عن أسرار الماضي والسياسات الراهنة ماذا يوجد في درج مكتب الرئيس الأسد؟
في العام 1963، أصدر مدير إدارة شؤون الضبّاط المقدّم صلاح جديد قراراً يقضي بإعادة الرّائد حافظ الأسد إلى مرتّبات الجيش، وهو الّذي كانَ محالاً للخدمة المدنية في إحدى وزارات الدولة بسبب موقفه الرافضِ لانفصال مكونيّ الجمهورية العربية المُتحدة. في العام 1964، رُقيّ حافظ الأسد من رتبة رائد إلى رتبة لواء دُفعةً واحدة وعُيّن قائداً للقوى الجويّة والدفاع الجويّ. في العام 1966، انقلبَت اللجنة العسكرية بقيادة جديد والأسد على القيادة القومية لحزبِ «البعث» الّتي ضمّت مؤسس الحزب ومُنظّره الأوّل ميشيل عفلق إضافةً إلى رئيس الجمهورية، آنذاك، أمين الحافظ. عُين الأسد وزيراً للدفاع بُعيد نجاح الانقلاب.
ظهرت أولى بوادر الخلاف بينَ حافظ الأسد وصلاح جديد حين انتقد الأخير أداء وزارة الدفاع في حرب 1967. سجّل جديد تحفّظاً شديداً على إعلانِ سقوطِ القنيطرة بيدِ إسرائيل بصورةٍ استباقيّة (أيّ قبل أن يصير السقوطُ أمراً واقعاً)، وأبدى امتعاضه من تأخّر سلاح الجوّ السوريّ في دعمِ الجيش الأردنيّ خلال عدوان حزيران. في «أيلول الأسود» العام 1970، تحوّل الخلافُ إلى شقاقٍ بعدما حمّل صلاح جديد حافظَ الأسد مسؤولية فشل الجيش السوريّ في نصرة فلسطين واتّخذ قراراً، بإجماع القيادة القطرية لحزب «البعث»، بعزلِ الأسد ورئيس الأركان مصطفى طلاس، لكنّ الأخيرَين لم يمتثلا للأمر وانقلبا، في تشرين الثاني 1970، على حُكم صلاح جديد ورئيس الجمهورية نور الدّين الأتاسي في ما عُرف لاحقاً باسم «الحركة التصحيحية».
من الأبِ إلى الابن
خلال عامي 1946 و1971 عاشت سوريا عصراً سياسياً أُطلق عليه اصطلاحاً اسمُ «زمنِ الانقلابات». فما كادَت إذاعة دمشق، التي تأسّست العام 1947، تُعلنُ عن وصولِ أحدهم إلى سدّة الحكم، حتّى يجيء انقلابٌ جديد يُطيح الحاكم معلناً استلامَ آخر. وحدَه حافظ الأسد استطاع أن يضع حداً لهذا المسلسل الانقلابيّ بعد تولّيه مقاليد الحكم في شباط 1971. كيف تمكّن من ذلك؟ الجوابُ يتكوّن من جملةِ أسرارٍ مخبّأةً في درجِ مكتبِ الرئيس بشّار الأسد.
في العام 1973، خاضت سوريا «حرَب تشرين» الّتي سمحت باستعادةِ 60 كيلومتراً مربعاً من مساحة الجولان السوريّ المُحتل. في العام 1975 انخرطَ الجيش السوريّ في الحربِ الأهليّة اللبنانية وكان شاهداً على غزو لبنان العام 1982 من قبل الجيشِ الإسرائيليّ، قبلَ أن يُصار إلى طرد الغزاة من جنوبِ البلاد في العام 2000. حافظ الأسد كان حاضراً على رأس هذه الملفّات، وكلّ ما طُويَت صفحته من أسرارِ تِلك الحقبة جرى حفظه في درجِ مكتب الرئيس بشّار الأسد.
في حربِ الخليج الأولى (1980ـ 1988) وقف الأسد الأب إلى جانب إيران ومدّها بالسّلاح وأسّس لشراكةٍ متينة ما زالت دمشق تقطفُ ثمارها حتّى الآن. ماذا في خبايا التحالف؟ أيّ صفقاتِ سلاحٍ مُرّرت منذ 1980 حتّى اليوم؟ ما هو حجمُ التعامل الاستخباريّ بين البلدين؟ الجواب موجودٌ في درجِ مكتبِ الرئيس بشّار الأسد.
أسرار الأسد الابن
ما قيل قبلاً ليس إلّا غيضاً من فيضِ القضايا والأحداث المُنضوية على كمّ مهول من الأسرار والخبايا الّتي وُرّثت مفاتيحها وأدقّ تفاصيلها للرئيس بشّار الأسد الّذي فوجئ، منذ تولّيه مقاليد الحُكم في تمّوز العام 2000، بعاصفةٍ من الأحداث، بدأت بغزو القوات الأميركية للعراق العام 2003، تلاها اغتيالُ رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في شباط 2005، ثمّ انسحاب الجيش السوري من لبنان في العامِ ذاته. في العام 2006 قاتل «حزبُ الله» الإسرائيليين بسلاحٍ قال السّيد حسن نصر الله، لاحقاً وفي أكثر من مناسبة، إنّ المقاومة اللبنانية حصلت عليه من سوريا وإنّ هذا السّلاح كان نوعياً وجيداً جداً على المستوى الصّاروخي. العودةُ إلى نهايات حرب تمّوز تُذكّرنا بتصريحٍ لرئيس الحكومة الإسرائيلية إيهود أولمرت راهنَ فيه الأخير على نفادِ ذخيرة الحزبِ من الصّواريخ الفعالة. حسناً، يبدو أنّ الإسرائيليين، برغم عظمةِ آلتهم الاستخبارية، كانوا يجهلون حجم التبادل التسليحيّ بين المقاومة ودمشق. كلّ أسرارُ ذلك التبادل كانت، وما زالت، مخبّأةً في درجِ مكتبِ الأسد.
في العام 2008 حوصرت غزّة. أُغلق معبر رفح، وصار القطاع تحت رحمةِ النار الإسرائيلية الّتي ما كانت لتهدأ لو لم تمتلك المقاومة الفلسطينية سلاحَ ردعٍ فرضَ توازنَ رعبٍ مع الكيانِ الصهيونيّ. السّماء لم ترسل صواريخ للقطاع، دمشق وطهران من فعلتا ذلك. أسرارُ تمرير هذا السّلاحِ إلى مُحتاجيه في فلسطين المحتلة موجودةٌ في درجِ مكتبِ الرئيس بشار الأسد.
كل ما قيلَ قبلاً ليسَ أكثر من عناوين عريضة تُغلّف ألفَ جزئيّةً وألف تفصيل. كواليسُ تبادلُ الأسرى، صادرات السّلاح ووارداته، بواطنُ تغيّر السياسات الخارجية، بعضُ خبايا الاغتيالات السياسية الحاصلة في المنطقة، ما لم يحِن وقتُ قوله عن اغتيالِ القائد عماد مُغنية، وما لم تجئ لحظةُ كشف اللثام عنه في قضيّة اغتيالِ الشهيد سمير القنطار. هذه الحكاياتُ كلّها لها مفاتيحٌ مُخبّأة في درج مكتب الرئيس بشار الأسد.
تُصرّ المعارضة السورية في كلّ مناسبةٍ على الدّفع باتجاه تخفيضِ صلاحيات رئيس الجمهوريّة. هذه نقطة. حينَ حصل تفجير مبنى الأمنِ القوميّ في تمّوز 2012، علَت أصواتٌ كثيرةٌ تُبشّر بانهيارِ النظامِ السوري على خلفية مقتلِ أربعةٍ من رجالاته. استغرقَ الأمرُ ساعاتٍ قليلةً لاحتواءِ الحدث وتسمية بدائلَ للقادةِ المُغتالين قبلَ أن تعودَ الحياةُ في قلبِ دمشق إلى طبيعتها. هذه نقطةٌ ثانية. الظهورات المتكرّرة لمسؤولي الصفّ الأوّل في سوريا على شاشاتِ الفضائيّات وفي المؤتمرات الصحافية تبرز أنّهم مُطّلعون على عمومياتِ الأحداث وأساسيات الروايات، أمّا التفاصيل الّتي يسكنها الشيطان فهي، تقديرياً، ليست في متناولهم. هذه نقطةٌ ثالثة.
من تقاطع النقاط الثلاث نستطيع أن نصلَ إلى نتيجة مفادها أنّ خزانة أسرارِ سوريا موجودةُ في مكتبِ الرئيس بشّار الأسد. الأكيدُ أنّ أسباب عدمِ انهيارِ الدولة وخلاصة التحالفاتِ الإقليمية والدولية موجودةٌ هناكَ أيضاً.
سوريا ليست تونس الوادعة، وليسَت مصر الّتي شلّتها كامب ديفيد، وليست ليبيا المحكومة بكتابٍ أخضر، وليست اليمن الفقير. سوريا ليست بلداً على هامشِ الخريطة يَكفي أن تُجيّش بعضاً من داخله حتّى تُسقطَ رئيسه بتظاهراتٍ وأغنياتٍ تبثّها بعضُ الفضائيات.
الأرضُ كلّها انقسمت حولَ هذا الرّجل. قطبا العالم يتنافران كلّما جيء على ذكرِ اسم الرئيس السوري. هذا كلّه، وما زال هناكَ من هو مُصرٌّ على إطلاقِ أحكامٍ قطعيّة عن حتميّة رحيله، وهناكَ من لا يزال مصرّاً على عرقلةِ عجلةِ الحلّ السّياسي في سوريا بعصا تنحّي الأسد. سلوكُ بعضِ دولِ الخليج التي أرادت شراء ذمّة روسيا بقصدِ فكّ تحالفها مع دمشق كشف عن مراهقة سياسيّة تشرح بعضاً من أسبابِ ثبات النظام السّوري.
إسقاط الرئيس بشّار الأسد يتطلّب، أوّلاً، عزله عن تحالفاتٍ أثبتت أنّها أكثر متانةً مما ظنّ الجميع، أمّا البعضُ الّذي اعتبرَ حديث الرئيس السوري عن خطّ التقاءِ الزلازلِ أمراً مبالغاً فيه، فالحريّ به أن يسأل نفسه مجدداً: «ماذا يوجد في درجِ مكتب الرئيس بشار الأسد؟».
رامي كوسا: السفير
إضافة تعليق جديد