مثقفون في الفنادق: الرجاء عدم الإزعاج أيتها الحرب
«لم أعد أخشى الموت، لكن الطريقة التي مات فيها الشاعر معين بسيسو في الفندق، وكانت غرفته مغلقة، وعلى الباب إشارة (الرجاء عدم الإزعاج) جعلتني أخشى هذه الإشارة، أو اللافتة، فجُثّته اكتُشفت بعد يومين. الآن كلما نزلتُ في فندق لا أضع هذه الإشارة على الباب»! يأخذنا كلام درويش عن بسيسو (الذي رحل في شتاء لندن 1984)، إلى الحديث عن حال العديد من مثقفين وفنانين سوريين اضطرتهم ظروف الحرب إلى هجرة بيوتهم للإقامة في فنادق العاصمة، فيما اختار البعض الآخر منهم اللجوء إلى دوْر كبار السِن، هرباً من أصحاب الخنادق.
أسماء عديدة تقطّعت بهم السُبل، خسروا منازلهم في حلب وحمص وضواحي دمشق، فلم يكن منهم سوى أن يلوذوا بآخر الجدران التي تقيهم من قذائف الحرب وويلاتها.
هكذا خرج فاضل الكواكبي من بيته في «حي السبيل» ولم يعُد منذ سنة وثمانية أشهر حتى الآن، ليختار الإقامة في فندق «برج الفردوس»: «مع اشتعال الجبهات في حلب، وهجرة كل أفراد عائلتي إلى خارج البلاد، لم أستطع أن أدير بيت العائلة الكبير بمفردي، فكان خياري النزوح إلى دمشق».
كيف تبدو الحرب من غرفة في فندق؟ يجيب الناقد السينمائي: «تبدو المفارقات أكبر، فعندما تعيش في منزل تعاني مع مَن يعانون من الحرب وآثارها، لكن في النهاية أنت جزء من منظومة اجتماعية تدفعك الغرفة إلى الاختناق أحياناً، فأخبار الموت والدمار اليومي لا تدعكَ وشأنكَ بسهولة، رغم أنكَ تحاول عزل نفسك إلى أبعد حد، ففي الفندق تشعر كأنك على سفرٍ دائم، تراقب وتتلصص على ما يجري، فتشاهد مفارقات تتبدى لكَ بحِدة. ترى الأشخاص الذين استفادوا من الحرب، فكوّنوا ثرواتٍ هائلة ليصرفوها على مرابع السهر ومطاعم الخمس نجوم، ترى أيضاً حشوداً من المشرّدين ـ (الكلوشار) يأتون أيضاً إلى مركز المدينة. إنه فيلم وثائقي مباشر سيبدو لكَ في مركز مدينة مثل (دمشق ـ الحرب) واضحاً لدرجة القسوة والاستفزاز، لا سيما حين يلتقي فقراء الحرب وجهاً لوجه مع تجارها، كل حسب دوره»!
كَثيرون هم المثقفون العرب الذين استهوتهم الحياة في فنادق من مثل سعدي يوسف، وألبير قصيري الذي عاش خمسين عاماً في فندق بباريس، وعمر الشريف، وأحمد زكي الذي أمضى آخر خمس سنوات من حياته في أوتيل، بينما أمضى المخرج الراحل نبيل المالح شهوراً طويلة في «فندق الشام» أثناء تصويره لفيلم «الكومبارس» (1993) برفقة المخرج العراقي قيس الزبيدي، في حين كان حنا مينة مواظباً لسنوات طويلة على العيش والكتابة في فندق «القصر» باللاذقية. المدينة التي لجأ إليها كل من الفنانة سلاف فواخرجي وزوجها الممثل وائل رمضان برفقة نجليهما حمزة وعلي في أول سنتين من الأحداث، مقيمين في فندق «روتانا»، وذلك بعد تعرّض العائلة للتهديد المباشر على خلفية مواقفها السياسية.
سفينة نوح
الأديب وليد إخلاصي ورث هذا الطقس من سياسيّي حلب ورجالاتها كأسعد كوراني وسعد الله الجابري وآخرين، ليستقرّ به المطاف بعد عودته مؤخراً من «الصومال لاند» في «الداما روز». الفندق ذو النجمات الخمس يذخر اليوم بنزلائه من إعلاميين وفنانين وكتّاب أجبرتهم الحرب على ترك بيوتهم، من مثل الإعلامي إبراهيم ياخور، والممثل زهير عبد الكريم وعبد الله عبد الوهاب مدير «تلفزيون الخبر»، والزميل زياد حيدر.
الكاتب حسن سامي اليوسف غادر منزله في ضاحية صحنايا عام 2012؛ بعد أن تحوّل المكان إلى ما يشبه خط تماس مباشر للقتال الدائر على أطراف مدينة داريا؛ ومنذ ذلك الوقت حجز الأديب الفلسطيني ـ السوري غرفته في فندق «الفردوس تاور» وعن تجربة العيش هناك يقول: «أبشع شيء أشعر به في هذا الفندق هو الإحساس الآني بأنني سائح في مدينتي، هنا تفتقد للعلاقات العائلية والإنسانية، بالتالي تعيش علاقات سياحية تامة؛ غرفة ومطعم وموعد طارئ؛ فالأصدقاء رحلوا؛ والمواعيد غالباً ما تكون في بهو الأوتيل، ثم إن حركتك محدودة في دائرة نصف قطرها واحد كلم مربع. بشكل من الأشكال أنت في إقامة جبرية ولستَ في سياحة، فإحساسك يقول لكَ إن كل شيء عابر، وإن هذا العابر ليس عابراً وحسب، فالآفاق مسدودة وليس هناك من حلول. صدّقني هذا مرعب».
التاريخ يحفل بشخصيات أدبية مرموقة قضت شطراً من حياتها في فندق. كان ذلك في ظل فترات السلم أقرب إلى الرفاهية وإرضاءً لنرجسية الكاتب وتحقيقاً لعزلته الإبداعية، فآرثر ميللر جاء إلى تشيلسي في العام 1962هارباً من كوارث زواجه بالممثلة الهوليودية الأشهر مارلين مونرو، وفي «فندق تشيلسي» بدأ بكتابة مسرحيته «بعد السقوط». كذلك تينيسي ويليامز عاش في (الإليزيه هوتيل) في مانهاتن لمدة خمسة عشراً عاماً، إلى أن مات هناك في جناح يُدعى باسمه في شهر شباط من عام 1983، وحتى يومنا الحالي يمكن لأي نزيل في الفندق أن يطلب نسخة مجانية من مسرحيته (عربة اسمها الرغبة)»!
صالح علماني يحدثنا بدوره عن ثنائية الفنادق والخنادق، مستشهداً بغابرييل غارسيا ماركيز؛ قارئاً لنا من صفحات كتاب ينقله حالياً إلى العربية بعنوان (غابو ـ منذ الشباب وحتى نوبل ـ دار برشلونة ـ Ediciones ـ 2013)، وفيه نطلع على جزء لا بأس به يتكلم مؤلفه (بلينيو أبوليو ميندوثا) كيف قضى (غارسيا ماركيز) الفترة الأولى من حياته في فنادق كولومبيا الرخيصة، بحكم عمله في الصحافة وصعوبة استئجاره بيتاً، وحتى أثناء وجوده في باريس عاش في فندق - يتابع علماني نقلاً عن الكتاب: «كان يستحمّ بتصريح من صاحبة النُزل، وقتذاك كان ماركيز يكتب روايته (ساعة الشؤم)، مقيماً في بانسيون صغير في شارع (CUJAS)».
يبدو الأمر مختلفاً بالنسبة للمثقفين والفنانين السوريين الذين دفعت العديد منهم إلى العيش في فنادق، حتى مشاهيرهم من أمثال أنطوانيت نجيب وضحى الدبس ومرح جبر، واللاتي أقمن بداية الأحداث الدامية في فندق (بلو تاور) بشارع الحمراء الدمشقي، بينما تقيم اليوم الممثلة نسرين طافش في فندق الشيراتون. الكاتب أحمد السيد والشاعر الغنائي صفوح شغالة أقاما في فنادق بحي (البحصة) وسط العاصمة، كما يزدحم (فندق الكارلتون) اليوم بإعلاميي التلفزيون الحكومي ومخرجيه منذ بداية الحرب. أما المطرب الحلبي سمير جركس فأقام في فندق (الفاندوم ـ بلازا). وفي بيروت أيضاً نجد هذه الظاهرة مع كل من الممثل عبد الهادي الصباغ في فندق (لومارلي ـ الحمراء) والمخرج حاتم علي والممثلين تيم حسن وقصي خولي وباسل خياط: (كراون بلازا ـ بيروت) و(أحيرام ـ جبيل).
