«اتفاق مكة» ولعبة انتحارية لعزل إيران
هل هناك اتفاق اسمه «اتفاق مكة» ام ان الأمر مجرد عودة الى اتفاقات سابقة أبرمت في غزة والقاهرة وتم الاعلان عنها بـ«ديكور» خاص قرب الحرم المكي؟ السؤال كان مطروحاً بقوة طوال الاسبوع الفائت في اوساط النخبة كما العامة, على امتداد الشارعين العربي والفلسطيني, في اعقاب الاعلان عن توزيع اولي للمقاعد على أساس المحاصصة الجديدة بين «فتح» و«حماس» والمستقلين.
ثمة اسئلة تحتاج الى أجوبة بعد توقيع الاتفاق داخل القصر الملكي السعودي. السؤال الاول هو لماذا انتظر الفلسطينيون طوال هذا الوقت للحديث عن ضرورة تطبيق «اتفاق القاهرة» و«وثيقة الوفاق الوطني»؟ استطراداً: لماذا اكتشف قادة «فتح» و«حماس» فجأة ان الحاجة ملحة لاعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية وظهرت كل هذه الايجابيات امام عدسات المصورين في مكة بعد اشهر طويلة من الاقتتال؟ السؤال الثاني: الى اي حد تنازلت «حماس» في الموضوع السياسي؟ وهل نجدها غداً تعترف فعلاً بقرارات مجلس الأمن واتفاقيات اوسلو وملاحقها المعلنة والسرية معاً قبل ان تعلن صراحة اعترافها باسرائيل؟ استطراداً: هل ان الحركة قادرة في اعقاب هذه الاعترافات على ان تبقى موحدة بالرغم من الانعطافة الجذرية في مواقفها السياسية؟ وكيف يمكن ان تبرر هذه «التكويعة» الحادة امام ناخبيها اذا هي التزمت بحل الفصائل المسلحة ومنع المقاومة في ما يشبه الانتحار العلني؟
هذه التساؤلات كلها مطروحة وسط التشكيك الفلسطيني المتزايد في امكانية دخول الاتفاق موضع التنفيذ. والاصوات المشككة او المعترضة بدأت تعلو هنا وهناك وهنالك لتقرأ «التزامات» حركة «حماس» الجديدة وكأنها نوع من نزع ورقة التوت عن مواقف الحركة الحقيقية, على قاعدة ان احترام «المشروع العربي للسلام» وسائر قرارات القمم العربية, واحترام قرارات الشرعية الدولية والاتفاقات التي وقعتها منظمة التحرير... كل هذا يعني بوضوح كامل الاعتراف باسرائيل في اعقاب «إخراج» قضى بتصعيد الاقتتال بين اهل السلطة واهل الحكومة, وتوسيع دائرة الرعب €فضلاً عن دائرة الفقر€ بين الفلسطينيين المدنيين كي يقبلوا بالخروج من الكارثة حقناً للدماء, قبل إدخال الاطراف المتنازعة الى الحرم المكي لاداء العمرة والاعلان عن التفاهم.
ومن الواضح ان «الاتفاق» الذي تم التوصل اليه في اقل من ثلاثة ايام يتضمن نوعاً من التسليم بـ«الأمر الواقع» الاقليمي والدولي بعد ستة عقود فلسطينية من التضحيات والمنازلات في ميدان القتال كما في ميدان السياسة. والنتيجة المباشرة لهذا التسليم طي صفحة الاقتتال بين الاخوة والاعلان عن حكومة وحدة وطنية. اما النتائج اللاحقة, والتي لم تتبلور ملامحها بصورة كاملة بعد, فهي الولوج الى عدد من القضايا الكبرى العالقة, بدءاً باصلاح منظمة التحرير الفلسطينية بشكل يسمح بمشاركة «حماس» وعدد من الفصائل الاخرى غير المنضوية حتى الآن بأن تكون اعضاء فاعلة فيها عندما تنضج الظروف الداخلية والاقليمية لمثل هذه المشاركة.
في هذا الاطار يتوقف المراقبون عند ما يسمونه «التفاهمات الضمنية» بين الحركتين, وهي تفاهمات مكتوبة وغير مكتوبة لم يتم الاعلان عنها. ويلاحظون مثلاً ان البند الرابع من نص الاتفاق يشير الى تأكيد مبدأ الشراكة السياسية وفق اتفاق معتمد بالاضافة الى امور لا توجد اصلاً في الاتفاق لجهة توزيع الصلاحيات بين الحكومة والرئاسة, لا سيما ما يتعلق بمسألة المفاوضات المحتملة مع اسرائيل, اذا ما قبلت اسرائيل بصورة ما التعامل الايجابي مع التطورات الفلسطينية. والمرجح هنا ان هناك كثيراً من التفاصيل تم التفاهم حولها, ولكنها إما حبيسة النفوس او انها في وثائق تكميلية غير مسموح بنشرها على الاقل الآن. وفي ذلك تبرز مسألتان: الاولى الترتيبات الامنية التي سيقوم بها وزير الداخلية في حكومة الوحدة الوطنية لاعادة الانضباط في اجهزتها الامنية المختلفة, فضلاً عن طريقة التعامل مع القوة التنفيذية المحسوبة على «حماس» وفصائل فلسطينية اخرى, فضلاً عن طبيعة العلاقة بين وزير الداخلية وبين الرئيس الذي اعطى لنفسه صلاحيات امنية من خلال الاشراف المباشر على عدد من الاجهزة الامنية المختلفة, التي ربما ستكون من صلاحيات وزير الداخلية الجديد. اما القضية الثانية فتتعلق بسياسة الغموض الايجابي, لا سيما فيما يتعلق بمدى قبول «حماس» شروط اللجنة الرباعية الدولية اي الاعتراف باسرائيل ونبذ العنف والالتزام بالاتفاقيات الدولية الموقعة بين اسرائيل والسلطة الفلسطينية وهي سياسة تسمح لكل طرف ان يدعي تحقيق الجزء الاكبر من مطالبه, كما تسمح في الآن نفسه للرئيس محمود عباس ان يسوق الاتفاق والحكومة الجديدة باعتبارها نوعاً من الالتزام بالقرارات الدولية, وتحمل نوعاً من الاعتراف الواقعي من قبل «حماس», او بالاحرى حكومتها, باسرائيل, لا سيما وان خطاب التكليف اشار الى الالتزام بمصالح الشعب الفلسطيني, كما اقرتها المجالس الوطنية وقرارات القمم العربية والاتفاقيات التي وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية, وهي كلها لا سيما الجزئية الاخيرة تحمل اعترافاً واضحاً باسرائيل.
هذا الغموض الايجابي القابل للتفسير بما يرضي الشروط الاميركية والاسرائيلية, لا يشكل نهاية المطاف, بل هو بداياته الحقيقية, ونعني به تسويق الاتفاق دولياً كمقدمة لرفع الحصار المالي والعزل السياسي للحكومة الفلسطينية. ومثل هذا التسويق, وكما يبدو من مجمل التوازن المحيط بالقضية الفلسطينية, لا يمكن ان يكون مهمة الحكومة الجديدة او الرئيس عباس وحدهما, فتلك المهمة اكبر من قدرات الطرفين, ولذلك تبدو مهمة التسويق مرهونة بمدى الجهد والاستعداد الذي قد تقدمه مصر والاردن لاقناع الادارة الاميركية واسرائيل بالتعامل الايجابي مع هذه التطورات الفلسطينية, كما تبدو مرهونة ايضاً بمدى قدرة الرياض على اقناع واشنطن بأن تنظر الى الشق الايجابي في الاتفاقات المعلنة وان تنهي حصارها المالي والسياسي, وان تقنع اسرائيل بأن تنظر الى نصف الكوب المليء وليس الى نصفها الفارغ, وإلا بات الوضع مؤهلاً اكثر لمزيد من النفوذ الايراني على حساب النفوذ العربي المعتدل, وفي ذلك خسارة مؤكدة لواشنطن ولاصدقائها معاً.
ومن الطبيعي ان يمر « اتفاق مكة» بسلة من الاختبارات الميدانية قبل ان يصبح حقيقة قابلة للتصديق, وقبل ان يقود فعلاً لا قولاً الى فك العزلة السياسية والحصار اللذين يعانيهما الفلسطينيون, وليس الحكومة فقط, وإعادة الاعتبار الى القضية الفلسطينية وتصويب التعاطي معها كقضية حرية واستقلال وليس كقضية انمائية وانسانية. وهذه المهمة اساسية جداً في المرحلة المقبلة وهي الرهان الاكبر الذي يفترض ان تستجيب له الجهات المعنية بتسويق الاتفاق في المدى المنظور. والاختبار الاول سيكون بالطبع القمة الثلاثية المرتقبة في 19 شباط €فبراير€ الحالي بين عباس واولمرت ورايس, والذي على ضوء نتائجه سوف يتحدد موقف «اللجنة الرباعية» من التعامل مع الحكومة الفلسطينية الجديدة وبرنامجها السياسي €اجتماع برلين€ تمهيداً للدخول في اجراءات فك الحصار والعودة المحتملة الى التفاوض بين الفلسطينيين والاسرائيليين.
في غضون ذلك روّجت مصادر اعلامية اسرائيلية معلومات تفيد ان «قادة عرباً» يعكفون على اعداد «مشروع سلام جديد» لعرضه على القمة العربية المقبلة المقرر عقدها في اواخر آذار €مارس€ المقبل وقد نقلت «القناة الثانية» في التلفزيون الاسرائيلي معلومات على لسان ايهود يعاري «محلل الشؤون العربية» توضح ان المشروع عبارة عن رزمة افكار ترضي الاطراف الفلسطينية والاسرائيلية والاميركية كافة. وفي المضمون السياسي للمبادرة, ان تقام دولة فلسطينية مقابل تطبيع عربي وعلاقات كاملة مع الدولة العبرية. ومما قاله عاري «ما حصلنا عليه حتى الآن مجرد الحد الادنى من المعلومات مع انني كنت اتمنى ان نحصل على المزيد». واضاف «المشروع العربي يهدف الى تحقيق هدفين, الاول الحل السياسي, والثاني «سحب» حماس من «العناق الايراني» الذي تورطت به مع طهران. واشار التلفزيون الاسرائيلي الى ان الصفقة ستشمل تسليم اسرائيل مزارع شبعا للامم المتحدة مقابل اخماد الجبهة اللبنانية.
ومن خلال ما عرضه التلفزيون الاسرائيلي, لم يعرف بعد كيف سيجري «تنفيذ الحل» في شهر أيار €مايو€ المقبل طالما ان مواضيع مثل القدس واللاجئين والمستوطنات لا تزال خارج احتمالات الحل الاسرائيلي. وفي الجو العام يرى محللون اسرائيليون ان محاولة الادارة الاميركية تهدئة المواجهة مع كوريا الشمالية ومع فلسطين ومع لبنان انما تأتي في صلب الخطة التي تقضي بعزل ايران والانفراد بها في اي مواجهة محتملة.
المصدر: الكفاح العربي
إضافة تعليق جديد