الإمبريالية تغتال الحكايات (3)
الجمل- آندريه ڤلتشيك*- ترجمة: د. مالك سلمان:
غالباً ما أفكر في القصص الحقيقية في هذه الأيام المظلمة من "الطلبَنَة" الغربية للكوكب. أستمد منها الإلهامَ والتفاؤل.
منذ وقت ليس ببعيد, حوالي عشرين سنة فقط, في بداية التسعينيات من القرن الماضي, كنت صبياً, مراسلاً شاباً يغطي قارة أمريكا الجنوبية.
لن أنسى ما حييت حيوية وحماسة وشجاعة الناس الذين قابلتهم في تشيلي, والأرجنتين, والبيرو, وكولومبيا. كانت روايتي, "نقطة اللاعودة" المتمردة التي تتم إعادة تقديمها لقراء الإنجليزية الآن بعد تنقيحها بشكل كامل, متأثرة إلى درجة كبيرة بتلك الأيام التي قضيتها في أمريكا اللاتينية.
كانت تشيلي والأرجنتين تستفيقان لتوهما من كوابيسهما المرعبة, من نظامين دكتاتوريين مدعومين من الغرب. كان كلا البلدان يحاولان التأقلمَ مع ماضيهما وإعادة بناء مجتمعيهما.
كانت البيرو لا تزال فريسة "حرب قذرة" وحشية.
كانت القصص في كل مكان؛ كانت تبحث عمن يرويها, وتتنافس على لفت انتباهنا, وتطاردنا.
كنت لا أزال أعيش في نيويورك وقتها, حيث تعرفتُ على عدد من الكتاب وصناع الأفلام الطموحين, وكان معظمهم يتذمر باستمرار أنه "لا يعرف عماذا يكتب".
كانت تلك أيامَ ما بعد ريغان, حيث كانت نيويورك متشظية ومجزأة ومليئة بالأحياء الفقيرة والناس المشردين؛ أناس يتعفنونَ على مداخل أنفاق القطارات, رجال ونساء يموتون وحيدينَ, بعيدينَ عن عائلاتهم ومجتمعهم. لكن الكتابَ كانوا يرفلونَ في نعمة عدم معرفة ما عليهم أن يقولوا!
كانت تلك فترة تعزيز "الإمبراطورية" لقوتها في الخارج, من جنوب أفريقيا إلى أفريقيا الوسطى إلى جنوب شرق آسيا والشرق الأوسط. وكان الاتحاد السوفييتي, البلد الذي ولدتُ فيه, يتحلل بعد المصيدة الأفغانية, تحت الحكم الفظيع لرجل ساذج معتوه, ومن ثم تحت حكم معتوه آخر, رجل متوحش مدمن على الكحول تحت رعاية الغرب.
كنت أتنقل بين اليقظة في أمريكا اللاتينية والتعفن التام في الغرب, حيث كان الكتابُ منشغلين في المعاناة من أزمات الهوية عن ملاحظة ما يجري في العالم!
* * *
أتذكر النشوة التي اعترتني في مرتفعات "الآنديز". ليس بسبب الحرب طبعاً, ولكن بفضل القصص, كمٍ كبير من القصص, كان معظمها حقيقياً.
هناك, كان الهواء رقيقاً, وكذلك كانت الدعاية الأنغلو – أميركية. هناك, كانت القصصُ ممسكة بناصية الحياة.
كان الناس يتكلمون. وكنت أستمع إليهم. كان الأمر كالمعتاد, منذ آلاف السنين, وكان كل شيء في مكانه الطبيعي. تعلمتُ كيف أقص الحكايات في جبال "الآنديز" البيروفية والبوليفية. وتعلمت الاستماع. أحياناً كنت أمضي الليلَ بطوله لكي أسمعَ قصة واحدة بسيطة وقصيرة في كوخ طيني, لكنها كانت دائماً تستحق العناء.
في إحدى الليالي, غادرتُ أنا ومصوري الإنكليزي مدينة "آياكوتشو" في منتصف الليل ونحن نرتجف حتى النخاع.
قبل يومين, تم إيقافنا من قبل جماعة "الدرب المضيء" ("سينديرو لومينوسو"), حيث تمت محاكمتنا بسرعة على جانب الطريق, ومن ثم حُكمَ علينا بالموت. صحيح أننا نجحنا في إقناعهم بعدم قتلنا, حيث شرحنا لهم بصدق أننا لا نطيق الرئيسَ فوجيموري ولا إمبريالية "اليانكي" الأمريكية. لكن كنا مازلنا تحت تأثير الصدمة, حيث كان من الممكن لحياتنا الشابة أن تنتهي هناك, عند المنعطف, في رفة عين.
"آياكوتشو" تعني "زاوية الموت", وهي مكان جميل وملعون في أعلى الجبال, يقطنها السكان المحليون الذين عانوا لقرون من الكولونيالية والأخلاقيات الإقطاعية التي تلتها.
كان الظلام حالكاً, وأشعلنا كافة مصابيح سيارة "اللاندروفر", ونحن نرتجف من غثيان المرتفعات, ونقود بسرعة كبيرة لكي "نطيرَ" فوق الطريق الترابي الوعر. كنا نعد دراسة لمجلة إخبارية شهيرة, وكنا شباناً, ولم نكن لنتراجع عن هدفنا.
عند أحد المنعطفات, رمت امرأة عجوز محلية نفسَها تحت عجلات سيارتنا, ثم ركعت متوسلة. ضغطت على الفرامل بقوة. من الممكن أن يكون ذلك فخاً نموذجياً؛ ويمكن أن يعني نهايتنا. لكن المرأة كانت تنوح وتتألم, كانت حاملاً وأشارت إلينا أنها تعاني من آلام المخاض. ثم ضمت يديها متوسلة إلينا بقوة.
توقفنا. لم نكن نعرف ما علينا أن نفعله. مراسلان صحفيان قويان في سيارة كبيرة مع كل تلك المعدات في داخلها, يائسان تماماً, مرتبكان, غبيان في مواجهة حياة جديدة تتوسل مساعدتنا.
حملناها إلى السيارة, ووضعناها في المقعد الخلفي, فقط لكي نفعل شيئاً ما, وبعض الأغاني التشيلية من مسجلة السيارة. حاولنا التخفيفَ عنها.
ما تلا ذلك كان فوضى, فوضى عارمة! ومن رحم تلك الفوضى ولدت طفلة. ولدت حية وعاشت؛ فعلنا كل ما بوسعنا لكي نجعلها تعيش. كان كلانا - شابان يحكيان النكات الفظيعة قبل دقائق قليلة, بينما كانت أعيننا مثبتة على الطريق الترابي على ارتفاع حوالي 4000 متراً, يبحثان عن دوريات عسكرية عنيفة – يقفز الآن حول تلك الأم الطيبة بخديها الحمراوين والعرق المتصبب من جبينها, ويحاول أن يقدم أية مساعدة ممكنة.
في النهاية أخذنا الاثنتين – الأم ووليدتها الصغيرة – إلى القرية المجاورة, حيث وجدنا قابلة أبدت رغبتها في المساعدة. فشلنا كمساعدين على الولادة, لكننا شعرنا بفخر كبير لأسابيع طويلة, ولا تزال الطفلة تعيش في ذاكرتي, بصفتها أجملَ وأعزَ طفل على الإطلاق.
كانت تلك إحدى أروع القصص التي عشتها, بسيطة ونقية مثلَ نبع ماء, هناك في أعالي الجبال.
لاحقاً, رأيت مشاهدَ مماثلة في الأفلام. كان الرجال الذين يقدمون المساعدة دائماً مرتبكينَ ومضحكينَ وغيرَ واقعيينَ على الإطلاق.
لم نكن متوازنين وعقلانيين أبداً. كانت حرباً, حرباً شرسة, وكان الجو بارداً وكان الرجل قد ترك امرأته وحيدة, أو ربما طردها من منزله ... لم تكن قصة سعيدة, لكنها كانت إنسانية, وفي النهاية كانت قصة جيدة, وربما جعلت منا نحن الاثنين رجلين أفضل مما كنا عليه.
بعد ذلك, رأيتُ الموتَ في مناسبات عديدة جداً, وكانت رؤيته ضرورية. لا أندم على رؤية الموت, لأن العالم مرتبٌ بهذه الطريقة, ولا يمكنني أن أكتبَ عن أشياءَ لم أشهدها.
كل من شارك في الحروب يعرف أن الطريقة التي تصورها فيها هوليوود هي, ببساطة, محض كذب. وصفت الحربَ في روايتي "نقطة اللاعودة", وأنا أصفها مرة ثانية, الآن, بالتفصيل, في روايتي الأخيرة المكونة من 1000 صفحة.
من الضروري الكتابة عن الحرب, عن القصص التي يعيشها المرء أثناء المعركة وفي مدن وقرىً مدمرة. لأن جميعَ الحروب في التاريخ الحديث من صنعنا نحن الغربيين. لأن "ثقافتنا", ووحشيتنا, وجشعنا, أودت بحياة مئات الملايين من البشر في كافة أرجاء العالم.
أصبحت حروبُنا "الحقيقية" "نائية" الآن. اخترعنا "القصف السجادي", وألقينا قنبلة ذرية, وقتلنا الملايينَ من الرجال والنساء والأطفال في الهند الصينية. قتلنا معظمهم بواسطة وحوشنا الطائرة التي ألقت ملايينَ الأطنان من الفولاذ فوق القرى والبلدات الفقيرة المليئة بالناس الذين كانوا يسعون إلى الحرية, الحرية من هيمنتنا ومن إرهابنا.
والآن نستخدم الطائرات الآلية ("درونز"). حتى أننا لم نعد نجرؤ على إرسال خرائنا المعدني الثقيل.
وكل ذلك لأننا جبناء, ولأن ثقافتنا هي ثقافة المستبدين والضعفاء. ولكي تدركوا ذلك, فإن الطريقة الوحيدة لكي تفهموه هي القراءة ومشاهدة القصص الحقيقية لأولئك الذين نقتلهم ونعذبهم.
لكننا نرفض ذلك. نسدُ آذانَنا براحتي يدينا. نرفض أن نستمع إليهم وهم يتكلمون ويضحكون, ونتأكد من أننا لا نسمعهم وهم يبكون ويصرخون. إننا نقتلهم, لكننا نفعل ذلك "بطريقة جراحية", من مسافات بعيدة, بينما نشاهد على شاشات تلفزيوناتنا العناكبَ الضخمة وهي تلتهم مدنَنا, وبينما نحشو بطونَنا بأغذية معلبة ومفرَزة, وبينما نشتري الألعابَ لأطفالنا الصغار – ألعاب لم تعد تمتلك القلبَ أو الروح.
تحوَلنا إلى معاتيهَ فعليين, حتى أننا نقتلُ كما يَقتلُ المعاتيه.
صنعَ أوليڤر ستون أفلاماً عن الطرق التي "خضنا" بها الحروب. كانت أقربَ إلى الواقع. كما أنها كانت استثناءً, ولم يُعجَب الكثيرُ من الناس بما شاهدوه.
خاض الشعبُ السوفييتي حروباً حقيقية وأنقذوا كوكبَنا. كما ساعدوا في تحرير العشرات من البلدان من ربق الكولونيالية الغربية. ومن دونهم, لما كانت هناك حرية في أفريقيا, والشرق الأوسط, ومعظم أجزاء أسيا. لكن هذه الحقائق مُغَيَبَة ولا يمكن ذكرها.
ما لا يمكن ذكره أيضاً هو المساهمة البطولية, والمتواضعة, للشعب الكوبي في النضال الأفريقي التحرري.
صنع السوفييت أفلاماً عظيمة عن القتال وربح الحرب أيضاً, وعن إنقاذنا من الفاشية. ومن بين هذه الأفلام: "طيور الكركي", "أنشودة الجندي", "الفجر هادىء هنا", ... .
هذه القصص الروسية الرائعة غير معروفة على الإطلاق, من الأفلام أو الروايات الحديثة, وحتى أفلام الكرتون الرائعة التي صنعوها للأطفال.
إن الغربَ, الذي حارب ألمانيا النازية في البداية بشكل غير جدي بينما كان يرتكب الجرائمَ الفظيعة ضد الإنسانية في الشرق الأوسط وأوقيانوسيا, عملَ على مسح الأرض بكل شيء مرتبط بالنضال البطولي لروسيا السوفييتية, وهو يستخدم التكتيكات نفسها مؤخراً ضد الصين وأمريكا اللاتينية, وخاصة كوبا.
كوبا هي العدو الأكبر, وهي بلد عمل النظام الغربي على شيطنته وحاولَ تدميرَه بالأسلحة الكيماوية, والإرهاب, والدعاية المتواصلة.
لماذا كوبا؟ لأن كوبا تمتلك ثلاثة أشياء يفتقر إليها النظام الغربي: عندها قلب, وإنسانية, وشجاعة.
* * *
هل هناك أي معارضة حقيقية, أو حتى نقد ذاتي في الغرب؟ أم هل أن الغرب أصبح, وبشكل متسارع, يشبه حليفه القديم – "الطالبان"؟
لا تصور أية أفلام العرقية العلنية لونستون تشيرتشل ونظرياته المتعلقة ﺑ "العروق المتوحشة الأدنى", أو العديد من الوحوش الكولونيالية الأخرى من أمثال رئيس الوزراء البريطاني ديفيد لويد جورج الذي عملَ, أثناء قصف بلاده للمدنيين العراقيين في أواسط العشرينيات من القرن الماضي, على قتل مشروع دولي يحرم القصف الجوي بعبارة "علينا الاحتفاظ بحقنا في قصف الزنوج." لا يُسمَح بترسيخ أي قصص تكشف عن الإرهاب الذي مورسَ على المستعمرات, وبشكل عملي على كافة أنحاء العالم, في البنية النفسية للأوروبيين والأمريكيين الشماليين.
إن تمائيلَ ونُصُبَ أسوأ العرقيين والمجرمينَ تزين لندن وبقية المدن البريطانية اليوم, مثل تماثيل الملك البلجيكي ليوبولد الثاني, مرتكب المجازر الجماعية والمسؤول عن ذبح 10 ملايين كونغولياً وقطع أيادي من لم يعملوا بسرعة كافية لملء خزائنه, الموزعة في كل مكان من مدينة بروكسل.
لم يتم سرد أعظم وأفظع قصة, قصة استعباد العالم من قبل المستبدين الأوروبيين, ولاحقاً من قبل المستبدين الأمريكيين الشماليين. كما يتم تهميش وقمع قصص المقاومة ضد هذا الإرهاب المستمر وغير المسبوق.
* * *
وها أنا ذا مرة أخرى, في مصر.
تحرك عربة مصفحة قبيحة مدفعَها يمنة ويسرة, وكأنها تبحث عن شيء ما, عن أحد ما. مرت بالقرب مني, وتمكنت من رؤية سبطانتها من الداخل بشيء من الوضوح. لم تتوقف؛ تجاهلتني, بما أنني لم أكن الشخصَ الذي تبحث عنه.
أتابع عملي, ببطء, ألتقط الصور وأصور, ثم ألتقط الصور ثانية. أعمل بشكل رتيب, وأحسب كل خطوة أقوم بها.
ثم يضربني شيء ما في صدري. لا أشعر بأي ألم يذكر, مجرد ألم خفيف, ألم بسيط.
اعتقدت أنها رصاصة؛ يقولون إن المرءَ لا يسعر بألم شديد في البداية, في الثواني الأولى التي تلي التعرضَ لإطلاق النار. لم أرغب في النظر إلى مكان الضربة, فإن أصبتُ برصاصة في صدري, سوف ينتهي كل شيء في الحال: حياتي الجنونية, وكل تلك المغامرات والمعارك التي عشتها منذ أن كنت طفلاً. وهكذا تابعت عملي, بفعل العطالة.
كان هناك دخان مقرف يغطي الشارع كله وسرعان ما أدركت أنني لم أصَب بطلقة, بل بعلبة غاز مسيل للدموع.
كنت حياً, وفجأة, وكأنني أحتفي بتلك الحقيقة, بتلك المعجزة, تذكرتُ تلك الكلمات المكتوبة بالرصاص على الصفحة الأخيرة من رواية "نهر النار".
وتذكرت وجه فتاة, خادمة تدعى راتان, من فيلم "مدير مكتب البريد", وهو الجزء الأول من ثلاثية أخرجها أحد أروع صانعي الأفلام في التاريخ – ساتياجيت ري. تذكرت قصتها, المأخوذة عن طاغور:
يأتي مدير بريد جديد من كلكتا إلى قرية صغيرة. "يعطونه" راتان الخادمة اليتيمة. يعاملها بلطف؛ لا يضربها كما اعتادَ "صاحبُها" السابق أن يفعل. لكنه يشعر بالملل في القرية. يبدأ في تعليمها القراءة والكتابة. ويتحدث معها. يترقبان معاً قدوم عاصفة مخيفة. يمرض الرجل. تنتقل إلى منزله؛ تبقى إلى جانبه, ليلاً نهاراً, مستيقظة, وتنقذ حياته. تقع في حبه, لكنها لا تتلفظ بكلمة حميمة واحدة. يتعافى الرجل, ويقرر الرحيل. يصل إلى القرية مدير بريد جديد. تلتقي بحبيبها في طريق فارغ وهو في طريقه, تاركاً القرية. تنظر إليه, للمرة الأخيرة. يتوقف, ثم يتابع طريقه. هذه واحدة من أجمل اللحظات في تاريخ السينما العالمية.
