المهجرين من المناطق الساخنة بالتعاون مع المؤسسات الرسمية، ونقوم بالإشراف على تأمين سكن مؤقت وتوزيع المساعدات لآلاف الأسر المنكوبة داخل سوريا، والعمل على التأهيل النفسي والإجتماعي للمنكوبين ، ويسرني تقديم أي معلومات أوتفاصيل قد تسألون عنها بهذا الخصوص.
.. وكان صمت وتأثر ورأيت دموع بعض السيدات ، وكنت أتأمل جمهور الحاضرين و أفكر أنني يجب أن أكون جالسا بينهم منذ زمن طويل، فأنا أكثر اغترابا منهم في وطني، السلطات آذتني بالأمس والمعارضات تؤذيني اليوم، ولكن ما ذا أفعل إذا كان فؤادي، كما جوانحي مقصوصة بالشام.. يتبع
تنويه: القراء الأعزاء سنتابع نشر حلقات (الوهابية السعودية والإسلام الشامي) بالتداول مع يوميات رحلتنا إلى البرازيل.
التعليقات
هناك الكثير منا ممن تعبت
نيالك
البرازيل
أعمال مباركة
شكر من القلب للأخ الغالي أ. نبيل
الأخ نبيلوقعت منذ قليل، و عن
كالعادة ..تصعيدٌ فاشل ..وإرادة كالصّوان.
معادلة سوريّة..
بعد إنغماس طويل لجميع
جيشنا فخرنا
شكر وتقدير
الأستاذ الكريم syrian rango : تم نشر المادة التي تفضلت بترجمتها في قسم دراسات الجمل تحت عنوان : "كيف تكتب مسودات التاريخ" نأمل تعميم هذه المبادرة من قبل قراء الجمل المختصين دعما لرسالة التنوير التي ينتهجها الموقع مع الشكر .
قادتني القراءات بالأمس إلى
خبطة قدمكم على الأرض هدّارة --- إنتوا الأحبة و إلكم الصدارة
تساؤل مشروع!
كونفوشيوس ..و حبس الأنفاس.
شرمطة ...
الصياد و فرق الحياة
اندهاش
إلى nebuchadnezzar بتاريخ
العزيز " صياد جبلي" بداية
توضيح.
الحولة ومزرعة قبير
إضافة تعليق جديد