عبد الهادي البكار يقدم رواية جديدة لاغتيال المالكي في كتابه "صفحات مجهولة من تاريخ سورية الحديث"
الجمل ـ سمير جبارة :
لعل اسم عبد الهادي البكار لا يعني شيئاً بالنسبة الى الجيل الشاب، ولكن كان اسماً معروفاً في خمسينات وستينات القرن العشرين في العالم العربي، حيث كان جهاز الراديو يعايش مجده الناصري وحين بدأ التلفزيون ايضاً يسحر المشاهدين برؤية المذيعين الذين كانوا يسمعون أصواتهم الهادرة مثل عبد الهادي البكار وأحمد سعيد وغيرهم.
فقد ارتبط البكار بامتداد المد الناصري الى سورية وبلاد الشام، حيث كان من الأصوات القوية المؤثرة التي ساهمت في توسيع هذا المد الى الدول المجاورة.
وبعد معارضته المعروفة لانفصال سورية عن مصر واتهامه بالمشاركة في المحاولة الانقلابية للعقيد جاسم علوان في 18 نيسان 1963، التي حاولت اعادة الوحدة بين سورية ومصر، لجأ البكار الى العراق خلال حكم عبد السلام عارف 1964- 1966 حيث عمل على توجيه الاعلام ضد حكم حزب البعث في سورية، وبعدها غادر الى القاهرة حيث قضى فترة طويلة كلاجئ سياسي الى جانب عبد الحميد السراج وغيره من اللاجئين الذين ارتبطوا بالمد الناصري في بلاد الشام.
وبالمقارنة مع عبد الحميد السراج الذي بقي صامتاً، على الرغم من الانتقادات الكثيرة التي وجهت له في المذكرات التي كتبها المجايلون (خالد العظم واكرم الحوراني ومحمد معروف الخ) نجد أن البكار قد آثر أن يكتب عن تجربته بل عن انقلابه على نفسه خلال العقود الأخيرة التي قضاها لاجئاً سياسياً في القاهرة، حيث اكتشف في خريف العمر أنه كان يعيش في وهم وأن الحلم الوحيد الباقي هو في "سورية الكبرى" التي ساهم في تشويهها حين كان التفكير أو الحديث في ذلك يعرض صاحبه الى التشويه والتخوين الخ.
وهكذا يفاجئ البكار القارئ منذ السطور الأولى لمقدمة كتابه "صفحات مجهولة من تاريخ سورية الحديث" الذي صدر له عام 2008 في بيروت (دار الذاكرة) حين يقول أنه تأكد له خلال العقود الأخيرة "اعتلال الفكرة القومية العربية وربما اضمحلالها في العالم العربي، كما تأكد خلالها احتياج بلاد الشام الى استنهاض قوتها الذاتية الاقليمية"، و"أن دعوة انطون سعادة الى توحيد الاشلاء والأجزاء السورية لم تكن هي الخطأ او الانحراف بل كانت هي الصواب" (ص11).
وفي الواقع أن البكار في فصول الكتاب يعود الى مراجعة ذكرياته عن طفولته ونشأته وعمله في الاذاعة السورية وتبنيه للقومية العربية منذ 1954 واندفاعه نحو الناصرية بعد ان أصبحت السفارة المصرية في دمشق مع السفير محمد رياض والملحق العسكري جمال حماد من مراكز القوى في سورية التي أوصلت الى وحدة 1958. وهنا يستدعي البكار ذكرياته عن مصاحبته للرئيس جمال عبد الناصر في جولاته السورية، حيث كان صوته يصدح في تمجيد "الزعيم الخالد" و"الرئيس المفدى". ولكن بعد هذه الاندفاعة جاءت صدمة السجن في سجن المزة بعد وصول حزب البعث الى السلطة، ثم صدمة النفي في القاهرة التي حلّ فيها كـ"قومي عربي" ولكنه بقي في أعين المصريين كـ "سوري" لا اكثر ولا أقل.
وهكذا بعد هذه العقود رأى البكار أن خير ما يقدمه هو صراحته وجرأته في قول الحق عن تلك الفترة التي كان من رموزها والتي يراجعها الأن بكل مسؤولية أمام الأجيال التي لم تعشها والتي قد تحمل بعض الأوهام عنها.
وفي هذه المراجعة النقدية لتلك الفترة يتوقف البكار طويلاً عند حدث مهم كان له أكبر الأثر في تاريخ سورية المعاصر ألا وهو اغتيال العقيد عدنان المالكي في 22/4/1955م خلال حضوره مباراة في كرة القدم، الذي اتهم به فوراً الحزب القومي السوري مما أدى الى اندفاع حزب البعث والحزب الشيوعي السوري للبطش بالحزب القومي السوري من دون أي اعتبار للجوانب الاجرائية والقانونية والانسانية.
فالبكار قام بمراجعته الدقيقة لما حصل ليصل الى استنتاج بل الى اقتناع بأن ما حدث كان مفبركا للتخلص من هذه القوة السياسية المهمة (الحزب القومي السوري) التي كانت تنادي بوحدة بلاد الشام (سورية الكبرى) وتناهض الصهيونية. ويذكر للتدليل على ذلك أنه كان في دار الاذاعة السورية يتابع على الهواء مباشرة المباراة في كرة القدم بين سورية ومصر حين سمع أصوات الرصاص التي وجهت للمالكي ثم الضجة التي أعقبها اعلان المذيع عن سقوط المالكي. وفي تلك اللحظة كان يتابع معه المباراة المذيعة عبلة الخوري (ابنة اخ فارس الخوري رئيس الوزراء الاسبق وشقيقة سامي الخوري أحد أبرز القياديين في الحزب القومي السوري آنذاك) والعقيد برهان قصاب حسن شقيق المحامي نجاة قصاب حسن (من قادة الحزب الشيوعي السوري آنذاك). وعندما تعرض المالكي للرصاص التفت العقيد قصاب حسن الى عبلة الخوري ليقول لها "راح تخسروا كثير يا عبلة"!
وما حدث بعد ذلك بساعات كان أمرا يصعب تصديقه الآن. فقد اندفع رجال الشرطة العسكرية (قبل أن يثبت أي شيء أو قبل أن يصدر أي تصريح رسمي او اتهام قانوني) الى مقر وبيوت قادة الحزب القومي السوري ليصادروا كل الوثائق وليعتقلوا العشرات دون أي تفويض قانوني من احد. وما حدث بعد ذلك كان أسوأ بكثير بعد ان نشر في 29/7/1955 قرار الاتهام حيث أصدرت الحكومة السورية قرارا بحل الحزب وتسريح كل الموظفين المنتمين الى هذا الحزب بالاضافة الى تقديم 140 من قادة الحزب الى المحاكمة وطلب الاعدام على ثلاثين منهم!
ولم تكتف الحكومة السورية، التي اصبحت تحت تأثير الضباط البعثيين واليساريين، بهذه التصفية للحزب في سورية بل ان المخابرات السورية قامت بدورها في ملاحقة الضباط العسكريين والقادة المدنيين للحزب القومي السوري الذين لجأوا الى لبنان وعلى رأسهم العقيد غسان جديد( الشقيق الاكبر لصلاح جديد)، الذي تم اغتياله في بيروت.
وبالاضافة الى تشكيكه في مسؤولية الحزب القومي السوري عن اغتيال المالكي، التي أدت الى تصفية الحزب في سورية لصالح حزب البعث والحزب الشيوعي، يكشف البكار بجرأة عن كيفية تشويه الاذاعة السورية لمحاكمة الوزير السابق الدكتور منير العجلاني وغيره من كبار الشخصيات السورية المتعاطفة مع الحزب القومي السوري في كانون الثاني 1957 بحجة التآمر على سورية.
وهكذا يكشف البكار انه كان يقوم يومياً بالذهاب الى قاعة المحاكمة لتسجيل ما يدور فيها، ثم يعود بشرائط التسجيل الى الاذاعة السورية ليسلمها الى المحامي نجاة قصاب حسن الذي كان يجري "المونتاج" لها ثم يطلب من البكار ان يقرأ بصوته الهادر ما يكتبه هو عن هذه المحاكمة.
ويعترف البكار أن قصاب حسن كان يعمل بتعليمات من عبد الحميد السراج، وكان بالمونتاج الذي يقوم به يسعى الى "كل ما كان شأنه الايحاء بأن المتهمين مدانون، بل ومعترفون بأن احدا منهم غير بريء من التهمة الموجهة له "(ص 158)".
ومع هذا الاعتراف يقول البكار بمرارة : "أشهد اليوم بعد مرور حوالي ستة وأربعين سنة على إذاعة تلك التسجيلات عبر موجات الاذاعة السورية ان ما كان يسمعه المواطنون في تلك الايام بصوتي وبأصوات المتهمين لم يكن هو حقيقة كل ما كان جرى في قاعة المحاكمة... التي كانت تهدف الى اطلاق الرصاصة الأخيرة على الحزب القومي السوري". ولذلك يستذكر الآن عذاب الضمير: "كنت أنفرد وحيداً في أية غرفة كان يمكنني الانفراد فيها لأداري خجلي والحزن العميق وعذاب الضمير، فقد كان ما يفعله الأستاذ نجاة قصاب حسن بالأشرطة في لعبة المونتاج يخلق في نفسي حزناً عميقاً "(ص159).
وفي المقابل كان ما يحير البكار ولا يستطيع أن يجد له تفسيراً هو الاعتراض على أي توجه وحدوي لسورية مع العراق او مع بقية اجزاء بلاد الشام (الأردن) والاقرار فقط بوحدة سورية مع مصر الأبعد. وفي هذا السياق يعترف البكار الآن بأنه خلال عهد الوحدة بين سورية ومصر "لم ينتبه كثيرون بل جميع المشاركين بقيادة التجربة من موقع او آخر الى ما كان يجب التنبه إليه، وهو أن هوية المزاج المصري الجغرافي تختلف عن هوية المزاج السوري، أي ان كلاً من الطرفين كان يجهل هوية مزاج الآخر. ولقد كنت احد هؤلاء الذين عانوا كثيراً من (تفرعن) الذين تسيدوا علينا خلال سنوات الوحدة السورية المصرية "(ص79).
مذكرات أو "ذكريات" البكار، كما يسميها هو، عن تلك السنوات العاصفة في تاريخ سورية تأتي متأخرة حوالي نصف قرن، ولكنها تسجل له جرأته وصراحته ومصداقيته حتى في الانقلاب على ماكان عليه. وفي هذا قد يصطدم جيلان (الجيل المخضرم الذي يعرفه والجيل الشاب الذي لايعرفه)، ولكنه يريح ضميره ويترك لغيره أن يقول ماعنده أيضا.
الكتاب: مذكرات عبد الهادي البكار "صفحات مجهولة من تاريخ سورية الحديث" صدر في بيروت عام 2008 عن دار الذاكرة
إضافة تعليق جديد