"يا لها من قصة", أقول لنفسي. "يا لها من قصة هائلة!"
كان الدخان يغطي سطح الشارع كله الآن. فكرت لجزء من الثانية, "ماذا أفعل هنا؟"
ولكن في دخيلتي كنت أعرف الجواب: كنت على الخط الأول, طيلة سنوات, أصارع الموت من أجل الحصول على قصص حقيقية. كل أولئك الناس من حولنا, الخائفين والمذلولين بإنتاجات تكلف الملايين قادمة من "هوليوود" و "ديزني", بكل أحاسيسها المزيفة وصخبها, وأكاذيبها.
بينما كنت أراقب المدفع, فكرت أن الفلاسفة, وليس ساردي الحكايات فقط, صاروا "بضاعة قديمة". فقد اكتسب الاثنان هوية الألعاب الخشبية, المصنوعة بحُب والتي أصبحت خارج الموضة الآن, وغرقت في عالم النسيان في هذا الواقع المزيف, على يد الإعلام الإلكتروني, الذي قلصَ العواطفَ والتواصلَ الإنساني إلى مجموعة من الاختصارات والرموز المفككة التي تشبه النباح.
أغلقت غطاء الكاميرا. سجلت كاميرتي الثقيلة لحظة – فتاة صغيرة تتمسك بأمها, والغاز يحرق عينيها. لكن قصتها, قصتها الصغيرة والحقيقية: كيف يمكن لها أن تنافسَ بعض الحشرات العملاقة التي تغزو الأرض؛ كيف يمكن أن تنافسَ كاليفورنيا برمتها وهي تسقط عن الجرف في تلك الأفلام القيامية الهوليوودية.
لكي أتمكنَ من تسجيل كل تلك القصص المتلاشية, كنت أتنقلُ بين مناطق جغرافية مختلفة تماماً, في بعض أصعب مناطق العالم, في مناطق النزاع وساحات الحروب. كنت مدفوعاً بكرهي الشديد للواقع الافتراضي, الذي يحاول قتلَ التعاطف, والآمال, والأحلام, وحتى الحب. ومن نافل القول إن الواقع الافتراضي يبغض أشخاصاً من أمثالي.
سويتُ قميصيَ الوسخ وتفحصت عدساتي. كانت كلها سليمة. كانت الكاميرات تعمل. وكان جسدي يعمل. كان اسمُ الفتاة في الفيلم الذي أخرجه ري هو راتان. وكانت الكلمات في نهاية "نهر النار" تقول: "دي. كي. 30-9-99-24036". بغض النظر عن معناها.
تحرك المدفع مرة أخرى, هذه المرة من اليمين إلى اليسار. ومرة أخرى, لم تتوقف. كنت حياً. وكان قلبي لا يزال على الناحية اليسرى, وكان يدق بانتظام, يضخ الدمَ الأحمرَ عبر عروقي. ولم أكن سأتوقف عن سرد القصص "الحقيقية", طالما أن هناك حركة في الجانب الأيسر من صدري المليء بالحياة.
* آندريه ڤلتشيك روائي, وصانع أفلام, وصحفي تحقيقي. غطى الحروب والنزاعات في عشرات البلدان. لاقت روايته "نقطة اللاعودة" إقبالاً وشهرة كبيرين. يتناول كتابه "أوقيانوسيا" الإمبريالية الغربية في جنوب الباسيفيك. كما يتناول كتابه "إندونيسيا – أرخبيل الخوف" إندونيسيا بعد سوهارتو, ونموذج السوق الأصولي. انتهى من الفيلم الوثائقي "مناورة راوندة" حول التاريخ الراوندي ونهب جمهورية الكونغو الديمقراطية. بعد أن عاش عدة سنوات في أمريكا اللاتينية وأوقيانوسيا, يعيش ويعمل الآن في آسيا الشرقية وأفريقيا.
تُرجم عن ("كاونتربنتش", 3 – 5 أيار/مايو 2013)
الجمل: قسم الترجمة
التعليقات
ارجو ذكر اسماء الأشخاص
إضافة تعليق جديد