23-01-2018
التنوير الرجعي: دين في خدمة دولة
في الطريق إلى الدولة
الدين هو الفكرة الأقوى تأثيرًا والأرسخ وجودًا في نفوس المؤمنين به، أما الدولة فهي شكل اجتماعي ووسيلة لإدارة شؤون الناس تحقيقًا لمنافعهم وتيسيرًا لمعاشهم.
وهذا الوضع الذي نراها عليه وإن كان يمثل تطورًا اجتماعيًا مهمًا في تقرير نمط أو أنماط جديدة لإدارة المجتمعات وإدارة عمليات التنافس والصراع بين مكوناتها، فإنه من المهم الالتفات أيضًا إلى أن هذا الوضع لم يستمر وجوده أكثر من قرن ونصف في بلادنا بشكل مشوه، وأكثر منه بقرن أو أكثر، في البلاد التي فَرَضَتْ أنماطَ إدارتها علينا بالاستعمار والقمع.
وهذا النمط الذي استقر في البلاد الغربية في ظل تفوقها الحضاري وهجومها على أراضي المستعمرات في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، فإننا في بلاد العرب والمسلمين، وقد كانت ضمن هذه المستعمرات، قد فُرِضَ علينا هذا النمط في صياغة الدولة وفقًا لهذا المفهوم، وإدارة شؤون المجتمع وفق أحكامه في ظل حالة من التقهقر الحضاري والدفاع عن الأراضي المغتصبة من هذا الاستعمار.
فتحوَّل هذا المفهوم من إدارة شؤون المجتمع بما يحقق مصالحه وفق إرادته الحرة، وفي ظل توافق على سيادة القانون، وتقرير وسائل وآليات لتداول السلطة والتنافس السياسي، إلى وسيلة للتسلط على شعوب هذه الدول وقمع إرادتها والاستيلاء على ثرواتها، فكان الاستسلام التام لنماذج غير نابعة من ثقافة مجتمعاتنا مؤديًا إلى تحقيق نقيض المقصود منها.
فحين نشأ مفهوم الدولة القومية في أوروبا توحَّدَت الكثير من القبائل والجماعات في دول كبيرة، لكنه حين فُرض علينا ودخل حيز التنفيذ أدى إلى تقطيع جسد الأمة الواحدة أشلاء متناحرة!
وقد كان تأخر حصول هذه الدول على استقلالها عقودًا طويلة دليلًا على هذا الرأي، كما كان في تأخرها وتخلفها بعد نيل الاستقلال دليلاً آخر على عدم فاعلية الدولة المبنية على مفاهيم التسلط والقمع والهيمنة، لذا فإن بعض الدول التي تبنت صورة الدولة الحديثة باعتبارها وسيلة لتقدم المجتمع ونهضته، والتزمت بسيادة القانون واحترام إرادة الجماهير وأقرت وطبقت قواعد الشفافية والمحاسبة، فإنها اتخذت طريقها نحو التقدم والتنمية.
هذه مقدمة لا بد منها لأهميتها في مناقشة تصورات الدكتور سعد الهلالي عن الدولة والذي يتعامل معها باعتبارها مسلمة من مسلمات الحضارة رغم حداثتها النسبية بالنسبة لأعمار الأمم والشعوب، وتطورها الدائم والمستمر والذي لم يتوقف، ويخضع لمراجعات تتفاوت درجاتها في الدول الغربية نفسها رغم ما تتمتع به من استقرار وتفوق حضاري كاسح.
الدولة والدين.. أيهما يخدم الآخر؟
إن قواعد التفكير العقلي المستقيم تقضي بأن نسعى بالوسيلة التي هي «الدولة» لتحقيق مقتضيات الحقيقة الخالدة وهي «الدين» الذي يُمثل المكوِّن الأساسي – والوحيد في كثير من الأحيان – لثقافة الشعب والمحدد لاختياراته وتنفيذ إرادته التشريعية.
