120 مليار دولار خسائر اقتصادية
السنة السادسة هي الأسوأ اقتصادياً في سوريا، لكنها الأخيرة، فالتضخم الجامح مدته من سنة إلى سنتين لينتهي إما بانهيار كامل أو بتوازن.
بهذه الجملة الواضحة والمباشرة بدأت خبيرة الاقتصاد نسرين زريق حديثها عن الواقع الاقتصادي السوري الحالي، بعد خمس سنوات من الحرب.
وتضيف نسرين «في اللحظة التي تبدأ فيها بشائر السلام تلوح في أفق بلد في حرب (مثل سوريا)، أياً كان مسمى هذه الحرب، وتبدأ عملية حساب الخسارات الحقيقية والدقيقة يشهد الاقتصاد انهياراً حاداً لليرة متأثرة بجراحها. ودخول الاقتصاد السوري في مرحلة التضخم الجامح مع نهاية العام 2015، جعل من الأشهر الستة الأخيرة تقارب تدهوراً يوازي خمس سنوات ونصف السنة».
وتكشف السورية المغتربة والمتابعة عن كثب اختلاجات الاقتصاد السوري، كما تصفها، أن إجمالي خسائر سوريا الاقتصادية حتى منتصف العام 2015 بلغ حوالي 120 مليار دولار تقريباً (هذا الرقم يمكن أن يكون قد وصل إلى 200 مليار دولار بحسب مؤشرات تضخم الأشهر الست الأخيرة)، وتشمل الخسائر المحتسبة موضوع سرقة معامل حلب، حيث شكل خسارة هذا العصب 70 في المئة من انهيار الاقتصاد.
مع نهاية السنة الأولى من الأزمة السورية، قدر خبراء خسائر الاقتصاد السوري بنحو 30 مليار دولار، حيث بدأت مؤشرات الأزمة الاقتصادية بالظهور مع هجرة رؤوس الأموال منذ الأشهر الأولى، وشملت هذه القيمة نقل الحسابات المصرفية للمواطنين السوريين إلى لبنان ومصر والأردن وتركيا والإمارات، إضافة إلى خسائر القطاع السياحي الذي زود سوريا في العام 2010 بنحو 8 مليارات دولار، لكن من المعروف أن السياحة هي أول ما يتأثر عادة بالحروب ليقتصر الأمر على السياحة الداخلية التي لا تعتبر مصدراً بمدخول الميزانية.
في العام 2010 كان الناتج المحلي السوري يقدر بحوالي 60 مليار دولار بحسب البيانات الرسمية، مقابل 80 مليار دولار خسائر في نهاية العام 2012 بحسب خبراء الاقتصاد، إلا أن المركز السوري لبحوث السياسات، التابع للجمعية السورية للثقافة والمعرفة، كان أقل تشاؤماً، وقدر حجم الخسائر في السنتين 2011 و2012 بنحو 50 مليار دولار فقط. وتوزعت هذه الخسائر بين 50 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي على الإنفاق العسكري ونحو 43 في المئة خسائر في مخزون رأس المال و7 في المئة خسائر أخرى.
ووصفت الدراسة السورية هذه الخسائر بأنها كبيرة جداً مقارنة بالخسائر التي نجمت عن النزاعات الداخلية في دول أخرى، ليرتفع العجز التراكمي لميزان المدفوعات إلى 16 مليار دولار، حيث كان يُمول هذا العجز من صافي الاحتياطي من العملات الأجنبية، الذي سجل انخفاضا كبيرا من 18 مليار دولار في عام 2010 إلى ملياري دولار فقط مع نهاية العام 2012 بحسب الخبراء المتابعين، بينما اعترفت السلطات الرسمية بانخفاضه إلى 4 مليارات دولار.
وفي كلا الحالتين تعتبر هذه الأرقام مؤشرات خطيرة في تدهور الاقتصاد، ما اضطر مصرف سوريا المركزي أخيراً إلى صرف قيمة التحويلات بالليرة السورية وبالسعر الرسمي مقابل الدولار، حرصاً من الدولة، كما أعلن في وسائل الإعلام الرسمية، على توفير مبالغ للخزينة، ليشهد عام 2013 خطوة رفع الدعم عن المحروقات برفع سعر ليتر البنزين بنسبة 23 في المئة. وكانت هذه المرة الثانية لرفعه خلال ثلاثة أشهر، ما وفر ما يقارب 35 مليار ليرة للخزينة، أي نحو 250 مليون ليرة سورية، غير أن هذه الخطوة فتحت الباب حينها لأزمة محروقات كنتيجة لفقدان المادة، وبالتالي التلاعب بسعرها خاصة في السوق السوداء.
إن الضغط الاقتصادي الذي عاشته سوريا خلال فترة حرب السنوات الخمس كان مؤهلاً كافياً لتصبح الليرة السورية بسعر صرف خمسة آلاف ليرة للدولار الواحد حسب معادلات اثر الدخل، تقول خبيرة الاقتصاد، خاصة مع ضخ التنظيمات المسلحة للعملة الصعبة المزورة في المحافظات التي كانوا يسيطرون على بعضها أو أجزاء منها، مثل حلب، ادلب، الرقة، دير الزور، وعادة ما يخلف هذا الانخفاض، كأثر اقتصادي، تدهوراً مماثلاً بأسعار السلع بالنسبة نفسها تقريباً أي الألف بالمئة، ومع ذلك نحن لا نلاحظ هذا التدهور بتلك الحدية.
وفي متابعة لمراحل انخفاض الليرة السورية خلال الحرب تسجل السنة الأولى انخفاضاً من 48 ليرة إلى 60 ليرة، وفي السنة الثانية من 60 إلى 85 ليرة، لتتابع في السنة الثالثة من 85 إلى 150 ليرة، وفي الرابعة انخفضت من 150 إلى 190 ليرة، كما انخفضت في الخامسة من 190 ليرة إلى 300 ليرة ومع بداية السنة السادسة انخفضت من 300 ليرة إلى 440 ليرة، ونلاحظ أن نسبة التدهور كانت أقل من مئة بالمئة نسبة لسعر الصرف في السوق السوداء مع كل انخفاض. ومع دخول الاقتصاد بمرحلة التضخم الجارف في صيف 2015 سجل الهبوط من 190 إلى 440 ليرة، ليصل إجمالي نسبة التدهور إلى ألف بالمئة، ويتم قياس سعر الصرف بحسب السوق الذي تتوفر فيه العملة الصعبة، وهو السوق السوداء.
خسارة عائدات الاستيراد والتصدير، وانخفاض ضخ الموارد نتيجة فقدان البترول، وعدم توفر الثقافة الضريبية لدى الشعب، ككفة ميزان أولى، تضعها في مقابل كفة ثانية، هي زخم التحويلات المالية إلى الداخل السوري، والتي تتم ترجمتها سرياً من قبل المواطنين بشراء عملات صعبة لضمان مدخراتهم من السوق السوداء، يشرح ارتباط الليرة حتى الآن بهيكلية الانهيار الاقتصادي السوري الفعلي، ويوضح أيضاً أن سعر الصرف الآن ليس إلا عملية مضاربة وتأرجحا بين العرض والطلب.
من مصدّر إلى مستورد
لعل الأذى الأكبر الذي تعرضت له سوريا خلال سنوات الحرب كان الحصار الاقتصادي الذي فرض عليها، وخاصة مقاطعة المصارف للعمليات التجارية مع البلد، الذي كان يعتبر حتى العام 2011 من البلدان المكتفية ذاتياً من كل شيء تقريباً.
وبالرغم من أن مقومات وركائز هذا الاقتصاد لم تكن قائمة على حوامل خارجية، باستثناء بعض عمليات التصدير. إلا أن فواتير حرب العصابات الداخلية والحصار الخارجي كلفه حتى الآن أكثر من 30 مليار دولار، كديون خارجية بحسب اقتصاديين، وتحولت سوريا بعد خمس سنوات من الحرب من بلد مصدّر إلى بلد مستورد ومستهلك لكل شيء.
من الضروري جداً في هذا السياق تذكر كيف شكلت المدن الصناعية، المتمركزة في كل من حلب وحمص وريف دمشق، أهدافاً إستراتيجية لعمليات التخريب المباشرة أو غير المباشرة وتعرضت إمّا للسرقة والنهب والحرق بشكل كامل كما حصل في حلب، أو أنها عانت من الحصار وانقطاع الطرقات ومخاطر العمل فتوقفت، أو أنها كانت متاخمة لمواقع اشتباك بين الدولة والمسلحين ما اضطرها أيضاً للتوقف، فاتجهت الصناعة بعدها إلى إستراتيجية المشاغل والورشات الصغيرة، لكن هذه المشاغل بطاقتها الإنتاجية الصغيرة لا تستطيع خفض التكاليف بتوزيع أجور عمالها على حجم العمل ما يؤدي لارتفاع الأسعار تلقائياً، كما أنها لا تغطي حاجة السوق من المنتجات كافة التي تحتاج إلى مصانع حقيقية لتوفيرها. أضف إلى ذلك تأثر الصناعة بشكل مباشر بتقطع الأوصال بين المحافظات والمدن، ما يعني أيضاً خسارة المواد الأولية التي يؤمنها قطاع الزراعة لتلك الصناعات.
سوريا على سبيل المثال، كانت تمتلك مخزوناً استراتيجياً من القمح (نوعية جيدة جداً) يكفيها لسنتين حتى لو توقف الإنتاج الزراعي بالكامل. إلا أن حرق المحاصيل والسيطرة على صوامع الحبوب التابعة للدولة في ادلب ودير الزور، من قبل الميليشيات المسلحة، حولها الآن إلى مستورد للقمح من روسيا ورومانيا ومصر (نوعية متوسطة).
محصول القطن السوري لم يكن أفضل حظاً أيضاً، فبالرغم من الاكتفاء المحلي من المحصول، إلّا أن خسارة معامل حلب وصعوبة نقله من القرى المنتجة إلى معامل التصنيع، كلّف الدولة والفلاحين خسارة مضاعفة، حيث ارتفعت تكلفة النقل حوالي 200 في المئة حتى على الطرقات الآمنة نسبياً.
لقد تسبب انهيار القطاع الصناعي بخنق الحركة التجارية، وشل الاقتصاد نتيجة العقوبات على التحويلات المالية ونقل الحسابات المصرفية لتسديد ثمن البضائع، لتنحصر العملية التجارية بثلاث دول متعاونة فقط، هي إيران والصين وروسيا.
سناء علي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد