القدس يحميها المنتفضون
بدا أمس كيوم من أيام انتفاضة الأقصى عام ٢٠٠٠. قدّمت فلسطين فيه ثلاثة شهداء ومئات الجرحى في اشتباكات امتدت من القدس إلى الضفة وصولاً إلى غزة. وللمرة الأولى، منذ الانتفاضة الأولى، أعلن محمود عباس وقف الاتصالات مع حكومة العدو، في موقف ربطه بالاجراءات المتصلة بالمسجد الأقصى فقط. عباس شعر بسحب البساط من تحت سلطته المطبِّعة بسبب الحراك الشعبي ودعوة اسماعيل هنية إلى «اجتماع عاجل للاتفاق على استراتيجية المواجهة» ووضعه المعركة في إطار «مقاومة أي تطبيع مع الاحتلال». وتظهر اليوم تداعيات اعلان رئيس السلطة في تل أبيب، فيما يترقّب الجميع قدرة الفلسطينيين في الحفاظ على إمساكهم بالشارع والانتفاض
في مشهد يعيدنا إلى انتفاضة عام 2000، احتشد الآلاف في القدس رفضاً للإجراءات الإسرائيلية في المسجد الأقصى. 3 شهداء ومئات الجرحى حصيلة يوم دامٍ من الغضب والتظاهر على طول الخريطة الفلسطينية، لينتهي الليل الطويل بعملية طعن أدّت إلى مقتل 3 مستوطنين واستشهاد المنفذ.
سياسياً، سُجّل موقفان بارزان، الأول لرئيس «السلطة» محمود عباس الذي أعلن وقف كافة الاتصالات مع حكومة العدو «إلى حين إلغاء الإجراءات التي تقوم بها ضد شعبنا»، والثاني لرئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» إسماعيل هنية، الذي دعا إلى «اجتماع عاجل للاتفاق على استراتيجية المواجهة في معركة القدس» في بيروت أو القاهرة. القيادي «الحمساوي» وضع المعركة في إطار
«مقاومة أي تطبيع عربي أو إسلامي مع الاحتلال»، فهي «أبعد من البوابات الإلكترونية». وبين «توسيع إطار» المواجهة وحصره بإجراءات الصلاة في المسجد، كان رئيس السلطة يعلن للمرة الأولى، منذ اندلاع انتفاضة الأقصى عام ٢٠٠٠، وقف التنسيق الأمني مع حكومة العدو. إعلان قد يفتح «أبواب جهنّم» سياسية ودبلوماسية إسرائيلية وغربية ضدّه، لكنّه إجراء يبدو الأفضل بين مجموعة خيارات سيّئة لـ«حاكم» يضرّه أيّ «تفلّت أمنيّ» في الأراضي المحتلة وتحوّل الفعل المضاد للإجراءات الإسرائيلية إلى حراك شعبي متواصل يُفقد «سلطة التطبيع» زمام المبادرة لصالح المتظاهرين والقوى الأخرى.
عباس ربط إعلانه إلى حين «التزام إسرائيل بإلغاء الإجراءات التي تقوم بها ضد شعبنا الفلسطيني عامة، ومدينة القدس والمسجد الأقصى خاصة». «وقف التنسيق الأمني» مع الاحتلال كان مطلباً أساسياً لفصائل المقاومة لتحقيق المصالحة الوطنية، وفي هذا السياق دعا «أبو مازن» حركة «حماس» والفصائل إلى «الاستجابة لنداء الأقصى بحل اللجنة الإدارية وتمكين حكومة الوفاق الوطني من أداء مهامها، والذهاب إلى انتخابات وطنية شاملة». وأكد في كلمة له، بعد اجتماعه بقيادات «فتح» والسلطة، رفضه وجود «البوابات الإلكترونية، كونها إجراءات سياسية مغلفة بغلاف أمني وهمي، تهدف إلى فرض السيطرة على المسجد الأقصى والتهرب من عملية السلام واستحقاقاتها، وحرف الصراع من سياسي إلى ديني، وتقسيم المسجد الأقصى زمانياً ومكانياً».
