شمس الحق
استفاقت الشمسُ يوماً على غبارٍ كثيفٍ يغطي سماءَ لبنان، فحاولت أن تخترقه بأشعتها الثاقبة ثم نظرت إليه قائلةً:
صباح الخير يا لبنان، أيامٌ طويلةٌ مرت وها أنا أشرقُ من جديدٍ في سمائك يا وطن بعد أن سكرت آخر مرةٍ في قلعة بعلبك وأنا أسمع فيروز تغنيك وترحب بسياحك فهلاّ أخبرتني لماذا لم أعد أراك منذ تلك اللحظة مع أني أشرق كل يوم.
تنهد لبنان محدقاً بالشمس، ذارفاً دموعاً تعبر عن حزن تعجز الكلمات عن وصفه، ثم قال: طال غيابك ياشمس، كم اشتقت إلى دفئك وسطوعك في سماءٍ لبدتها غبار القنابل ولوثتها رياح القذائف ودنستها طائرات القذارة، غريبٌ أمرك يا شمس ألم تسمعِ ما حل بي فقد ملأت أخباري الدنيا وشغلت الناس؟ لكن مع ذلك لن أبخل عليك، فاسمعِ قصةً ربما تكونين قد سمعتها من قبل، من جارتي فلسطين وأخي العراق. كنت دائماً أحلم أن أكون وطناً أمناً، سالماً حراً ومستقلاً بعد سنين من عذابات وجراحات خلفتها حرب أهلية، ونضالات ومقاومات ضد وحشٍ اغتصب فلسطين وأخذ ينهش في جنوبي قطعةً تلو الأخرى حتى ظننت أن الجنوب قد انفصل عني، لكن أبنائي أبوا إلا أن يسترجعوه، فرحل الوحش حاملاً معه ثأراً وحقداً لهزيمةٍ لم يعرف مثيلها من قبل. وبعد رحيله ظننت أني عدت إلى كياني واستقراري لكن هذا لم يحدث لأن يداً خبيثةً بدأت تعبث بهذا الكيان إلى أن بت كل يوم أفقد الشهيد تلو الآخر، أبكي على هذا وأتحسر على ذاك، ثم غادرت الجيوش الغريبة أرضي و غنت فيروز،فشعرت بالأمل بعودتي من جديد إلى عالم الأوطان بعد أن فقدت أعز أبنائي وأهم رجالاتي .
وإذا بدمعةٍ تسقط من جفن الوطن تمسحها الشمس بأشعتها الدافئة طابعةً على وجنته قبلةَ محبةٍ ومواساةٍ قائلةً : أتبكِ يا بلدُ وهل مازلت تملك الدموع ؟
- رحلت يا شمس ذات ليلةٍ عني فبت وحيداً في ظلمةٍ لا تحتملها أي أرضٍ، أتعلمين يا شمس كم بكيت فلسطين وكم ناضلت من أجلها وأجلي وما زلت أحمل الراية، لكني وفي تلك الليلة أحسست أكثر بها وبعذاباتها لأني عشت وقتها الظلم في الظلمات حيث تنزف فلسطين كل يوم ألف مرة
- آه يا لبنان، هيا هات ما عندك وكفاك بكاءً ...
في الثاني عشر من شهر تموز قررت إسرائيل مهاجمتي واقتحام أرضي بعد أن أسرت مقاومتي جنوداً لها، فأعدت العدة واصطفت دباباتها وجيوشها على حدودي الجنوبية مترقبةً ومنتظرةً ساعة الصفر للانقضاض علي، لكن طائراتها كانت أسبق بالهجوم وفجأةً ودون أي إنذار أصبحت سمائي طائراتٍ تمطر قذائف من جميع الأشكال والانواع، حديثة الصنع كانت أم قديمة، كلها سقطت في أحشائي مخلفةً وراءها ينابيعاً من الدماء والدموع وجبالاً من الدمار والركام.
جسورٌ بدأت تنهار، حاولت أن تصمد لكنها لم تقدر لأن إسرائيلُ كانت مصرة على تدميرها حجراً تلو الحجر إلى أن نجحت في تقطيع أوصالي وفصل أجزائي وتشريد ابنائي.
ضِياعٌ رحل أبناؤها عنها ، فبدت خاليةً إلا من أصوات القذائف ودوي الانفجارات.
طرقاتٌ غصّت بالنازحين مع دموع ونظرة أخيرة على منزلٍ ربما لن يعودوا إليه من جديد وإن عادوا فالأمل كان ضعيفاً في إعادة السكن فيه من جديد لأن الإصرار على التحطيم كان واضحاً منذ الضربة الأولى .
مدارس ومنازل احتضنت أبنائي وجمعيات ومساعدات فرضت نفسها في تلك اللحظة العصيبة
-صبرك يا لبنان...
لقد نفذ الصبر مني في هذه الحرب فضغطُ العدو وإصراره على هزيمتي وقتله لأبنائي، أثقل كاهلي وأضعفني
وتابع الوطن:
مارون الراس، الحصن الأول الذي عاند الصهاينة وأبى أن يسقط فصمد مع الخيام وعيترون وبنت جبيل وصريفا وعيتا الشعب، قرىً باتت تشبه بعضها البعض لدرجة لم تعد تعرف من كثرة الدمار معالمها، احتضنت أرضها الشهداء، أطفالاً ونساءً وشيوخاً ورجالاً قاوموا إلى آخر نقطة دم جرت في عروقهم، وتحدت هذه القرى الجوع والعطش الذي فرضته إسرائيل على أطفالها ونسائها بعد أن حاصرتهم واحتجزتهم فاستشهد من استشهد ونجا من نجا، وبت أسمع كل يوم صراخ أطفالٍ عطشى خائفين من طائرات تهددهم بالموت كل لحظة .
جراحٌ خلفتها يد الإجرام في مروحين حيث بكى التراب على أطفالٍ حولتهم إسرائيل إلى أشلاء على مرأى ومسمع كل العالم، بعد أن اعطتهم الأمان بالرحيل لتصطادهم كما يطصاد العصفور الأعزل الذي لا حول له ولا قوة،كما فعلت بأطفالي في قانا في الحرب الماضية كأنها لم تكتف فقد أعجبتها التجربة وقررت أن تعيدها محولة هذه البلدة إلى مقبرة دُفنت فيها أجسادُ أطفالٍ كانت تحتمي في مبنى خوفاً من القذائف لكنها لم تعرف أنها كانت تلاحقها حيث كانت .
وبينما كانت ضياع الجنوب تتألم وتصرخ، كانت بيروت القلب الذي نزف دائماً مرات ومرات، وفي كل مرة ، تراني ألملم جراحه وأنهض به من جديد، لكنه في هذه المرة انكسر مرتين، الأولى بالدمار الذي أحدثه العدو في جسورها وأبنيتها والدماء التي سفكت عليها والثانية في المطار الذي ضج بالمغادرين لبنانيين وغير لبنانيين.
مطارٌ طالما استقبل وحلم باستقبال الكثير لكنه في لحظة مفاجئة تحول إلى ساحة ينطلق منها كل من أراد المغادرة بإرادته أو رغماً عنه إلى أن قررت إسرائيل إنهاء الأمر فحرمته حتى من أداء هذا الدور .
وجوهٌ حزينة تحمل حسرة على صيفٍ حلمت بقضائه في سماء بيروت، ودموعٌ سقطت ألماً على وطنٍ يعز على من عرفه وترعرع فيه أن يتركه ، وقلوب تبكي دماً على أحباءٍ قررت المكوث رغم الخطر .
وحدةٌ شعرت بها كلما نظرت إلى المطار وهو يودع الواحد تلو الآخر، فأحسست أن العالم يتركني ليأكلني ذلك المتوحش .
ومن القلب إلى الأطراف مشهد لا يتغير، دمارٌ وحطامٌ وركامٌ ودماءٌ تسيل بين الحجارة وأشلاء معلقة على أنصاف الجدران .
وهكذا، كانت سمائي شوارع تجتازها طائرات تحقق في لحظةٍ ضربةً في قلبي وأخرى في أطرافي، تنطلق من الجنوب إلى بيروت ثم البقاع حيث بعلبك، القلعة التي اهتزت أعمدتها من رؤية الدمار الذي طوقها لكنها صمدت كعادتها وكما عهدتها منتظرةً فيروز دائماً .
وغادرت الطائرات بعلبك مدمرةً وراءها مصانع وجسوراً وشاحناتٍ كانت تقل طعاماً لأطفالٍ جياعٍ حرمتهم إسرائيل من حقهم بالعيش بسلام وإحساسهم بالطفولة التي حولتها إلى مشردة في تلك الحرب وأحلامهم الجميلة التي باتت كوابيس تلاحقهم كلما غمضت لهم أعين.
واستمرت المعركة، أنباءٌ عن سقوط مارون الراس وأنباءُ أخرى عن صمودها وبين هذه وتلك صيدا وصور تتألمان لسقوط أبنائهما بالمئات والالاف.
صور الأبية، تاريخ من النضال وسجل لا يكتف من تسجيل الشهداء.
صور، يا وجعاً سكن وما زال يسكن في قلبي كلما استرجعت بذاكرتي صناديق الخشب التي صنعت لدفن الشهداء فباتوا أرقاماً مدونة على تلك الصناديق. دماءٌ لونت بحرك يا صور فضلّت الشمس طريقها إليك. صورُ يا حصناً منيعاً أبى أن يدنس الكومندوس الإسرائيلي أرضه فأبى واستكبر وناضل وحقق .
ووسط كل هذه الأجواء الدامية، تحولت يا شمس إلى ملف تنثر أوراقه كل يوم على طاولات مجلس الأمن، وتشاورات الدول الكبرى، وضجت وسائل الإعلام بأخباري وأحداثي وانصرف العالم يطلق كل يوم مبادرة لإنهاء عذاباتي .
اجتماعات وتجمعات ومظاهرات تؤيدني وتدعمني، شرقاً وغرباً، لكن الحرب استمرت واستمرت معها تضحياتي ومقاوماتي، دولةً وشعباً .
وأخيراً وبعد ثلاث وثلاثين يوماً صدر القرار بوقف النار لكن الفاتورة كانت جداً عالية، الاف الشهداء واليتامى والمعوقين والمشردين وماذا بعد ، انسحبت إسرائيل تدريجياً من أرض خضراء حولتها إلى أرض محروقة .
وهنا ابتسمت الشمس وهزت برأسها ناثرة أشعتها من جنوب الوطن إلى شماله واقتربت من قلبه هامسةً: طالما عرفتك يا لبنان قوياً وأمنت بك وبإرادتك بالنهوض من جديد فلا تيأس ولا تنهار وتذكر يا وطن أني أشرق دائماً .
زينة مرعي
إضافة تعليق جديد