آخرون في دار للمسنين
وإذا كان العيش في فندق هو نوع من تلبية لنزعة ما أو رغبة في أخذ الحياد من وقائع الحرب، أو حتى محاولة نكرانها؛ فإن البعض الآخر كانت لديه أسباب مختلفة من إهمال وتقصير بحقهم أدى لانكفائهم؛ إذ إن البعض من المثقفين السوريين التجأ إلى دار كبار السن، وذلك بعد أن خسر بيته وعزوته، وانفضّ عنه أبناؤه أو اضطروا للهجرة، وصمّت المؤسسات آذانها دونه. (علاء الدين كوكش ـ 1942) هو أبرزهم، إذ يقيم منذ العام 2012 في «دار السعادة» للمسنين. المكان الذي صار بمثابة منفى اختياري لمخرج «حفلة سمر من أجل خمسة حزيران» وأحد أبرز مؤسسي التلفزيون والدراما في سوريا، وذلك بعد أن خسر صاحب رواية (التّخوم ـ المركز الثقافي العربي 2010) بيته في منطقة (المعضمية) وسطا اللصوص على أثاثه ودمّروا مكتبته التي يصل تعدادها إلى أكثر من خمسة آلاف كتاب. مجبرٌ أخاكَ لا بطل ـ يقول صاحب (أسعد الورّاق) مضيفاً: «اضطررت للنزوح من بيتي ومكتبي بعد احتداد المعارك من حولي وانقطاع الكهرباء والماء والإنترنت، وازدياد الجثث على طريق منزلي ـ (شقا العمر)، لكن ما يحزنني هو مكتبتي، كانت أهم شيء في حياتي، جمعتها مذ كنتُ صغيراً، ورغم ذلك لم أنقطع عن اقتناء الكتب ومطاردة كل جديد منها، بل أشارك على (الفايس بوك) بعضاً من قراءاتي، وكما ترى ارتجلتُ رفوف مكتبةٍ جديدة في خزانتي الصغيرة هنا». لم يكن هناك من دور لنقابة الفنانين في مساعدتي ـ يعقب كوكش، ويضيف: «ها أنا ذا اليوم وحدي، أجل، النقابة تدفع لي الراتب التقاعدي وتصرف لي بعض الوصفات الطبية مجاناً والأمور على أحسن ما يرام»!
يقطن صاحب قصص (إنهم ينتظرون موتكَ) في الدار مع كل من رفاقه المخرج رياض ديار بكرلي ومصممة المكياج ستيلا خليل والإعلامية هيام طباع والتشكيلي ممتاز البحرة، حيث يحدثنا هذا الأخير عن حياته التي بدأها في هذه الدار منذ عام 2005: «كان عمري سبعةً وستين عاماً عندما جئتُ إلى هنا. أكثر من عشر سنوات قضيتها من دون أن أتلقى ولو دعوة أو زيارة من رفاقي في اتحاد التشكيليين، أو من وزارة التربية، أو من أي جهةٍ كانت، ففي هذا المكان أنت تُنسى تماماً، أجل. هذا لا يحزنني، ما يحزّ في نفسي اليوم، هي هذه الحرب التي قتلت لي: (بابا، وماما، وباسم، ورباب) شخصيات رسومي التي حققتها للكتب المدرسيّة، وتربى عليها أجيال وأجيال من أطفال سوريا، لقد سمعتُ أن أحدهم وضع على (الفيس بوك) رسماً لهذه الشخصيات معلناً موتها. أعرف أنها مبالغة إعلامية، لكنها تعكس ما يحدث بطريقةٍ أو بأُخرى، ما أريد قوله إن على الجميع اليوم أن يستحي ويوقف هذه المهزلة، الجميع دون استثناء».
يلتفتُ (البحرة) الذي يعتبر من أبرز رسامي الكاريكاتور السياسي في بلاده، وأحد أهم مؤسسي مجلة (أسامة للأطفال) مع كل من نذير نبعة وزكريا تامر، يلتفتُ إلى صورة لوحة له كان قد رسمها منذ عام 1988 متلمّساً إياها بحنين، مشعلاً سيجارته (الحمراء الطويلة): «ما زلتُ أعبدُ الأطفال، وما زلتُ أنتظر مثلكم أن يتوقف هذا العنف الأعمى الذي اندلع من دون أية مقدمات، عنفٌ لا أصدّق أن السوريين قد ارتكبوه، مستحيل لن أصدق» ـ ( يبتسم)، فيما تدخل امرأة خمسينية تبدو من موظفات الدار، تسأله عن الصحة والحال، فيضحك هازاً برأسه، ثم تناوله طبقاً من الأرز مع الفول، فيأخذه (البحرة) ويضعه جانباً على رفٍّ بجوار كتب ومجلات قديمة تشكل ما يشبه مكتبة له، ثم يعود إلينا نافثاً دخانه مع صوت قذيفة تهوي في نهار المدينة الموشك على المغيب.
سامر محمد اسماعيل
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد