ظلال حب ضائع بين أيام الفالانتاين الحمراء وعيد الرابع في الساحل
الجمل ـ أنور بدر: منذ سنوات دأب القديس فلانتاين عل زيارتنا في سوريا بتاريخ /14/ شباط "فبراير" من كل عام, أسوة بباقي عباد الله وكل العشاق في العالم, ورويداً رويداً بدأنا نستعد لقدومه, نلبس الأحمر, نرسل بطاقات حمراء, نتبادل هدايا حمراء, ثم بدأنا مؤخراً نسهر سهرات حمراء, إذ اعتدنا اعتبار فلانتاين شفيعاً للعشاق, كما اعتدنا اعتبار ذلك التاريخ عيداً للعشاق, ولا أعتقد أنّ أحداً منا يُسعد لنسيان هذه الصفة المجيدة من سيرته الذاتية, رغم أنه حريص ألا يذكرها عندما يتقدم لأي وظيفة أو عمل.
ولأنّ الثقافة السائدة بطابعها المحافظ ما زالت تخجل من العشق, أو أنها على طريقة "سي السيد" تعاني من انفصام في الشخصية, فتعيش حياتها السرية بإقبال على الحياة, فيما تعيش حياتها العلنية بوقار زائد, يُلغي حتى مشاعر الأب تجاه أبنائه, فكيف يكون الأمر مع مشاعر المحبين لأحبائهم ؟!
ومثال ألف ليلة وليلة في ثقافتنا يؤشر على هذا الفصام, إذ نُصر على رفض الاعتراف بالحب أو الجنس, ونحارب الأدب الذي يتحدث عنه, فيما ينام كل منا وهو يحلم بليلة واحدة, وحتى الشعر العربي عرف أنواعاً من الحب تنداح ما بين العذري والماجن وصولاً إلى لقصيدة اليتيمة التي قتل قائلها, أو هكذا تورد السير.
لكن انتشار ظاهرة الاحتفال بعيد الفلانتاين والمظاهر الكرنفالية الحمراء التي ترافقها تشير إلى محاولة التمرّد على الثقافة السائدة والمحافظة في مجتمعنا, هذا التمرّد الذي يتمظهر بغياب للكثير من العادات والتقاليد والاحتفاليات القديمة لصالح الاهتمام بأعياد واحتفاليات جديدة.
وأستطيع القول أنّ الاحتفال برأس السنة مثلاً أصبح جزءاً من ثقافة جديدة لم تعد حكراً على فئة اجتماعية دون أخرى, ولا منطقية دون سواها, الاحتفال برأس السنة بات مناسبة وطقس يترقبه ويتدرج فيه الجميع تقريباً, حتى لو اعتبرها البعض مؤشراً على التغريب أو ثقافة العولمة, وليس الاحتفال بعيد الحب إلا تكريس لهذه الطقوس المعولمة, في مواجهة تراجع ظاهرة الاحتفال بالأعياد والاحتفالات الطقسيّة الدينية والمحلية الخاصة.
وأذكر من تلك الاحتفالات المنقرضة على سبيل المثال عيد الرابع في الساحل السوري, ويُقصد به الرابع من نيسان "إبريل" وفق التقويم الشرقي, وهو يعادل /17/ نيسان "إبريل" وفق التقويم الغربي, أي أنه يتطابق مع عيد الجلاء في سوريا, لكنه في هذه المنطقة هو معادل لعيد النيروز في إيران أو النيروز الكردي, وهو معادل لعيد شمّ النسيم المصري, وإن اختلف التوقيت بين واحد وآخر.
هذا العيد جزء من ثقافة شعوب المنطقة ما قبل الإسلام, والتي استمرّت ضمن احتفالية طقسيّة تمجّد الربيع أو الخصب والانبعاث أو الحب. وكنا نلاحظ في الساحل السوري أنها المناسبة الأكبر للفرح, حيث يدّخر كل فلاح وكل مواطن في الساحل السوري مؤنة هذا العيد من ذبيحة وشراب, كما كان يؤجل أغلب مناسباته السعيدة للاحتفال بها في عيد الرابع, من يريد أن يطهر ولده أو يندر حليقة رأسه, من يريد أن يخطب أو يتزوج. وحتى من يريد أن يعشق كما غنّت فيروز لعيد العشاق, ففي هذا العيد تجتمع مجموعة من القرى ويكون الاحتفال كل يوم في واحدة منها, لا يقتصر الاحتفال بالطبع على الطعام أو الشراب, لكنه ينداح في كرنفالية جميلة من الرقص والغناء تستمر حتى وقت متأخر من الليل, وهكذا دواليك لعدة أيام قد تصل أسبوعاً في بعض المناطق أو عشرة أيام في أخرى.
هذا الاحتفال الجميل توقف بداية الثمانينات في سوريا لأسباب سياسية وأمنية, تتعلق بالصراع مع الأخوان المسلمين, لكنه لأسباب اقتصادية واجتماعية لم يستطع استعادة دوره ومظهره الاحتفالي حتى بعدما زالت الأسباب الأمنية, فكان تغييبه ضرورة للتكيف مع الأزمة الاقتصادية لتلك الفترة, وهذا مؤشر للقول أنّ بقاء هذا التقليد أو تغييبه ليس مرهوناً برغبة ذاتية, بل هو نتيجة لشرط موضوعي, فالأزمة الاقتصادية والتضخم وغلاء الأسعار لم يترك للمواطن فسحة للفرح, بل بدأ المواطن السوري البحث عن فرصة جديدة للعمل الإضافي لترميم احتياجاته المعيشيّة, هادراً الكثير من إمكانيات الفرح والسعادة والحب.
بالمقابل ولأسباب موضوعية نقيضة بدأ الاحتفال بأعياد جديدة, قد لا تختلف في جوهرها عن الأعياد أو الاحتفالات القديمة, لكنها تختلف في المرجعية الثقافية, وتختلف في الطقوس والتكاليف, ففي/14/ شباط "فبراير" وربما مع بداية هذا الشهر تبدأ محلات بيع الهدايا و الزهور تزدان بكثافة لونية حمراء, ما تلبث أن تسفح ظلالها في الشوارع في الإعلانات في الثياب, كل شي أصبح أحمراً في هذه الفترة: بطاقات المعايدة، شموع حمراء، قلوب ودباديب، فانوس سحري... وصولاً إلى المعاطف والشالات، كلها حمراء، لكن الأشهر بين الجميع تلك الوردة الجورية القانية, تبقى سيدة الموقف في هذه المناسبة, وتبدأ باحتلال موقعها قبل أسبوع من الفلانتاين, هذه الوردة لا يتعدى سعرها في هذه الأيام من السنة /25/ ل. س أي نصف دولار خلال الأسبوع الأول من شباط "فبراير" لكنها تبدأ بالقفز السريع مع بدء استعداداتنا لعيد الحب, ترتفع إلى /50/ ل.س, ثم /100/ ل.س, /200/ ل.س , وفي يوم الذروة تصل إلى /500/ ل.س, لكنها تصل في بعض المحلات وسط العاصمة وفي أحيائها الراقية إلى /1000/ ل.س للوردة الواحدة.
مع ذلك يبدو الناس في سوريا مصرّين أن يعبروا عن أنفسهم بهذه الطريقة, مع أنّ البعض يكتفي بكتابة عبارة ما على بطاقة حمراء, مقابل آخرين يقدمون المزيد من الهدايا الحمراء وغير الحمراء بهذه المناسبة, إلا أننا سنجد بعضاً آخر ما زال يرفض الانصياع لهذه الثقافة الجديدة, متهماً إياها بالتغريب تارة وبالعولمة تارة أخرى, وبالإلحاد ثالثة. فحفرياته المعرفية حول هذا العيد تشير لأصله الوثني منذ "رومليوس" مؤسس روما, وطقوس ذبح كلب وعنزة في احتفال "لوبركيليا" .. إلى آخر الحكاية. لكنه تزامن بطريقة ما في /14/ شباط من عام /296/ حين أعدم القائد الوثني"كلوديوس" القديس "فلانتاين" شفيع العشاق وراعيهم, حيث بنت روما بعد اعتناق المسيحية عام /350/م كنيسة له لتخليد ذكراه, لكن الاحتفال بهذه المناسبة ما زال الإبستمولوجيين يتأرجحون في تحديد بداياتها, إلا أنّ أحداً لا يعرف له مكاناً في طقوسنا قبل عقود ثلاثة, مع أنّ نزار قباني باعتباره شاعر الحب والمرأة, سبق وتغنى به في إحدى قصائده قائلاً:
في عيد فانتلاين
يمكنني بقبلة واحدة
أن ألبس التاريخ في أصابعي
وأمحو الزمان والمكان
ومن يعارض الاحتفال بالفلانتاين سيكتشف في محو الزمان والمكان مؤشرات على العولمة التي يرفضها, لكنه لن يستطيع الإنكار بأنّ هذا الشاعر كان سباقاً للاحتفال بفالنتاين, والذي ظهر في تلك الفترة كنوع من الاحتفاء بالرومانسية الهاربة من حياتنا, كاستعادة أغاني فيروز التي تحكي لجارها كيف "سرقنا من ورداتك وردة وشكلنا الزنار" أو "بقطفلك بس.. هالمرة بس.. شي وردة حمرا, حمرا وبس", مع أنّ الشباب من العشاق قلما يبحثون عن الوردة, لأنها رغم سعرها الباهظ في هذه المناسبة لم تعد تعرف مكاناً لها في رأس الحبيبة أو زنارها, لأنّ هذه الحبيبة وجيل الشباب في مجتمعنا يفضل أن يستخدم أدواته للتعبير عن الحب عبر رسائل قصيرة (SMS) أو أحاديث الدردشة و التشات, وتفيد الإحصائيات أنّ مواقع الانترنيت الخاصة بالتعارف ترتفع نسبة مستخدميها, وهذا ينسحب على جيل الشباب في سوريا, كما في بقية دول العالم, خاصة لمن هم في سن لا يسمح لهم بترتيب سهرات حمراء بهذه المناسبة.
الجمل
إضافة تعليق جديد