أما جعل الحقيقة الخالدة طوع بنان الوسيلة المستحدثة التي لم تستقر بعد والتي تسعى المجتمعات لتحديثها باستمرار ومراجعة مسلماتهم بشأنها ومعالجة مثالبها التي تُكتشف يومًا تلو آخر، فهذا من العجب الذي لا يمكن تفسيره إلا بالرغبة في وضع الدين الذي هو الحقيقة الخالدة أداةً في يد من بيده القوة والسلطان ليفرضها على المجتمع؛ قمعًا لحرية أفراده وتضييقًا عليهم.
والأفكار التي يدعو لها الدكتور سعد في برامجه ومداخلاته فرعٌ عن أفكار أكبر يصرح بها حينًا ويخفيها حينًا آخر، كموقفه من الإسلام وعلاقته بالدولة، وهو في هذا يعيد نمطًا ممجوجًا من كلام بعض المنتسبين للفقه وعلوم الشريعة الذين احتضنتهم أنماط معينة من النخبة الثقافية في بلادنا كما يحتضنون الدكتور سعد الآن.
حين نشأ مفهوم الدولة القومية في أوروبا توحدَت الكثير من القبائل والجماعات في دول كبيرة، لكنه حين فُرض علينا أدى إلى تقطيع جسد الأمة الواحدة أشلاء متناحرة!
فنجده على سبيل المثال يقدم منطق الدولة الحديثة في التجريم والعقاب على الدين، بل في تقرير خياراتها على الأفراد، وهذا أمر يفتقر إلى السلوك العلمي المستقيم، وينزع نحو الاسترضاء السياسي الذليل، خدمة لانحيازاته السياسية قبل أن يكون خدمة للدولة ذاتها.
إن الإسلام حين يضع أمر تطبيق أحكامٍ معينة بيد السلطة على سبيل المثال، فإن هذا لا يعني بحال سيادة هذه السلطة على الشريعة، بل على السلطة أن تؤسس منظومتها القانونية والتشريعية وفقًا لهذه الأحكام، وتلتزم بتطبيقها، فهي الموكول إليها تنفيذها، فإن هي تخلفت عن تطبيقها ظلتْ محل مطالبة بتنفيذها، ولا تتحول أبدًا لمصدر شرعية للأحكام التي يقررها الدين.
وهنا يظل مسعى المجتمع في تطبيق هذه الأحكام قائمًا من خلال تهيئة المناخ الملائم لتطبيقها، ودعوة العلماء وأهل الرأي وممثلي المجتمع في مجالس التشريع وهيئات التنفيذ وخلافه لتغيير هذا الوضع الذي تمتنع فيه السلطة أو تعجز أو يصعب عليها تنفيذ حكم الشرع الشريف.
ويظل التأكيد قائمًا في المجتمع على تحريم أو إباحة أو إلزام ما تقوم السلطة بمخالفة رأي الشرع فيه، ويجب التأكيد في هذا السياق على أمرين مهمين في الوقت ذاته.
الأول: رفض فكرة تكفير السلطة عند مخالفة تصرفاتها لأحكام الشرع الحنيف، أو اتهام القائمين على أمرها في دينهم وهم يظنون أنهم يخدمون الدين ويحققون الصالح العام.
والثاني: أن تظل السلطة مطالبة بتقديم تفسير وتوضيح لحقيقة امتناعها عن تنفيذ حكم الشرع، وعليها أن تجيب للمجتمع الذي تمثله وتدير شؤونه وتسعى لتحقيق آماله وطموحاته عن هذا الأمر، هذا هو التصور من حيث المبدأ والقواعد المجردة.
وعلى الرغم من أن معظم القوانين التي تم سنها في الدول الإسلامية مستمدة من الشريعة الإسلامية، أو على الأقل لا تعارضها، وإذا كانت هناك بعض المشكلات في بعض النصوص، فإنها تظل محدودة، لكن الدكتور سعد لا يريد أن يتعامل مع هذه القضية على هذا الأساس القائم، فلا نكاد نجده يتحدث عن ضرورة تقيد القانون بقيود الشرع، على الرغم من وجود نص دستوري يقضي بهذا الإلزام كما قررت ذلك المحكمة الدستورية في حكم شهير، بل يجعل القانون هو الأساس، وافق الشرع أم لم يوافقْه، ويثير من القضايا ما يحاول أن يخلص منها إلى تقرير هذا الرأي، وفوق ذلك فإنه يخشى أن يقوم بعض الناس فيطالبون بتغيير القوانين، فيقول محذرًا:
إن التفريق بين القانون والشرع يؤدي إلى تجرؤ الشعب على القانون واعتبار القانون غير شرعي.
وهذا أمر في الحقيقة شديد الغرابة ويتناقض مع مفهوم الدولة الحديثة أصلًا، إذ إن من حق المواطنين في أي دولة أن يسعوا لتغيير القوانين التي يرون أنها جائرة أو غير مناسبة أو لا تتوافق مع عاداتهم وتقاليدهم وهويتهم، أو أن فرضها عليهم كان بسبب ظروف زالت فلا داعي لبقائها، أو أن ظروفًا استجدتْ تقتضي تحديثًا لمنظومتهم القانونية… إلخ، ولهم في سبيل ذلك اتخاذ ما يرونه من وسائل مشروعة لتحقيق رغباتهم وطموحاتهم، لكن تشوش المفاهيم عند الدكتور سعد يوقعه في كثير من المشكلات العلمية والواقعية.
تشوش في المفاهيم
إن الدكتور سعد، بناءً على هذا التشوش في المفاهيم، كما رأينا في تصوره عن الدولة الحديثة، نجده يسعى لأمور متناقضة، فهو لا يستطيع تمرير أفكاره بين العلماء ولا المؤسسات العلمية التي تعتمدها الدولة مرجعية للرأي الديني على الرغم من انتسابه إليها؛ فيحاول تمرير كلامه بالاستقواء بالناس عبر خلق رأي عام من خلال برامجه الإذاعية والمتلفزة التي يرفض فيها صدور قانون من المجلس التشريعي يحظر الإفتاء على غير المتخصصين، وهذا الرفض وفقًا لما قررَه الدكتور سعد بنفسه آنفًا لا يجوز، لأنه حق للهيئة التشريعية!
كما أنه يدعو في برامجه الجماهير لانتفاضة ضد هذا الوضع الذي يصفه أحيانًا بسيادة أعداء الشعب عليه، وتارة أخرى يدعو إلى ثورة ضد هذا الوضع لأنه ناشئ عن أفكار مجوسية كما يقول؛ فيكون في ميل المجتمع لرأيه عضدًا يواجه به المؤسسات العلمية وجماعة العلماء، ثم هو في الوقت ذاته يسعى لعلو كعب الدولة على الشريعة وجعل الدولة وقانونها أساس المرجعية لا الشريعة، فكأنه يطلب من الجماهير أن تتحرك ضد المؤسسات الدينية وهي من مؤسسات الدولة لأجله هو في الحقيقة.
وهنا إشكال، ذلك أن سعيه هذا خروج صريح على ما قررته الدولة، ولو ظاهريًا، من احترام رأي المؤسسات الدينية والوقوف عند تقريراتها، وهو إن نجح في مسعاه كان خارجًا عنها وعما تقرره مؤسساتها، وهو أيضًا بهذا النهج ضد احترام الدولة ومؤسساتها على خلاف ما يدّعي ويدعو، ويفتح الباب بمسلكه هذا للخروج على مساحات أخرى كالقضاء مثلاً، عند تعارض أحكامه المستوفاة لشروطها مع هوى بعض من تضرروا منها.
قضية التجديد الديني قضية جوهرية وذات أهمية بالغة، لكن عمادها الحقيقي منهج علمي مستقيم يتفاعل مع الواقع في مناخ من الحرية.
إن هذه الحالة اللاعلمية واللامنهجية التي يحاول الدكتور سعد ترويجها بعد أن يلبسها قسرًا لباس «العلمية» و«المنهجية» على غير الحقيقة، هي سبيل نموذجي للتفلت من أحكام الدين، تفريطًا وإفراطًا.
فكما أنه من خلال تسويغ الآراء الضعيفة والشاذة وتلك التي تخلو من منهجية صارمة منضبطة في الاستدلال، يمكن التفلت من أحكام الدين بعدم تحقيق الغاية منها وتمييع أحكام الشرع في نفوس الناس، فإن هذه الحالة اللاعلمية واللامنهجية سبيل كذلك لأفراد وجماعات متشددة ومتطرفة تستند أيضًا إلى آراء لم يتم التوصل إليها بطريق علمي منهجي منضبط، وتعتمد على آراء شاذة أو تجاوزها الزمن، ليتخذوها سبيلاً لسفك دماء الأبرياء معصومي الدم، وللتحكم في البلاد والعباد وقمعهم والاستبداد بشؤونهم؛ استنادًا لآراء علماء يمكن أن يقال عنهم إنهم أفضل من كل العلماء الموجودين حاليًّا، كما يفعل الدكتور سعد لتسويغ ما يراه تيسيرًا أو تقريبًا للدين إلى الناس.
إن التيسير على الناس هدف نبيل، ولكنه إن لم يكن منضبطًا بأصول علمية وقواعد منهجية، كان تفلتًا من الدين وتضييعًا لأحكامه، وتبديدًا لمقاصده وغاياته، ولا يجوز التوصل إلى التيسير بطرق تؤدي إلى إفساد المناهج العلمية، خاصة أنها – في حالة الفقه الإسلامي على سبيل المثال – لا تسعى للتشديد على الناس، ولا للتضييق عليهم، بل تحرص على التيسير أشد الحرص ما وسعها في ذلك قواعدها وأصولها المنهجية.
ختام
المشكلة الحقيقية ليست في المناهج التي يتبناها علماء الإسلام من قديم، ويحاول النموذج الذي يمثله الدكتور سعد نقضَه بكل سبيل، بل المشكلة الحقيقية في قلة الأمانة، لا في التبليغ فحسب، بل وأيضًا في التحصيل العلمي والتفاعل مع الواقع وفق المناهج المنضبطة التي استقر عليها المسلمون منذ قرون بعيدة، أو بإبداع مناهج جديدة متكاملة ومتماسكة ومتسقة بين جزئياتها، وليست اختزالية وتجزيئية كما هو واقع في القضايا المثارة في أسواق الإعلام كميراث المرأة والطلاق الشفوي.
فالفقيه الأمين سيبلغ بأمانة ما يقتنع به، ويسعى للتسهيل على المستفتين، ولكن بما يرى أنه متسق مع قواعد الشرع ويتفق والمنهج العلمي، حتى ولو كان الرأي الذي يُفتي به غير الذي يتبناه، وهذا أمر واقع مُشَاهَد.
إن قضية التجديد الديني قضية جوهرية وذات أهمية بالغة، لكن عمادها الحقيقي منهج علمي مستقيم يتفاعل مع الواقع في مناخ من الحرية، في حين يؤدي إغلاق المجال العام والتضييق على الحريات إلى عدم إتاحة الفرصة الملائمة للتجديد والتفاعل مع الواقع وحل مشكلاته بطريقة طبيعية.
إن مجتمعاتنا في مسعاها لكي تتقدم وتنهض من الكبوة التي أصابتها تحتاج بعد وجودها لما يوفر لها المناخ الملائم لتحديد وجهتها وترشيد حركتها في هذا العالم الذي يموج بالفلسفات والاتجاهات المتباينة، ومن ثمَّ تقرر مجتمعاتنا أي فلسفة تتبنى وأي اتجاه تريد، لكن مثل هذه الخطابات التي تزعم التجديد، ثم هي لا تتقيد بمنهج، وتدعي الأمانة، ثم تقوم على التشويه والافتراء، إن هي في حقيقتها إلا عقبات أمام تقدم مجتمعاتنا، تزعزع ما تبقى لديه من استقرار ثقافي وتهدد وجوده حين تستغل أدوات السلطة والإعلام في تشويه تراثه العلمي والمنهجي.
إضاءات
إضافة تعليق جديد