كلاب محافظة دمشق
الجمل- بقلم د.نزار العاني:
اشتعلت واستعرت المواجهة بين أهالي الكلاب والمحافظة ، وفريق ينبح وفريق يكبح ، ولا يبدو في الأفق من الذي سيربح ! وأجدني وقد تفاقم الخلاف بين الفريقين السورِيَّين محتاراً بينهما، ويُعزى ذلك لخواطر حياتية تكاد لا تغادرني حول هذه المسألة الشائكة ، وإليكم التفاصيل دون أن نستفتِ أحدا كما أوصى كتابنا المُحْكم .
الرابع والسادس والثامن في القرآن :جاء في سورة الكهف : (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) ... فهاهو الكلب مذكور بالقرآن ( يقول الأبشيهي أن إسمه قِطْمير، والله أعلم ) ، ولا ذكر لمحافظة دمشق في القرآن، ولا لمحافظها ، ولا ذكر أيضاً لمدير الشؤون الصحية في محافظة دمشق الدكتور ماهر ريا الذي أوصى بملاحقة فلول الكلاب لمحقهم ولو اقتضى الأمر وضع عبوات ناسفة في أدبارهم ( جمع تكسير لكلمة دُبْر أو أُسْت ) ! من الواضح إنني سأقف مع من جاء ذكرهم في القرآن ، أي مع الكلاب .
جاك شيراك وكلاب فرنسا :
وخلال إقامتي الطويلة في فرنسا بهدف طلب العلم كنت في زياراتي للعاصمة باريس أقضي معظم وقتي في الشانزلزيه ، ولم أنجُ يوماً، ومعي آلاف المتنزهين ، من دعس براز الكلاب الفرنسية الذي يحترمه الفرنسيون وكأنه عطية من دُبْر فولتير ! وحين صار شيراك محافظاً لباريس جرى تمديد أنابيب موازية للأرصفة يمر فيها الماء بشكل مؤتمت لغسل وشطف براز أدبار الكلاب وفضلاتها ، وربما لتدويرها والإستفادة منها في إمداد مصانع العطور بالطاقة الكهربائية . يوم ذاك كنت ألعن الكلاب وألعن الذي نفضها وأتمنى محقها . من الواضح أن محافظ باريس لم يمحق الكلاب ، ولكنه وجد تدبيراً ملائماً لخيرات أدْبَارها
تصفيق حاد للكلاب البوليسية :
حدثت جريمة مروعة في دير الزور في خمسينيات القرن الماضي ، حين اغتصب اثنان أو ثلاثة من كشّاشي الحمام طفلاً وقتلوه . يومها أرسلت دمشق الكلاب البوليسية المدربة إلى الدير ، واكتشفت الكلاب الفاعلين بسرعة قياسية ، وحوكموا على عجل ، وتم شنقهم في ساحة الحدّادين وهي الأشهر في الدير ، وحضرتُ الشنق بنفسي ، وصفق أهل الدير للسلطة وكلابها على هذا الإنجاز ! من الواضح هنا إنني أرفع قبعتي لكل كلاب العالم وأحترم فضائلها لا فضلاتها.
الكلاب والفلسفة :
أحد أتباع سقراط أسّس (المذهب الكَلبي) الذي سينبح مريدوه أمام الدنيا قائلين أن الفضيلة وليس المتعة هي الهدف النهائي للحياة ، ويقال أن الفيلسوف ديوجين الذي آمن بهذا المذهب قد أكل أرذل أنواع الطعام ، ونام في حوض وليس في سرير ليشعر بالإكتفاء وليضبط مطالب غرائزه . من الواضح إنني لا أتفق مع الكلبيين ، وأرى الذاتية والفردية أحيانا تشكل روافد للسعادة ، وليس عيباً أن يتمتع الإنسان بأطايب الدنيا . من الواضح إنني لست مع الكلبيين ، ولست ضدهم !
كلب الشاعر يعض إبن الناقد :
يخيفني أن يدق جرس الهاتف بعد منتصف الليل . وقد حدث هذا منذ عقود ليقول لي الشاعر نزيه أبو عفش على الهاتف : (إلحقني) أنا في ورطة ، كلبي عضّ ابن جاري في البيت الدكتور الناقد عبد الرزاق جعفر، واشتكى الأخير ضدي في المخفر ! خلال دقائق معدودة كنت في بيت نزيه وبيت عبد الرزاق رحمه الله بالقصاع ، وهو أستاذي وإبن بلدي الذي أسقط الشكوى في المخفر استجابة لطلبي ، لكن المخفر حجز على الكلب لإحالته على قسم الطب البيطري للفحص . نزيه يحب الكلب وهو كلب صيد أليف ومدرب . ذهبنا معاً إلى بيت الأديبة كوليت خوري القريب التي توسّطت لنا فأفرج المخفر عن الكلب الغالي ، ولم أرَ في حياتي دمعة تتحدّر من عين كلب سوى تلك الليلة ، حين عاد كلب الصيد السلوقي إلى حضن نزيه . من الواضح إنني مع أهالي الكلاب ضد المحافظة وقراراتهم الهمايونية الجائرة .
الكلب السافل :
كنت كل صباح أذهب وأعود سيراً على الأقدام من بيتي في تولوز/ فرنسا إلى الجامعة القريبة . وطريقي يمر من أمام بيت حيث يجلس كلب على مدار الأيام ، وكنت ألقي عليه السلام بحنان في الذهاب والإياب ، وكان الكلب يرغي ويزبد كلما شاهدني دون سبب . بعد أشهر عديدة وأثناء عودتي قفز الكلب السافل من مكانه وعضني من ساقي ، وكنت ألبس بدلة جديدة غالية الثمن . بصقت في وجه الكلب ورفسته ، وأرسلت بنطال البدلة من فرنسا إلى زوجتي بدمشق لرثي الشق الذي أحدثته أنياب الكلب الفرنسي الغادر بثيابي ، والذي لم يسمع بما قاله الشاعر علي بن الجهم للخليفة المتوكل على وجهي المديح أوالهجاء : (أنت كالكلب في وفائه بالعهد وكالتيس عند قراع الخطوبِ) . من الواضح أن الكلب الفرنسي غدر بي وأذاقني من المهانة ما لا أحب ، ولو واجهته بعد مئات السنين لرفسته .
كلاب الأدباء والفضاء :
بيت شعر لا أنساه يُروى لامرأة عربية قالته لصد الشاعر الغزلي عمر بن أبي ربيعة وتجدون الحكاية على (النت) وخلاصتها أن الكلب يحمي العِرْض:تعدو الذئاب على من لا كلاب له....وتتقي صولة المستأسد الضاري
والكلب على العين والرأس . قال عنه الأبشيهي : ( وليس في الحيوان ما يدخل الجنة إلا هو ، وكبش إسماعيل ، وناقة صالح ، وحمار العزيز ، وبراق النبي) المستطرف ص 206 . أديب أمريكي كتب في أدب الرحلات (أنا وكلبي شارلي) ونجيب محفوظ كتب (اللص والكلاب) وكتب سرفانتس (حوار الكلاب) وكتب توفيق فياض (الكلب سمور) وظهرت أفلام عديدة عن الكلاب ، وطبقت شهرة الكلبة "لايكا" الآفاق في ظهورها المشرق لارتياد الفضاء .الكلب باختصار شقيق الإنسان الروحي ، وتطبيق مقولة الراحل ممدوح عدوان حول (حيونة الإنسان) تقلب الإنسان كلباً محترماً . من الواضح إنني أنحاز للكلاب ضد أصحاب قرار محافظة دمشق .
من قنص الكلاب إلى الرماية :
ربطتني صداقة عميقة حين كنت في إعدادي التجهيز الأولى في دمشق بـ " خلدون راغب / أبو سامر" ، الطالب المهذب والأنيق ، وبعد تخرجنا في الجامعة عملنا في الرياض / السعودية ، ومن محاسن الصدف أننا تجاورنا كعائلتين في عمارة تطل على ساحة الشميسي في طابقين متجاورين ، هو في الثالث وأنا في الرابع . في كل ليلة حين نخلد للنوم نسمع عواء متقطعاً لكلاب شاردة يوحي بالتوجع والألم . قررت فهم ما يحدث ، ولذا رابطت على شرفة بيتي وشاهدت العجب . الساحة مليئة كل ليلة بقطيع من الكلاب ، ورأيت الكلاب تقفز بالهواء وتعوي عواء قصيراً وتخمد . واكتشفت لا حقاً أن "خلدون" اقتنى بارودة خردق ، ولأنه هو وزوجته كانا يعانيان من ضجيج الكلاب حين النوم ، وهما مهندسان يذهبان باكراً إلى العمل ، فقد قرر أن يبعد القطيع بالتقويص على أرجل الكلاب الصبورة التي لم تكن تدرك مايحدث . الخلاصة : بعد هذه البداية الكلبية المتواضعة والمجانية ، أصبح " خلدون راغب " بطل الرماية في سورية . من الواضح إنني ضد الكلاب السعودية التي أقلقت راحتنا على مدى سنوات .
بعد هذه الجَّردة الطويلة لكم أن تختاروا الوقوف مع أهالي الكلاب أو مع المحافظة .
ملحوظة:
1 ـ خُطفت كلبة نسيبي عماد قنواتي ، واسترجعها وهي تعاني من تشوه بالفك يعزى إلى قسوة الخاطف وضربه للكلبة ، وعالجها وتحسنت حالتها ، ولكن ( التوى حنكها مثل اثنين أعرفهما وتعرفونهما ، وليسامحنا الله على التشبيه )!
2 ـ أهداني أيمن القاري جرواً صغيراً في الأسبوع الأول من عمره ، ورفض المزارع المشرف على إدارة مزرعتنا "أبو هيثم" تقديم المعونة لي لتربية الجرو الأصيل بحجة أن الكلب مدعاة للنجاسة ويفسد الصلاة . لو بقي وعاش عندي لأحببته .
4ـ الصورة لكلبة نسيبنا وصديقي عماد قنواتي
التعليقات
أشكر صفحة ( الجمل بما حمل )
إضافة تعليق جديد