على الأرض، بدأ مسلسل الاشتباكات في مختلف مناطق فلسطين المحتلة ونقاط التماس والحدود، بعد صلاة الجمعة أمس، خصوصاً في القدس المحتلة، وعلى مشارف المسجد الأقصى. واستشهد في القدس شابان: الأول محمد محمود شرف (17 عاماً) إثر إصابته في الرأس في مواجهات اندلعت قبالة باب العمود المؤدي إلى المسجد، والثاني محمد أبو غنام في حي الطور في المدينة. وفي اليوم نفسه، جرى تشييع الشابين ودفنهما. وبعد ذلك، استشهد محمد خلف لافي (17 عاماً) إثر مواجهات في بلدة أبو ديس، القريبة من القدس، متأثراً «بجروح أصيب بها بالرصاص الحي في القلب»، بعد نقله إلى أحد مستشفيات مدينة رام الله، وسط الضفة. وفي وقت متأخر من مساء أمس، تسلل شاب فلسطيني إلى مستوطنة «حلميش» غرب رام الله، ونفّذ عملية طعن أدّت إلى مقتل ٣ إسرائيليين، وإصابة ٢ بجروح خطيرة.
عملياً، استطاع الفلسطينيون الحشد بصورة كبيرة للصلاة في شوارع القدس، بعدما منعت الشرطة الاسرائيلية الرجال دون سن الخمسين من دخول البلدة القديمة وأقامت حواجز لذلك. لكن هذا لم يمنع العدسات من التقاط صور للصلوات التي توزعت في الشوارع المؤدية إلى الأقصى، ومن بعدها فوراً بدأت الاشتباكات حينما عملت قوات العدو على تفريق المصلين مستخدمة كل الأسلحة الممكنة. وشهد شارع صلاح الدين الرئيسي، خارج أسوار البلدة القديمة، اشتباكات عنيفة، فيما شهدت مدينتا الخليل وبيت لحم، جنوبي الضفة، اشتباكات مماثلة، وكذلك على حاجز قلنديا العسكري، بين مدينتي القدس ورام الله.
ما زاد حدة المواجهات اصطدام الإعلان الفلسطيني المسبق لـ«جمعة الغضب» بالقرار الإسرائيلي الذي اتخذ في وقت متأخر أول من أمس، والقاضي بإبقاء بوابات التفتيش الإلكترونية حول «الأقصى»، وذلك عقب مشاورات أجراها رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو مع قادة أمنيين وأعضاء في وزارة الأمن الداخلي. وخلصت تلك المشاورات إلى «منح الشرطة تفويضاً لاتخاذ أي قرار لضمان حرية الوصول إلى المناطق المقدسة مع حفظ الأمن والنظام العام» في الوقت نفسه، كذلك أعلنت شرطة العدو أنها ستبقي على البوابات لكشف المعادن مع «استخدام محدود لها».
وبالنسبة إلى عدد الإصابات الكبير، أفادت المصادر الطبية (وزارة الصحة و«الهلال الأحمر») والإعلامية بأنه أصيب ما يزيد على 120 مواطناً في القدس بين رصاص حي ومطاطي واعتداء ودهس وحروق، فيما عولجت ٧١ إصابة ميدانياً. وفي العيزرية وأبو ديس أصيب مواطنان بالرصاص الحي و٢٤ إصابة بالمطاط و٥٧ بالغاز و٦ بحروق. أما في قلنديا، فقد أصيب ٦ مواطنين بالرصاص الحي، و١١ بالمطاط، واثنان بحروق. وبالانتقال إلى جنوبي الضفة، أصيب 91 في بيت لحم، وفي الخليل 28، كذلك شمالي الضفة، أصيب 114 في مدن طولكرم ونابلس وقلقيلية.
وسط ذلك، جاء الموقف السياسي البارز لرئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»، إسماعيل هنية، الذي دعا بعد خطبة الجمعة في غزة الفصائل الوطنية والإسلامية إلى «اجتماع عاجل للاتفاق على استراتيجية المواجهة في معركة القدس»، مقترحاً أن يكون مكان عقد الاجتماع العاصمة اللبنانية بيروت أو العاصمة المصرية القاهرة. وأضاف: «المهم أن نتفق على استراتيجية المواجهة... هدفنا أن نحبط مخططات العدو في المسجد الأقصى والقدس».
وتابع هنية: «إن معركتنا اليوم كشعب وأمة هي أبعد من البوابات الإلكترونية... مخططات الاحتلال لن تمر ولن يسمح بها شعبنا الفلسطيني وأمتنا العربية»، مضيفاً: «الشعب الفلسطيني اليوم في جمعة الغضب نصرة للأقصى يؤكد وحدته في معركة القدس والأقصى». وأكد «رفض الشعب الفلسطيني ومقاومة أي تطبيع عربي أو إسلامي مع الاحتلال، في ظل ممارساته، وآخرها ما يجرى في المسجد الأقصى». وحذر الدول العربية «التي تحثّ الخطى للاعتراف والتسوية مع الاحتلال الإسرائيلي، من خذلان الشعب الفلسطيني».
ودعا في الوقت نفسه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى «تحمّل المسؤوليات مع الدول الإسلامية بوضع خطة إسلامية لمواجهة هذه المعركة والمخطط الإسرائيلي بحق القدس»، كما دعا الملك الأردني عبدالله الثاني «بصفته رئيساً للقمة العربية، والأردن صاحبة الوصاية، إلى تحمّل المسؤولية تجاه ما يجري في الأقصى المبارك».
أما عن مشاركة الفلسطينيين من أراضي الـ48، فتبحث قيادتهم تنظيم مسيرات اليوم، علماً بأن الاحتلال شرع في نصب حواجز عدة لمنع وصولهم إلى القدس أمس، فيما دارت اشتباكات في مدينة أم الفحم، شمالي فلسطين المحتلة، حيث مسقط رأس منفذي «عملية الأقصى». وسبق أن عقدت المرجعيات الإسلامية في القدس اجتماعاً تشاورياً مع عدد من النواب العرب في الكنيست (البرلمان الإسرائيلي)، تقرر في نهايته التمسّك بموقف المرجعيات بعدم الدخول إلى الأقصى من خلال البوابات الإلكترونية.
في شأن متّصل، تُقرر المحكمة «العليا» الإسرائيلية، غداً، بشأن الالتماس الذي قدمه مركز «عدالة» الحقوقي، من أجل تحرير جثامين الشهداء الثلاثة من مدينة أم الفحم. فمنذ أكثر من أسبوع، لا تزال شرطة العدو تحتجز جثامين الشهداء، محمد أحمد جبارين (29 عاماً)، ومحمد حامد جبارين (19 عاماً) ومحمد أحمد مفضل جبارين (19 عاماً)، الذين استشهدوا في اشتباك مسلح داخل الأقصى.
على صعيد الردود الدولية، أعربت كل من الولايات المتحدة والأمم المتحدة عن القلق من الوضع في القدس، فيما دعا الرئيس التركي، الذي تحادث هاتفياً مع كل من نظيره الفلسطيني محمود عباس، والإسرائيلي رؤوفين ريفلين، إلى إزالة البوابات الأمنية، لكن دون أن يحدث تجاوب مع اتصالاته، كما بيّنت مصادر إعلامية عبرية.
وأوردت وكالة «وفا» الرسمية للأنباء أن عباس الذي قطع زيارته للصين وعاد إلى رام الله، تلقّى اتصالاً من مستشار الرئيس الأميركي وصهره، جارد كوشنر، فيما اجتمع في وقت مبكر أمس مع رئيس جهاز المخابرات الفلسطينية ماجد فرج، للاطلاع على التفاصيل الميدانية. ووفق «وفا»، طالب عباس «الإدارة الأميركية والرئيس دونالد ترامب بالتدخل العاجل لإلزام إسرائيل بالتراجع عن خطواتها في الأقصى، بما فيها إزالة البوابات».
الأخبار
إضافة تعليق جديد