أين سكان الرقة: 3 موجات هجرة غيَّرتها ديموغرافياً
سار أنس الشهر الماضي من دوار العجيلي (الدلة) وحتى دوار الساعة في مدينة الرقة (1500 متر) من دون أن يتعرف على أحد من الأشخاص الذين التقاهم، وهو الذي كان قبل أربع سنوات يقف عشرات المرات لإلقاء التحية على معارفه وأبناء مدينته كلما مر في هذا الشارع.
الطريق التي سار عليها أنس لا تختلف كثيراً عن باقي طرقات المدينة التي يسيطر عليها تنظيم «داعش»، والتي تنادي أبناءها يومياً من دون أن يستجيب لها أحد، وتسأل ساكنيها الجدد عن سكانها الأصليين.
ثلاث هجرات شهدتها محافظة الرقة على مدى السنوات الثلاث الماضية، بدأت في العام 2013 عندما سيطرت المجموعات المسلحة على المدينة، ما دفع المسؤولين المحليين وعائلاتهم إلى مغادرتها خشيةً على حياتهم، ورافقهم بعض أصحاب رؤوس الأموال والتجار والمحسوبين على الدولة والعديد من المواطنين.
يقول ممدوح، وهو مدير مدرسة نازح من الرقة، إنه «في تلك المرحلة، حرصنا على الاستمرار في العملية التعليمية، وقدمت لنا الحكومة في دمشق كل احتياجاتنا، بما في ذلك رواتب المعلمين التي لم تنقطع».
الهجرة الثانية كانت بداية العام 2014 عندما سيطر «داعش» على الرقة، بعد فشل «أحرار الشام» و «جبهة النصرة» في الحفاظ عليها وإدارتها. وظلت الأمور على طبيعتها لأكثر من شهرين. بعدها انقلب الواقع رأساً على عقب، وشرع التنظيم في تنفيذ الإعدامات، وراح يصدر التعاميم بمنع التدخين وإلزامية اللباس الشرعي وأوقف المدارس.. إلخ، حتى أصبح الناس يخشون على أنفسهم، فكان القرار بالمغادرة، وشهدت المحافظة موجة نزوح جماعي هرباً من بطش «داعش» وقوانينه الصارمة.
صلاح شابٌ من الرقة يعيش حالياً في ماليزيا، يقول في حديثه عبر سكايب، انه «في العام 2014، مررت على حاجز في المدينة، وكان معي كتبي الجامعية، وعندما علم العنصر أنني أدرس الحقوق وبّخني واقتادني معه إلى غرفة الحاجز، وهناك سألوني هل أختار السجن أم الجلد 30 مرة لأنني أدرس الحقوق، فاخترت الجلد من مبدأ أن 30 جلدة معروفة أفضل من سجن مجهول، وبالفعل نفذ الحكم بي، وعدت إلى المنزل، ووضَّبت أغراضي وغادرت في اليوم التالي إلى تركيا ومنها إلى ماليزيا، ولم أعد بعدها ولن أعود».
الهجرة الثالثة سميت بـ «هجرة اليأس»، وجاءت بعدما سيطر «داعش» على «الفرقة 17» و «اللواء 93» ومن بعدهما مطار الطبقة. في هذه الأثناء، شعر الناس باليأس من عودة الدولة للرقة، وأيقنوا بأن التنظيم باقٍ لفترة ليست بقصيرة، وأنه لا يمكنهم التعايش معه، وعليهم المغادرة، فكانت موجة النزوح الثالثة والأخيرة.
يقول هاني، وهو مزارع من الرقة: «كنت من بين آخر الذين غادروا الرقة مع عائلتي. لم يبق لنا سبيل للعيش هناك، فقد فرضوا علينا قوانين جديدة، ونظام حياة لا يناسب عاداتنا وتقاليدنا وثقافة مجتمعنا. على سبيل المثال لا الحصر، حطموا قبر ولدي، ومنعونا من زيارة المقابر. فرضوا الدين على الناس، قمعوا الحريات الشخصية، حطموا القيم المجتمعية، أغلقوا المدارس، منعونا من تعليم أبنائنا، وأصبح المدرس يخشى على حياته بعدما أصدروا قراراً بإعدام كل مدرس يعرفون بأنه يعطي دروساً للأطفال خارج معسكراتهم الجهادية، ما هدد بانتشار الجهل تماماً كما كان عليه الوضع أثناء الاحتلال العثماني للمدينة قبل قرن من الزمن، وفي هذا الوقت كان عدد الغرباء يزدادون في الرقة، ويحتلون بيوت الناس وممتلكاتهم في أسلوب أشبه بالاستيطان».
بحسب إحصائيات الأهالي، فإن أكثر من 600 ألف مواطن من الرقة غادروها بعد العام 2013. وإذا ما اطلعنا على الإحصائيات الحكومية لعام 2012، فإن عدد سكان الرقة كان مليون و50 ألف نسمة، 51 في المئة منهم نساء، أي أنه لم يبق فيها سوى قرابة 400 ألف نسمة، غالبيتهم الساحقة يعيشون في الريف، حيث تقول إحصائيات الأهالي أيضاً إن 75 في المئة من سكان المدينة غادروها، بينما غادر 45 في المئة من أهالي الريف، خصوصاً سكان مناطق تل أبيض، عين عيسى، سلوك، الجرنية، المحمودلي. أما من تبقى في الرقة فقد أرسل غالبية اولاده، ذكوراً وإناثاً، إلى خارج المدينة، فهم يخشون على الذكور من السوق إلى الخدمة مع «داعش» في أي لحظة يختارها التنظيم، بينما يخشون على النساء من أن يطلبهن عناصر من التنظيم للزواج، لأن العائلة لا تستطيع رفض ذلك، وإذا رفضت يكون الثمن غالياً جداً، قد يكون رأس الأب والإبنة معاً.
ورغم هجرة الأهالي بهذه الأرقام المرتفعة، نجد أن سكان الرقة في الوقت الراهن أكثر من 800 ألف نسمة بحسب آخر النازحين منها، حيث تشهد المحافظة هجرة معاكسة لأشخاص من داخل سوريا ومن خارجها. ويعتبر غالبية سكان الرقة الحاليين من السخنة، تدمر، حمص، إدلب، أما القادمين من خارج الحدود فجنسيات غالبيتهم عراقية.
يقول أنس الذي وصل إلى حماه قادماً من الرقة مطلع أيار 2016، إن «جواز العبور إلى داخل الرقة هو اللحية. لا يهم إذا كنت مؤمناً حقيقياً أم لا، يكفي أن يكون لك لحية طويلة عند وصولك إلى أول حاجز عند مدخل الرقة حتى يقولون لك أهلا بك يا شيخ. فكلمة شيخ هي الكلمة الأكثر رواجاً في الرقة، تماماً مثل كلمة أستاذ في المدرسة».
النازحون من الرقة يتوزعون بين الداخل والخارج، حيث يعيشون داخل سوريا بشكل رئيسي في مدن حماه، الحسكة، طرطوس، اللاذقية، دمشق، وخارجها في لبنان، تركيا، الأردن، ماليزيا، بينما شريحة الشباب، بغالبيتهم، هاجرت إلى أوروبا في ركب المهاجرين، بحثاً عن العلم الذي فقدوه في مدينتهم والمستقبل الذي جعله «داعش» أسود.
اللافت أن الأهالي الذين هاجروا من الرقة لا يعيشون في المخيمات وإنما في بيوت استأجروها، أو عند أقرباء لهم، ويشكلون تكتلات في المجتمع الذي يعيشون فيه، ويحافظون على التواصل بينهم، حيث لم يشهدوا أي انقطاع. يقول حسين: «نسعى من خلال لقاءاتنا لتبديد شوقنا لأرض الرقة التي أرغمنا على مغادرتها، ونحلم بالعودة لها عما قريب، وبشكل أسبوعي نجتمع في بيت أحدنا ونتبادل الحديث عن مدينتنا وذكرياتنا فيها، والواقع المعيشي الذي تفرضه علينا ظروف الحرب والتهجير».
أما بالنسبة لتنظيم «داعش» داخل الرقة، فإن الواقع المعيشي جيد جداً، فلدى التنظيم قدرة كبيرة على جمع الضرائب والأموال، بحسب أنس، الذي يضيف: «خلال أسبوع قاموا بتنظيم كل المحال التجارية في السوق، ووضعوا لها أرقاماً وألزموا أصحابها على دفع ضريبة كل شهرين. وهنا لا يتجرأ أحد على المماطلة في دفع الضريبة لأن العقوبة تنتظره، بينما في عهد الدولة، كان الناس يتدللون في الدفع ويتهربون وما إلى ذلك دون عقوبة تذكر».
وكذلك ينسحب الأمر على ضرائب الهاتف والمياه والكهرباء، حيث يلزم التنظيم كل منزل بدفع سبعة آلاف ليرة قيمة استجرار كهرباء كل دورة، بينما كنا ندفع حوالى 500 ليرة في العام 2012، يقول أنس.
ويعيش الأهالي في الرقة واقعاً معيشياً سيئاً للغاية، وتغيب قدرتهم على الشراء في ظل أسعار ترتفع تدريجياً، خصوصاً خلال الشهر الماضي الذي وصل فيه ثمن كيلو السكر إلى 800 ليرة، بينما وصل سعر رغيف الخبز إلى 40 ليرة بينما كان ثمن الربطة سابقا 15 ليرة.
إلى جانب ذلك، يتدهور الواقع الزراعي، إذ هبط إنتاج الرقة من محصول القمح من 550 ألف طن في العام 2012 إلى 110 آلاف هذا العام، كما هبط إنتاج جميع المحاصيل الأخرى. يقول هاني إن «ثمن طن السماد بات بمئات الآلاف، وهو ما جعل الناس يعزفون عن الزراعة في المحافظة التي كانت تموّن سوريا كلها زراعياً».
يخشى النازحون من الرقة أن يستمر الأمر طويلاً على هذه الحال وهم بعيدون عن مدينتهم، بينما يسكنها أناس غير أهلها، ويبررون خشيتهم هذه بأنها ليست تمييزاً بين الناس، ويقولون إن الرقة تتسع للجميع، «لكن الخوف كل الخوف أن يكون هناك عمل ممنهج من التنظيم لتغيير ديموغرافي في الرقة، بعدما غير العادات والتقاليد والثقافة» بحسب تعبير الأهالي.
بلال سليطين
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد