«تنظيف» طرابلس اللبنانية: المعركة الجدّيــة لم تبدأ بعد
المقاتلون في مدينة طرابلس اللبنانية مستاؤون جداً. بلغهم أن وزارة الصحة توقفت، منذ بداية العام، عن دفع فواتير استشفائهم في مستشفيات المدينة. وهم مستاؤون، أيضاً، من خشونة الجيش في التعامل معهم في المواجهة الأخيرة. كانت هذه المرة الاولى التي يرد فيها عناصر الجيش بعنف على مصادر النيران، مستهدفاً «قادة المحاور»، على نحو مباشر، ومحاولاً إدخال الدبابات إلى باب التبانة، ومعلناً في بيان رسمي أسماء المتهمين بالاعتداء عليه، الذين يجب على الأجهزة الأمنية الأخرى (وهذا المغزى من تعداد الأسماء) توقيفهم بدل الاستمرار في التعاون معهم.
وبلغ المقاتلين، في السياق نفسه، أن رئيس فرع استخبارات الجيش في الشمال العميد عامر الحسن كان خلال اجتماع الفعاليات التقليدي في منزل الرئيس نجيب ميقاتي، للبحث في تفاصيل جولة العنف الجديدة، غير الحسن المعتاد، سواء في توجيه ملاحظات قاسية إلى الحاضرين، أو عبر توعّده المسلحين. ويضاف هذا كله إلى استياء المسلحين الأساسي من إعطاء الرئيس سعد الحريري الضوء الأخضر للأجهزة الأمنية لـ«فك رقبة» كل من يخلّ بأمن المدينة، وغياب اللواء أشرف ريفي عن السمع يومين متتاليين، بعدما دعا «جمهور ثورة الأرز» في رسالة نشرها موقع القوات اللبنانية إلى «قراءة المرحلة التي يعيشونها»، مشيراً إلى «حقهم على قياداتهم بإطلاعهم أول بأول على قراراتهم» (بعد اتخاذها!).
ينقسم هؤلاء المقاتلون إلى نوعين: سلفيين وغير سلفيين. كانت المدينة تنتظر معركة بين الجيش والنوع الأول، إلا أن المعركة الأخيرة كانت مع غير السلفيين، وإن كان أحدهم ملتحياً يدّعي التدين ويجول برشاشه مرتدياً عباءة بيضاء. ففي «شارع الأستاذ فاروق»، خلف جبانة سوق الخضر في باب التبانة، الذي يعرف طرابلسياً باسم «شارع الكابتن»، الإمرة لـ «أبو خليل الحلاق»، يعاونه «أبو جمال النحيلي» الذي يتردد في المدينة أنه يقف خلف فيديو التهديد الموجه إلى النائب سعد الحريري. وهذان، كغالبية المقاتلين على محاور جبل محسن، يحسبون أنفسهم – أقله – على اللواء ريفي.
كان عديد مقاتلي المحاور، قبل ثلاث سنوات، نحو مئتي شاب، يطلقون الرصاص من شرفات منازلهم على بنايات جبل محسن. لم يكن بينهم «متفرغ» واحد للقتال. أما اليوم، فلكل زاروب مجموعته وما يشبه «الأمير». وبين الزواريب، تتداخل الولاءات: شباب آل زهرا المقاتلون في التبانة يحسبون أنفسهم على ريفي أيضاً، وكذلك عماد الرز وغالبية من يرفع اللواء معنوياتهم ويشجعهم على تطوير قدراتهم، فيما يتقاطع ولاء آخرين، مثل سعد المصري الذي شارك في جولة القتال الأخيرة، بين ريفي والرئيس ميقاتي. رئيس الحكومة المستقيل أقرّ، في الاجتماع الأخير في منزله، بأنه يدفع له «طبعاً، لكن لست أنا من اشترى له مدفعاً يتجاوز سعره 60 ألف دولار. لا أعلم من أين لهم كل هذا»!
طلال عيسى، أيضاً، يقف على خط التقاطع بين ريفي وميقاتي من جهة البازار. عدم ثقة ريفي بولائه المطلق يحول دون تمكنه من إثقال سلاحه. زياد علوكي محسوب على اللواء عسكرياً، لكنه يراعي ميقاتي وآل كرامي لوجود نفوذ شعبي لهما في حيه. «أبو تيمور الدندشي» وعامر أريش ليسا ممن يقاتلون الجيش؛ يعتكف أريش اليوم مؤكداً أنه لن يعتدي على من لا يعتدي عليه. في المنكوبين، توفيق الشعار (أبو مصطفى) أقرب إلى ميقاتي منه الى الآخرين. وتجمع الآراء على أن ميقاتي أشبه بـ «بابا نويل»: يعطي من دون مقابل، وخصوصاً أن هؤلاء، في نهاية الأمر، لا ينتخبون في المدينة لوجود أحكام قضائية في حقهم. فعلياً، لم يفعل ميقاتي أكثر من استخدام المال، بدل سلطة مجلس الوزراء، لكفّ ألسنتهم واياديهم عنه. هذا سيّئ، لكن غيره فعل ما هو أسوأ. غيره أسّس ودرّب ونظّم وسلّح البنية الأمنية والعسكرية المتكاملة (برغم فوضويتها) القائمة اليوم في طرابلس. في مجالسه الخاصة، يقول النائب وليد جنبلاط إن هجومه على فرع المعلومات كان في سياق انتقاده لدعم الفرع «الجنون الطرابلسي». كان يرأس الفرع في المدينة شئيم عراجي، إلى أن شك ريفي في وجود رائحة تنسيق بينه وبين ميقاتي فاستبدله بمن لا يشك ابداً في ولائه: محمد العرب. وبناءً عليه، لا يمثل هؤلاء خطراً حقيقياً؛ في حال وجود قرار مستقبلي حقيقي بالتهدئة، سيعيدهم ريفي، عاجلاً أم آجلاً، إلى أعمالهم بالسرعة نفسها التي أخرجهم منها. أما في حال عدم وجود قرار مماثل، فلا ريفي سينهيهم ولا الجيش سيتحرك بجدية ضدهم، وستتواصل مسرحية الأعوام الثلاثة الماضية.
المعركة الجدية، في حال وجود قرار حقيقي بـ «تنظيف» طرابلس، هي بين الجيش والمتهمين بالتكفير وسط السلفيين. لزم هؤلاء، بانضباط، مواقعهم في المواجهة الأخيرة ولم يطلقوا رصاصة واحدة. ليس الحديث هنا عن بلال دقماق وداعي الإسلام الشهال وعمر فستق ممن لا يملكون مقاتلاً واحداً، بل عن أربع أو خمس مجموعات يقود علي هاجر أكبرها، وحسام الصباغ أخطرها، وفراس العلي أكثرها مرونة. ضبط هؤلاء أنفسهم، طوال الأيام الماضية، لمعرفتهم، بحسب أحد الناشطين في صفوفهم، أنهم سيذهبون «فرق عملة» في السوق الإقليمي المفتوح اليوم للبيع والشراء. لا يسقط هؤلاء من حساباتهم احتمال وجود مصيدة نصبها الحسن لهم، تتمثل في جرّهم عبر المناوشات المسلحة بين الجيش ومجموعات مخترقة منه، إلى معركة تحاكي ما يحصل بإخوتهم في المنطقة. انضباطهم الكبير سببه الخشية من بحث الجيش عن ذريعة تتيح له تكرار سيناريو عبرا. هؤلاء يزنّرون خصورهم منذ سنوات بالأحزمة الناسفة، لكنهم لا يملكون مال المقاتلين في «وحدات المحاور» ولا أسلحتهم الجديدة والكثيرة، فغالبيتهم من تجار المدينة وباعة دكاكينها. وفي النقاشات المتفرقة معهم، يبدو واضحاً حذرهم الآني الشديد، وقمعهم بقوة من يرفعون أعلام «جبهة النصرة» أو غيرها من التنظيمات المطلوبة اليوم للعدالة الدولية، وعدم إسقاطهم من حساباتهم ثلاث نقاط رئيسية:
أولاً، أن هناك انتخابات رئاسية على الأبواب، وهذا ما يثير ذكريات مريرة، بعدما عبّدت معركة نهر البارد (في رأيهم) طريق العماد ميشال سليمان إلى الرئاسة، ومدّدت معركة عبرا لقائد الجيش جان قهوجي، مشيرين إلى علاقة الحسن الوطيدة بقهوجي، والى مجموعة قادة عسكريين يتسابقون لتحقيق هذا «الشرف».
ثانياً، رغبة الرئيس سعد الحريري في إصلاح صورته أمام المجتمع الدولي بوصفه المعتدل والمحارب لـ «الإرهاب»، بعد تحوّل الإسلاميين من عناصر قوة إلى عوامل شبهة واتهام. ويشير نائب طرابلسي سابق إلى رفض الحريري سابقاً بيع هؤلاء محلياً. أما اليوم، فالعرض إقليمي ولا يحتمل التشاطر. ويستفيد الحريري، طبعاً، من عدم وجوده المباشر في السلطة، لتبرئة نفسه من التبعات المحتملة لتصفية هؤلاء.
ثالثاً، انقلاب الفيتو الشيعي الذي حاول رسم خطوط حمراء حول مخيم نهر البارد قبل سبع سنوات إلى حماسة منقطعة النظير لإطاحة هؤلاء وتدمير بيئتهم الحاضنة فوق رؤوسهم.
يمكن ألا تحصل معركة بين الجيش وهؤلاء، فيتسع نفوذهم وتتطور قدرتهم على جذب «قادة المحاور»، أو من جنّدوهم في العامين الماضيين. أما المعركة، فستشمل ثماني أو تسع جبهات مماثلة لجبهة عبرا في الوقت نفسه، في ظل عشرات المناوشات في أحياء أخرى. أضخم وأخطر من معركة نهر البارد نظراً إلى الكثافة السكانية واستحالة إجلاء المواطنين، يقول أحد الأمنيين. ويشير أحد الوزراء في حكومة تصريف الأعمال إلى أن شرط نجاحها يرتبط بعدم دخول عامل أجنبي، سواء فلسطيني أو قاعدي أو سوري، في ظل كثافة اللاجئين السوريين في المدينة، وسهولة تطويع المئات منهم.
غسان سعود
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد