السيخية: ديانة هندوسي طاف بالكعبة
رغم قلة الأتباع نسبيًا – نحو 27 مليونًا – مقارنة بالديانات الكبرى، تتمتع السيخية بشهرة جيدة في أرجاء العالم حتى أن كثيرًا من العرب يألفون اسمها والسمت المميز لأتباعها، بينما يجهلون أمر أهم الأقليات التي تسكن العالم العربي، مثل الصابئة والأكراد والدروز. ولعل ضخامة الجالية السيخية في بريطانيا وأمريكا الشمالية، وكذلك حجم العمالة السيخية الكبير في دول الخليج، من أسباب ذلك.
إلى جانب هذا السمت المميز للسيخي من عمامة ضخمة ملونة تلفت الأنظار ولحية كبيرة تغري بالخلط بينه وبين المسلمين الملتزمين، فإن السيخية ديانة مميزة بالفعل إلى درجة مثيرة للاهتمام. فهي ديانة توحيدية صريحة، وهذا مثار للدهشة وسط أديان الهند ذات ملايين الآلهة. وهي نموذج للديانة التوفيقية، فتأثرها بكل من الهندوسية والإسلام – خاصة التصوف – حقيقة معلنة. كما أنها ديانة حديثة النشأة، وضعت أسسها في نهاية القرن الخامس عشر، على يد ناناك مهتا كالو، بولاية بنجاب الهندية.
بنجاب القرن الخامس عشر
لطالما احتفظت البنجاب بطبيعة خاصة نتيجة موقعها وتضاريسها الجغرافية التي تميزها عن سائر أرجاء الهند. وقد استقبلت عديدًا من موجات الهجرة والغزو على مر القرون، من فرس وإغريق وأفغان وغيرهم. كما بلغتها عجلة الحملات الإسلامية مبكرًا، بالتحديد في عام 712م-93هـ، تجرها خيول الدولة الأموية. وبمرور الوقت، ومع تزايد الحضور الإسلامي هناك في صورة المتصوفة أصحاب الفضل في التعريف بالإسلام والدعوة إليه هناك، وفي صورة دول إسلامية تعاقبت على حكم أجزاء من الهند، غدا الإسلام هو الديانة المهيمنة على البنجاب. وستتزامن دعوة ناناك إلى السيخية مع بسط مغول الهند سيطرتهم على المنطقة، تحت زعامة سلطانهم الأول «ظهير الدين بابر» عام 1525م تقريبًا.
أما عن الحركة الثقافية بشمال ووسط الهند عامة قبيل ظهور السيخية، فقد نشطت هناك جماعة من الشعراء الحكماء، مسلمين وهندوس، مثل «كابير» و«رافيداس»، سميت بـ «نظرة الحكماء» (Sant Mat). وقد تجاوز هؤلاء الشعراء المتصوفة الحدود الفاصلة بين الأديان، ونبذوا الطقوس الدينية الجامدة، وآمنوا بأن المطلب الروحاني غير محصور في دين محدد. وسيكون للحركة أثر كبير على الثقافة الشعبية والدينية في البنجاب. كما ستلعب دورًا في تشكيل السيخية لاحقًا، إذ ستؤثر أشعار كابير على ناناك، إلى درجة أن الأخير ضم بعضها إلى النصوص السيخية المقدسة الأولى. كما اتسم هؤلاء الحكماء بنزعة إصلاحية تجاه المرأة وطائفة المنبوذين وتجاه قضايا حساسة أخرى في الديانة الهندوسية.
ناناك مؤسسًا
ولد ناناك مهتا كالو في عام 1469م في قرية «تلفاندي» بغرب البنجاب، لأسرة هندوسية مسيورة الحال. تزوّج في سن السادسة عشرة، ثم طلب والده منه العون في رعاية أراضي الأسرة، لكنه كان دومًا شارد الذهن عما يدور حوله، فمنحه الوالد مبلغًا ليتاجر به علّ التجارة تخلصه من الانطوائية؛ إلا أنه تصدق بالمال على فقراء مرّ بهم في طريقه إلى المدينة مما أغضب والده بشدة. ولما عمل ناناك بأحد مخازن الغلال، راح يوزع منها على الفقراء حتى ذاع أمره، فأرسل الحاكم لجنة تفتيش وجدت العهدة تامة غير منقوصة.
خلال هذه الفترة، تعرف ناناك بصديق مسلم متصوف يدعى «مردانا»، سيجوب معه قرى وإمارات الهند، وسيرد اسمه لاحقًا في كثير من الحكايات السيخية. وسينكر ناناك على الهندوس – خلال تجواله – شيوع الطقوس الوثنية بينهم، مثل الصلاة لقرص الشمس. ثم سيرتحل إلى العالم الإسلامي، حيث سيزور مكة والمدينة، ويمكث ببغداد فترة تتوطد خلالها علاقته بالمتصوفة، وله هناك مقام يزوره السيخ حتى اليوم. كما سيزور المدن الشيعية المهمة مثل النجف وكربلاء. ثم يتوجه إلى القدس، يرجع بعدها إلى مكة، ومنها يعود إلى الهند بدعوة جديدة.
أعلن ناناك عن مذهبه الديني الجديد الذي أسماه «السيخية»، و«سيخ» هو المتعلم أو التلميذ. يقف المذهب الديني الجديد ضد النظام الطبقي الهندوسي، مع الإقرار بعقيدة التناسخ. كما يشدد على وحدانية الإله، إذ تحكي قصة دينية متداولة عن مكوث ناناك في إحدى الغابات ثلاثة أيام حيث اغتسل بمياه النهر المقدسة وتلقى وحيًا بأن «الله لا إله إلا هو، الواحد الحق منذ الأزل».
في الواقع، تأثير الإسلام في السيخية واضح وعميق، لا يقتصر على حضور الألفاظ العربية والفارسية في النصوص الدينية – مثل الله وآدم ورحمن وسبحان وعزرائيل ومسجد ومكة وموسى ونعمة – فالسيخ يوقرون أعلامًا إسلامية مثل فريد الدين مسعود شكر، الإمام الصوفي الهندي الشهير. وما تزال خرقة صوفية منقوشة بالآيات القرآنية كانت قد أهديت إلى ناناك، محفوظة في متحف «تشولا صاحب». وترى السيخية أن المريد قادر على كسر أغلال التناسخ، والانعتاق من هذه الدورة الأبدية، بإدراك حقيقة الكون وتحقيق الانسجام التام معه، والتوجه بالقلب الصادق لله مسترشدًا بنهج المعلمين (جورو).
اقرأ أيضًا: «ما للهند»: في قلب كعبة السيخ
في سنواته الأخيرة استقر ناناك على ضفة نهر رواي متفرغًا للدعوة والإرشاد. وأودع أصول دعوته وتعاليمه في كتاب «جرانت صاحب»، وهو اسم يعني «الكتاب المقدس» أو «الكتاب الكريم»، يشبه إلى حد كبير الاسم الذي استعمله المسلمون الهنود للإشارة إلى القرآن. كما ضم الكتاب مئات الترنيمات الدينية التي كتبها ناناك ليتلوها السيخ في صلواتهم. وفي عمر السبعين قبيل وفاة ناناك عام 1539م، سيوصي بالخلافة الروحية والسياسية لتلميذه «أنجاد»، أول من ستحل فيه روح المؤسس، من بين تسعة معلمين سيستمر التعديل والإضافة في كتاب السيخ المقدس طوال حياتهم حتى انقطاع الوحي بوفاة الخليفة التاسع في أوائل القرن الثامن عشر.
الروح في رحلاتها التسع
كانت الخلافة الروحية للمعلم (جورو) أنجاد قصيرة نسبًيا، انشغل خلالها بتدوين سيرة المؤسس الراحل وتعاليمه، والتأكيد على وحدانية الإله، مع القول بالحلولية، بمعنى حلول الإله في الكون المخلوق. وقبيل وفاة أنجاد عام 1552م سيختار أمار داس – الستيني الذي لازمه طوال سنوات خلافته – خليفة له.
في عهد أمار داس نشطت حركة التبشير السيخية في أرجاء الهند، ومعها الأعمال الخيرية، خاصة إطعام الفقراء الذي أصبح قربة سيخية تقليدية. وقد ساعدته علاقته الطيبة بالإمبراطور المغولي «أكبر» على الانتشار، والجهر بمعارضة حرق الزوجات الهندوسيات بعد ترملهن. كذلك اهتم بوحدة السيخ، فميّزهم بأعياد وطقوس خاصة بهم. وفي عهده انضم كثير من المنبوذين إلى الديانة الناشئة. وقبل وفاة أمار داس عام 1574م، عهد بخلافته إلى رام داس، زوج ابنته. وسيسير المعلم الرابع والخليفة الثالث على خطى سلفه، كما سينشئ مدينة أمراتسر التي ستغدو مركز مقاطعة بنجاب والعاصمة الروحية للسيخ.
أما عصر المعلم أرجان ديف، نجل رام داس وخليفته، الذي استمر من 1581 إلى 1606، فكان عهد ازدهار للسيخية. ازداد فيه الاهتمام بالتجارة وفرضت الضرائب وأُرسل المئات للدعوة في أفغانستان وآسيا الصغرى. كما ألّف أرجان ديف عددًا من الكتب تحوي إرشادات ونصائح دينية، وأضاف كثيرًا إلى نصوص المعلم ناناك مثل تعاليم وتراتيل المعلمين الراحلين، وكثير من أشعار وأقوال الأعلام السابقة على السيخية. ثم قاده طموحه إلى تأييد أمير مغولي في حربه ضد والده الإمبراطور جهان جير بالسلاح والمال، لذا سارع الإمبراطور بسجنه حتى وفاته – وقيل إعدامه – مثلما فعل بابنه عقب هزيمته.
خلف هرجوبند أباه أرجان ديف، فكان من المنطقي أن يتسم عهده بالروح القتالية والرغبة في الثأر من المغول. بالفعل، كوّن المعلم هرجوبند جيشًا قويًا من أتباعه أغار وغنم كثيرًا في فترة حكم جهان جير الذي اعتقله، ثم عاد فأطلق سراحه. لكن المعلم السادس واصل هجماته واستمرت حربه ضد المغول فترة من حكم الإمبراطور التالي جهان شاه، قبل اعتصامه بالجبال سنوات حتى وفاته عام 1645.
بعدها، سيخلفه هار راي، حفيده والمعلم السابع في السيخية، المسالم الحكيم، في الرابعة عشرة من عمره. وستربطه صداقة قوية بدارا شيكوه، الأمير المغولي المتصوف الذي سيطارده أخوه الإمبراطور أورنجزيب. وعند استدعاء الإمبراطور للمعلم السابع، سيرسل ابنه رام راي نائبًا عنه. لكن الإمبراطور سيسأل رام راي عن نص سيخي مقدس يحمل نوعًا من الإساءة إلى الإسلام، ليجيبه معتذرًا بخطأ في التدوين مما سيغضب أباه الذي سيعهد بالخلافة الروحية إلى هار كريشين، الابن الأصغر ذي السنوات الخمس، بديلًا عنه. إلا أن المعلم الثامن سيتوفى عام 1661م بالجدري، في عمر الثامنة.
ثم سيُبايَع تجه بهادر معلمًا تاسعًا، لكنه سيرتحل فترة في أرجاء الهند قبل العودة لبسط نفوذه واحتلال مساحة من جنوب وشرق الهند، مما سيدفع أورنجزيب إلى اعتقاله وإعدامه عام 1675م. حينها سيتولى جوبند سنغ، ابنه، قيادة السيخ مليئًا بالحنق على المغول وكراهيتهم. وسينجح في توحيد أتباعه وإعدادهم للحرب، كما سيفرض «الكافات الخمس» التي ستغدو جزءًا من الهوية، وهي خمس قواعد يبدأ كل منها بحرف الكاف.
1. كش: عدم قص الشعر مطلقًا، أينما كان موضعه بالجسد. وذلك لتمييز أي جاسوس يندس وسط الطائفة.
2. كرا: ارتداء الرجال لسوار حديدي للتذلل، أسوة بالصوفية.
3. كنجا: وضع مشط في شعر الرأس لتصفيفه وقاية من الحشرات.
4. كجا: ارتداء الرجال سراويل قصيرًا، لا يخلع أبدًا، إشارة إلى شرف المقاتل وحفظ الفرج.
5. كربان: ارتداء حربة أو خنجر للدفاع عن النفس وتعزيز الشجاعة.
كما وضع جوبند مراسم لتعميد السيخ، وأطلق على المعمَّدين منهم اسم «خالصة»، اشتقاقًا من لفظة الإخلاص العربية. وأمر بإضافة كلمة «سنج» (تعني الأسد) إلى نهاية اسم كل منهم. واستمر في تغذية الروح القتالية بين صفوف جنده، والعدول عن الطقوس التي تحض على التواضع لصالح أخرى تعلي من العزة والأنفة.
ثم التفت إلى الإمارات المجاورة محاولًا ضمها إلى ملكه، وشن الغارات على من رفضوا الإذعان له، فاتحد عدد من زعماء الولايات وهاجموه بجيش عظيم تغلب عليه بجيشه الصغير. فسارعوا يستنجدون بالإمبراطور أورنجزيب الذي اتحد معهم وتمكن من هزيمة جوبند وقتل أبنائه. ليفرّ المعلم العاشر إلى ضيعة صغرى، ويتفرغ للوعظ والتأليف، قبل أن يرسل إليه «شاه عالم بهادور شاه الأول»، إمبراطور المغول الجديد، يسترضيه ويوليه القيادة الحربية في إحدى البقاع. لكن جوبند سيختفي عند بلوغه نهر «جادا وري»، وتختلف التفسيرات، ومنها طعنه على يد خادم أفغاني حاقد وغرق بالنهر. كان ذلك في أكتوبر/تشرين الأول عام 1708 بعد رفضه اختيار الخليفة له، طالبًا من السيخ اللوذ بحمى الله. هكذا انتهت رحلة روح ناناك بعد حلولها في أجساد تسعة من الخلفاء.
بعدها ستسند قيادة السيخ إلى رجل يدعى «بنده»، سيقود السيخ في حملة انتقامية ضد المسلمين ستخلف آلاف الجثث في مدينة «سامانا»، حيث قتل جوبند وأبناؤه. وبعدها مدينة سرهند التي سيذبح فيها كذلك جميع السكان المسلمين، إضافة إلى من مد إليهم يد العون من الهندوس. ساد بعدها بنده منطقة كبيرة، تحول عدد كبير من أهلها الأحياء إلى السيخية تجنبًا لمصير جيرانهم. وستلي ذلك أحداث متزاحمة تتصارع فيها عدة جبهات، من بينها الإنجليز الذين ستئول إليهم مقاليد الحكم في النهاية، وتزول مملكة السيخ مع منتصف القرن التاسع عشر.
نظريًا، يمكن تقسيم السيخ إلى فرق عدة، وفق معايير كثيرة، مثل «الرام داسيه» وهم أتباع رام داس، و«النان كبان تهيه» الذين رفضوا طقوس جوبند كالتعميد وإطلاق الشعر وتحريم الدخان، و«الكشد هارية»، المعمدين المتمسكين بتعاليم جوبند. لكن هذه التقسيمات تكاد تنعدم آثارها واقعيًا، فالسيخ أقلية متماسكة وشديدة الترابط، يبلغ عددهم 27 مليونًا، يقيم نصفهم في ولاية بنجاب الهندية وحدها. كذلك تتمتع نساء السيخ بوضع مميز مقارنة بالمجتمع الهندي التقليدي. ويعرف عنهم جميعًا روح المغامرة وحب الترحال والاعتزاز بتراثهم.
إضاءات
إضافة تعليق جديد