من وحي منبج .. المرأة السورية من الثورة إلى المحرم
شغلت صور النساء اللواتي كُنّ يخلعن الزي الأسود والخمار في منبج معظم وسائل الإعلام العالمية، وقد تلقفها الناس بكثيرٍ من الفرح المُطّعم بالحزن على مشهد لم يألفه السوريون من قبل، ولم يكن يوماً طموحاً للمرأة السورية. مشهدُ النساء في منبج ليس المشهد الوحيد في سوريا، هناك مشاهد أخرى مشابهة أفرزتها الأزمة تستحق المرور عليها، كما يستحق تاريخ المرأة السورية خلال القرن الماضي المرور عليه.
قبل حوالي قرن من الزمن، كانت السورية نازك العابد تقف إلى جانب الشهيد يوسف العظمة في معركة ميسلون ضد الاستعمار الفرنسي، وبعد الحرب، أسّست جمعيةً لرعاية ضحايا الثورة السورية الكبرى. وفي خمسينيات القرن الماضي، كانت الأديبة السورية إلفت الإدلبي تضع مؤلفاتها الواحد تلو الآخر، والتي كانت تترجم تباعاً إلى 15 لغة عالمية.
حضور المرأة السورية ما كان ليتوقف، فقد امتد في سلسلة متصلة يمكن وصفها بـ «التطور التراكمي»، إلى أن شهدنا في مطلع الألفية الجديدة قيادة المرأة السورية للطائرات، فكانت الكابتن وداد عدنان شجاع أول سورية تقود الطائرة.
لم تقتصر القيادة عند المرأة السورية على الطائرة، فكثيراً ما كانت تقود العائلة إلى الإستقرار الأسري والإجتماعي، إلى جانب دورها المجتمعي، وحتى السياسي، لدرجةٍ تبوأت فيها أرفع المناصب في الدولة السورية: نائب رئيس الجمهورية، ورئيسة مجلس الشعب، ونائب في مجلس الشعب، ووزيرة.. وليس انتهاءً بقيادة الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني، فكانت الأم والمربية والقاضية والطبيبة..ألخ. ومع اندلاع الأزمة في البلاد، كانت في كثيرٍ من المواقع على رأس الحراك، كفدوى سليمان التي كانت تقود التظاهرة حاسرة الرأس. لكن المرأة لم تكن تنشد أو تتوقع الوصول إلى هذه الحال التي هي عليه الآن.
هنا لا نقول أن المرأة السورية كانت تعيش واقعاً مثالياً بالمطلق، ولا في «المدينة الفاضلة» خلال العقود الطويلة الماضية، لكنها كانت تعيش هامشاً لا يستهان به من الحرية والحضور المجتمعي مع بعض القيود في بعض المجتمعات، لكنها قيودٌ في الحدود الدنيا، وقد صادق عليها بلا شك قانون الأحوال الشخصية آنذاك، ومع ذلك فإن بعض النساء يطلقن على المرحلة الماضية اسم «مرحلة العصر الفضي».
«مرحلة العصر الفضي» انتهت على ما يبدو عند أكثر من نصف النساء السوريات منذ أن بدأت مرحلة «الربيع العربي» التي أنجبت في سوريا تياراً ظلامياً نكّس راية المرأة السورية، التي تغّير واقعها تدريجياً إلى أن باتت تحتاج إلى محرم لكي تخرج من منزلها. والمحرم، بحسب مديرة منتدى السوريات الاسلامي أسماء كفتارو، «ثقافة دخيلة على الإسلام الشامي»، اشتهر بها التيار الوهابي في السعودية.
وضعت الحرب المرأة السورية في ثلاثة مستويات، الأول تعيش فيه النساء حالة من القمع والإضطهاد والتغييب بشكل أكثر سوداوية بكثير من ذلك الذي صوّره مسلسل «باب الحارة» («اشختك عالبلوعة»!) وهي مناطق سيطرة «داعش» وبعض مناطق «جبهة النصرة»، ومستوى ثان يعيش مرحلة «انفتاح» افضل، حيث اقتصر فيه التضييق على النساء بإجبارهن على وضع الحجاب وارتداء الجلباب الأسود، مثل حالة أم صخر، وهي إمرأة إدلبية كانت في السابق لا تضع حجاباً، ولم يفرضه زوجها عليها يوماً، إلا عندما سيطرت مجموعات متطرفة متآلفة في ما بينها على المنطقة التي يسكنانها، وبات الحجاب فرضاً. أما المستوى الثالث، فيشمل أولئك النساء اللواتي لا زلن يعشن حياتهن بكل حرية ويمارسن دورهن السياسي والمجتمعي بعيداً عن مناطق النفوذ الديني التي تشكلت خلال الأزمة.
وتقول الناشطة في مجال حقوق المرأة منى غانم، إنه «خلال عملي مع إحدى اللاجئات في الجنوب التركي، قالت لي إنها تفضل الآن على مرحلة ما قبل الحرب، لأنها استطاعت الخروج من المنزل والمشاركة في ورشات وتدريبات اكتشفت نفسها من خلالها».
فرض وجوب المحرم مع المرأة أقره تنظيم «داعش» في مناطق سيطرته، وكذلك «جبهة النصرة» في بعض مناطق سيطرتها. لكن هناك مناطق أخرى توجد فيها «النصرة» ولا يفرض فيها المحرم، وهو أمر خلّف جدلاً في بعض الأوساط، إلا أن ناشطاً من ريف إدلب حسم الجدل قائلاً إن «المناطق حالياً غير مستقرة عسكرياً، وفيها أيديولوجيات عدة، وبالتالي ليس من مصلحة أحد فرض أدبياته لأن ذلك سيخلق صراعاً دامياً يقضي على التحالف المصلحي القائم»، معتبراً أنه «بالتالي لا يمكن الحكم على أي تنظيم وأدبياته في هذه المرحلة، إذ يجب انتظار الاستقرار وحينها سيفرغ الجميع ما في جعبتهم من أفكار وفروض، وإن كنت أرى المرأة غير قادرة على الحركة من دون محرم في جميع المناطق التي تسيطر عليها النصرة أو المجموعات ذات الميول المتطرفة في أول فرصة سانحة».
والمحرم لا يقتصر على النساء البالغات. هكذا، يمارس عدنان، وهو طفل لا يتجاوز التاسعة من عمره، دور المحرم على شقيقته التي تكبره بثلاث سنوات، ولا يمكنها الخروج من المنزل للتعلم أو لقضاء أي حاجة أخرى إلا إذا كان معها.
وتحمل كفتارو المسؤولية عن الإنحسار والتراجع الذي تعيشه المرأة السورية للمؤسسات الدينية بكل اشكالها ومرجعياتها التي تشدد على بقاء المرأة في دارها وتحت مِظّلة «المحرم»، وترى أن ذلك يتعارض مع سيرة الصحابيات في عهد النبي، مؤكدة أن «سيرهن تدعم النساء بشكل واضح».
وتربت حفيدة المرجع الديني المفتي الراحل أحمد كفتارو في بيئة لم تفرض عليها المحرم. وهي تقول إن ذلك عائدٌ لمن لقّنها الدين، حيث كان ذا عقل نيّر ومنفتح، مشيرة إلى أن «الحجة الدينية عندما تأخذ المكان الخطأ، تصل المرأة إلى هذا الواقع»، داعية إلى «تأسيس تجمع نسائي مهتم بالدعوة الدينية يناهض هذه الحملات بالحجة الدينية».
تؤكد التجارب أن المرأة هي الضحية رقم واحد في الحروب إلى جانب الأطفال، وهذا يشمل الواقع السوري، حيث نجد نساءً سوريات اليوم أرامل ويتامى وثكالى ..، وبعضهن أصبحن معيلات لأسرهن بعد غياب الزوج، وقد عملن على تطوير أنفسهن سواءً في تركيا أو لبنان وحتى دول أوروبا التي هاجرن إليها، إلى جانب مناطق سيطرة الدولة السورية ومناطق الأكراد وعدد محدود جداً من المناطق الأخرى.
واقع المرأة الذي يعد أفضل نسبياً في المناطق آنفة الذكر، دفع السياسية السورية المعارضة ومديرة منظمة جذور منى غانم لاعتبار أنها «فرصة لا بد للقيادات السياسية أن تبني عليها، لأن معظم السكان في سوريا سيكونون من النساء والأطفال بفعل الحرب التي حصدت الكثير من أرواح الرجال، وهجرت الكثير من الشباب إلى أوروبا».
«على المجتمع المدني مسؤولية كبرى في ما يتعلق بالمرأة وواقعها الحالي، لكنه ليس في أحسن حال»، تضيف غانم معيدة السبب إلى انه «مجتمع مشرذم، وغالباً ما تحكمه أجندات الممولين، وخاصة في مناطق الشمال السوري، لذلك لا أتوقع أن يكون هناك عمل منهجي مؤثر من قبل المجتمع المدني، وإنما ستكون هناك محاولات لبعض المنظمات المعنية بشؤون المرأة». وتضيف «علينا المساهمة بشكلٍ كبيرٍ في التمكين الفردي والمجتمعي من أجل أن تتغير البيئة الاجتماعية المحيطة بالمرأة لتمكنها من المشاركة الفاعلة في بناء المجتمع وأن نشجع النساء على العمل السياسي والانطلاق إلى فضاءات العمل العام في سوريا».
انقلاب واضح في واقع المرأة السورية التي كانت بحسب سير الوقائع تتجه إلى مرحلة تكون فيها أكثر حقوقاً وحرية، حتى أن بعضهن تبنين شعارات ثورية في بداية الحراك وكنّ في مقدمته، سواء في سراقب أو حمص ومنبج والرقة ..إلخ، لكن المفاجأة أن هذه المرأة «الثورية» هي ذاتها التي فقدت كل امتيازاتها وشخصيتها، وباتت غير قادرة على الخروج من منزلها من دون محرم .. في ظلال «الثورة».
بلال سليطين
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد