العذراء الأردنية .. بمشيئة الله و "انتحاريو" غزة
الجمل- أندريه فلتشيك- ترجمة: د. مالك سلمان:
رجعتُ إلى البيت بعد الغداء، خلعت حذائي، وملأتُ كأساً كبيراً بالماء البارد. شغلت الكمبيوتر وأنا أشاهد أخبار "بي بي سي". كانت الشغالة تنظف الأثاث الخشبي بقطعة وسخة من القماش المنقوعة في محلول ذي رائحة.
تفقدتُ الإيميل، وتصفحتُ برقيات "رويترز"، وقررت أن أتسلى قليلاً. دخلت إلى غرفة "التشات العربي"، وأخبرت جميع الموجودين في الغرفة أنني عدتُ مؤخراً من الضفة الغربية وقطاع غزة.
نجحت الخطة. بدأت أتلقى الرسائل على الفور.
"ماذا كتبتَ عن الانتفاضة؟"
"لماذا يقتل الإسرائيليون الأطفال الفلسطينيين؟"
"لماذا الإعلام الأجنبي منحاز إلى هذه الدرجة؟"
"لماذا يستمر الأمريكيون في دعم إسرائيل؟"
بعد فترة قصيرة ظهرت رسالة قصيرة على شاشتي: "هاي. أنا حنان."
"هاي. هل أنت محجبة أو عذراء؟ أم الاثنين معاً؟" كتبتُ، آملاً أن كلماتي المزعجة هذه ستفزعها. لم أكن في مزاج يسمح لي بالثرثرة.
"أنا لست محجبة"، كتبت. "ونعم، لاأزال عذراء. وأنت؟"
"لا"، كتبت. "فقدت عذريتي منذ سنوات طويلة."
"ع/1/ج؟"
"35، ليما، البيرو، ذكر"، كتبت. "وأنت؟"
"25، عمان، الأردن، أنثى."
"كيف يمكن أن تكوني عذراء في الخامسة والعشرين؟" تساءلت. كنت في مزاج عدواني جداً ذلك المساء.
"إرادة الله"، كتبت لي مفسرة الأمر. اطلعتُ على سيرتها التي تحتوي على صورتها. عندما كبَرتُها وجدتني أنظر إلى فتاة شرق أوسطية جميلة ذات عينين سوداوين كبيرتين.
"رأيت صورتك"، كتبت.
"شكراً."
"أنت جميلة"، كتبت.
"البعض يقولون إنني جميلة"، كتبت.
"البعض محقون بالتأكيد. وماذا تفعلين؟ تدرسين؟"
"لا، أنا أعمل على مكتب الاستقبال في فندق 5 نجوم ضخم في عمان"، كتبت.
"ولا تزالين عذراء؟"
"لا أزال عذراء."
"مستحيل"، كتبت.
"أنا مسلمة"، شرحت لي.
"بعض الفتيات مسلمات ومحجبات وعازبات، لكنهن لسن عذراوات."
"صحيح"، اعترفت، "هناك الكثيرات منهن. أنا لست منهن."
"لا يمكنني أن أتخيل ذلك."
"وأنت؟ هل أنت مسلم؟"
"في الحقيقة، لا."
"وهل أنت يهودي؟"
"لا، لا"، كتبت.
"ربما نصبح أصدقاء"، كتبت. "قرأت أنك عدتَ للتو من الشرق الأوسط. هل تعرف بلدي؟"
"بالطبع. قدتُ السيارة من عمان إلى البحر الميت ومن ثم إلى بترا وبعد ذلك إلى العقبة. وصولاً إلى الحدود السعودية. ولكن منذ عدة سنوات."
"وكيف كانت رحلتك؟"
"شعرت بالوحدة. الطبيعة جميلة. الصحراء. الصمت. تعرفين المكان. في الليل، شعرت بالوحدة."
"لماذا؟"
"هناك شيء ما حول البلدات الموجودة في الصحراء. لا يمكنك أن تسمعي شيئاً في الليل. ولا حتى الريح. وتريدين أن تتكلمي مع أحد ما، ولكن لا يوجد أحد – الشوارع فارغة. في الليل تحدقين في السقف وتحاولين أن تتذكري أشياءَ من الماضي وتأملين بسماع أي صوت كان، صوت يأتي من البعيد، بأي شيء."
"أحياناً يأتي"، كتبت. "أحياناً يمكنك أن تسمع طفلاً يبكي. أو تسمع نباح الكلاب."
"نعم، أحيانا. ولكن أحياناً لا يكون هناك سوى الصمت."
"ربما أستطيع أن أعلمك شيئاً عن ديننا"، كتبت.
"ربما أستطيع أن أعلمك شيئاً عن الحب"، كتبت لأغيظها.
"ربما ..."، كتبت. "ولكن يجب ألا أستمع إليك. كيف شكلك؟"
اعتقدتُ أنها نكتة. كانت مجرد نكتة. كانت جميع نساء العالم يفتقدن إلى حس النكتة.
"لابأس"، كتبت. "شكلي معقول."
"هل توجد صورة لك؟"
"حنان، لست مولعاً بالتشات. أعني أنني لا أفعل ذلك إلا نادراً."
"ربما ستغير دينك في يوم من الأيام."
"ليس لي دين لأغيره"، كتبت.
"ليس لك دين؟ ألا تشعر بالخوف؟"
"الخوف من ماذا؟"
"الخوف من عدم الانتماء إلى أي شيء."
"لا. لكنني أشعر بالخوف من الانتماء إلى شيء يعلم الناس الإيمان بالمجهول."
"لا أفهم."
"لا يهم"، وابتسمت.
"أوكيه. لا بأس. أنت تعجبني. هل يمكننا أن نصبح أصدقاء؟"
"صرنا أصدقاء سلفاً"، كتبت.
"أعيش في منزل مع عائلتي كلها. البيت يعج بالناس. علي أن أنهي الحديث. يجب ألا أتحدث هكذا مع غرباء. هل يمكننا أن نتحدث مرة أخرى، في وقت آخر؟"
"أكيد"، كتبت. أعطيتها عنوان إيميلي الشخصي والعنوان الموجود في مجلة "ويكلي غلوب".
"أتمنى لك أحلاماً جميلة"، كتبت.
كانت الثالثة بعد الظهر في ليما. كان المتزلجون يملؤون الشاطئ. كانت الشمس لا تزال عالية في السماء.
"نوماً سعيداً"، كتبت.
"لا تنساني."
"وكيف لي أن أنساك؟" كتبت.
"أين قلت أنك تعيش؟"
"في ليما، البيرو"، كتبت. "أنا واثق أنك تعرفين كل شيء عن هذه المدينة."
لم تفهم المفارقة الساخرة.
"لا، آسفة. لا أعرف أي شيء عن ليما. عندما نتحدث ثانية أريدك أن تخبرني كل شيء عنها."
"لا بأس"، كتبت. "في المرة القادمة سأخبرك عن ليما. أحلام سعيدة."
"شكراً. سافكر فيك"، كتبت قبل أن تخرج من غرفة التشات.
كانت طائرة صغيرة تحلق فوق المحيط وعلى طول الشريط الساحلي. كانت تجر لافتة طويلة عليها إعلان.
فجأة ظهرت رسالة أخرى على شاشة كمبيوتري. "تكتب عنا. عليك أن تعرف أننا خلال بضعة أيام سنكون جاهزين للموت في سبيل الله. سوف نقتل الكلاب اليهودية ونموت نحن."
"من أنت؟"
"نحن: أولئك الذين سيكونون سعداء للموت من أجل فلسطين."
"اسمع"، كتبت. "طول بالك. لماذا لا تحاولوا أن تعيشوا من أجل فلسطين، بدلاً من ذلك؟"
"لا شيء يمكن أن يجعلنا أكثر سعادة من الموت لأجل بلادنا ولأجل الله"، جاء الجواب المفبرك سلفاً. لم أستطع قط الاعتياد على مثل هذه الفورات.
"لست واثقاً أن السعادة هي الكلمة المناسبة"، كتبت.
"أنت لا تفهم."
"أعتقد أنني لست على قدر كبير من الذكاء."
"اليهود كلاب."
"ليس هذا هو الطريق الصحيح إلى الفهم المتبادل" كتبت. "هناك الكثير من اليهود في إسرائيل وفي أماكن أخرى يدعمون حقكم في دولة مستقلة."
"الاستثناءات لا تهم."
"أعتقد أنها هامة."
دخلت الشغالة إلى مكتبي وهي تجر مكنسة كهربائية عملاقة تصدر هديراً وحشياً.
"ماريا إيلينا، بور فافور."
انسحبت دون أن تقول شيئاً.
ذهبت إلى المطبخ، فتحت البراد وصببتُ لنفسي كأساً ضخماً من النبيذ الأبيض التشيلي البارد.
"متى وأين ستقومون بذلك؟" كتبت.
كان هناك صمت طويل.
"هل تعتقد أننا أغبياء؟ طبعاً لن نقول لك."
"حسناً"، كتبت وأنا أشعر بالانزعاج. "أنا لم أتصل بك. أنت اتصلت بي. بالمناسبة، كبف تعرف أنني أكتب عن الشرق الأوسط؟"
"أنت كتبت أنك عدتَ لتوك من هناك. دخلنا إلى بروفايلك واطلعنا على بعض مقالاتك."
"شو هالسرعة. وما هو رأيك فيها؟"
"أنت تكتب ما تعتقد أنه الصواب وتدافع عن شعبنا. تكتب عن معاناتنا. شكراً. لكنك تحاول ايضاً أن تفهم وجهة نظر الكلاب. أنت لست واحداً منا. أنت لا تنتمي إلينا."
"هذا صحيح جداً. أنا لا أنتمي إليكم. أنا لا أنتمي إلى أي مكان أو أي أحد."
فترة أخرى من الصمت. أشعلت سيجارة أخرى، وتابعت شربَ النبيذ الأبيض البارد.
"ألا تنتمي إلى بلدك؟"
"ليس لي بلد."
"إلى زوجتك؟"
"ليس لي زوجة."
"إلى دينك؟"
"لا أحتاج إلى الدين."
فترة صمت أخرى.
"نشعر بالأسف عليك."
"لا تشعروا بالأسف علي!" ضحكت.
"لا بد أنك رجل خائف جداً."
"لا، لست خائفاً."
"أنت لا تؤمن بالله."
"وكيف تعرف ذلك؟ وإن كنت لا أؤمن به، لماذا أشعر بالخوف؟"
"تلعب على الطرفين."
شربت كأساً آخرَ من النبيذ. كان طعمه يتحسن مع كل جرعة.
"اعمل لي ولنفسك خدمة"، كتبت. "قبل أن تفجر أي شيء، انتظر وفكر في الأمر."
"لا يمكنك إقناعنا"، جاء الجواب الفوري. "لقد اتخذنا قرارنا. وسوف تسمع عنا قريباً."
لا أحاول أن أقنعكم بأي شيء، أنا فقط أطلب منكم أن تفكروا قبل أن تقوموا بشيء لا يمكن تغييره."
"هل أنت من مناصري السلمية؟"
"لا"، كتبت. "أؤمن أن على الرجل أن يقاتل عندما يكون هناك سبب يستدعي القتال. لكنني لا أعتقد أن ما تخططون للقيام به هو الطريقة الصحيحة للقتال. أعتقد أن على المرء أن يقاتل ويحاول أن يربح القتال وألا يموت في الحرب. وأؤمن أيضاً أنه عندما يتوجب على الرجل أن يقاتل، يجب أن يقاتلَ رجالاً آخرين، وليس النساء والمدنيين."
فترة صمت.
"نفهم وجهة نظرك، لكن لانوافقك الرأي. فعندما يقاتل المرء لأجل شيء مقدس، يمكنه أن يلجأ إلى أية وسيلة."
"الحياة مقدسة"، كتبت. "حياتكم وحياتهم. وإذا متم فلن تروا أرضكم حرة."
"بل سنراها، من فوق."
"طيب"، كتبت. "لا أظن أننا نتكلم اللغة نفسها."
"ملاحظة جيدة."
"ولذلك يجب ألا نضيع وقت بعضنا البعض."
صمت.
"انتظر."
" ؟ "
"كتبت أنك في ليما؟"
"نعم."
"وكيف ليما؟"
"حارة"، كتبت. "مبنية وسط الصحراء، على ساحل المحيط. البيئة مشابهة لبيئة غزة، ولكن هناك جبال مرتفعة على بعد كيلومترات قليلة من المدينة. إنها جميلة، ولكن كانت هناك حرب أهلية، وفساد في كل مكان، وسوء إدارة، وفقر. ليست كل أجزاء المدينة جميلة. بعض الأجزاء تدعو إلى الكآبة، حتى أنها مريعة."
"ومع ذلك تفضل العيش هناك."
"نعم."
"ولماذا لاتعيش في الولايات المتحدة؟"
"لا أدري. كنت أعيش في نيويورك. أفضل العيش هنا"، كتبت "اسمع ... دعني أسألك سؤالاً."
"نعم؟"
تناولت جرعة أخرى من النبيذ.
"هل تريد حقاً أن تموت؟"
مرة أخرى، لم يأت الجواب إلا بعد دقيقتين.
"لا. لا أريد أن أموت."
"لا تمُت إذاً."
"اسمع ..."
"نعم؟"
"ولكن علينا أن نموت."
"لا، ليس عليكم أن تموتوا"، كتبت. "فكر في الأمر. أنا واثق أن هناك مخرجاً ما. أنا واثق أنكم لستم ملزمين على ذلك."
"لقد أقسمنا. قلنا إننا مستعدون وجاهزون."
"و هُم؟"
"هُم؟"
"الأشخاص الذين أقسمتم لهم. هل هم مستعدون للموت؟"
"لا نعرف. نعتقد ذلك."
"تعتقدون. لكنكم لستم واثقين. لا تعرفون."
"اسمع ..."
"نعم؟"
"الكل يريد أن يعيش."
"عيشوا إذاً، اللعنة!"
"لا تشتم. يمكنك أن تتخيل أن الأمر ليس سهلاً. ولكن على المرء أن يتمتع بالمسؤولية. على المرء أن يدافع عن بلده. أن يقاتلَ أعداءَه. ولدينا أسبابنا الدينية أيضاً."
"ليس من الضروري أن تكون أنت"، كتبت. "هل يجب أن تكون أنت من يفجر نفسه، من يتناثر إلى قطع صغيرة؟ هل تعرف كيف يبدو المشهد، كيف يشعر المرء؟ وماذا لو لم تمت مباشرة؟ ماذا لو تقطع جسمك وبقيت حياً؟ ودماغك يعمل، وأعصابك مكشوفة ولكن ليس لديك فم لتصرخ به؟ بلا أصابع، ولا أرجل، ولا وجه حتى؟"
"أنت تحاول إخافتي."
"أنا أحاول أن أخبرك عما يمكن أن يحدث. كنت أرى ذلك أسبوعياً تقريباً هنا في البيرو. وفي أماكن أخرى."
"وما الذي كانوا يقاتلون من أجله هناك؟"
"من أجل اشياء محقة. من أجل العدالة الاجتماعية ومن أجل السكان الأصليين. لكنهم اختاروا الأساليب الخطأ وخسروا."
"لا يمكن أن نخسر. فالله إلى جانبنا."
"ولكن ماذا لو لم يكن هناك شيء؟ ماذا لو فعلتها ولم يكن هناك شيء، لا شيء على الإطلاق بعد ذلك؟"
"هناك شيء ما. قيلَ لنا ..."
"أولئك الذين قالوا لكم لا يعرفون أكثر مما تعرفون. هل قالوا لكم ما هو لون الله؟"
"لا ..."
"اسألوهم."
"سنتحدث معك لاحقاً."
"متى؟"
صمت.
"سوف نخبرك بذلك."
"طيب"، كتبت. "اكتب لي متى تشاء. لن تفعل أي شيء قريباً، صحيح؟"
"لا."
"نَم قليلاً. فكر في شيء جميل من باب التغيير. فكر في فتاة جميلة، في المحيط، في مغامرة جنونية مثيرة، في المتعة التي يمكن أن تعيشها في حياتك. لم تحظ بالكثير من المتعة، صحيح؟ لكن الأمور ستتغير، يمكن لكل ذلك أن يتغير في يوم من الأيام."
"شكراً، أيها المحرر."
"على الرحب والسعة. ولكن رجاءً، عدني بشيء واحد. لمرة واحدة في حياتك، لا تكتف بترديد ما يقوله الآخرون، لا تصدق ما يقوله الآخرون. فكر فقط. فكر قبل أن تذهب إلى مكان لاعودة منه."
خرجت من غرفة التشات وأنهيتُ زجاجة النبيذ خلال دقيقتين. كان الظلام يخيم في الخارج. فجأة شعرت بالخوف.
- أندريه فلتشيك، "نقطة اللاعودة" (مينستي بريس: 2005؛ 2013)
إضافة تعليق جديد