سارة شمة تدخل النيرفانا وتتحد بالمطلق

لم تخطئ غاليري آرت هاوس في اختيار لوحات الفنانة التشكيلية السورية سارة شمّة لتكون فاتحة لأولى فعالياتها الثقافية. إذ يليق بسحر المكان العتيق على كتف بردى، الذي جرى ترميمه وتحديثه أخيراً على نحو مدهش، اسم كاسم سارة التي احتلت، بعمرها الغض (من مواليد العام 1975)، مكانة فعلية على خريطة الفن، هي الحائزة على الجائزة الرابعة في مسابقة فن البورتريه العالمي في لندن.
وفي معرضها الأخير تستكمل الفنانة رحلتها مع البورتريه، الشكل الذي اختارته منذ سنواتها الأولى في الرسم، كما لا تنوي حتى اللحظة، مغادرته، إذ ترى فيه شكلاً لا يستنفد. وإلى جانب البورتريهات عرضت الفنانة مجموعة من لوحات لرقصة المولوية، هذه التي تعبر عن ولع للفنانة بالموسيقى لا بالدين أو الغيبيات كما يعتقد كثيرون: «أحب حالة التكرار، الريتم المتكرر في الإنشاد الديني. الموسيقى منذ طفولتي أكثر ما يحركني ويلهمني ويفرحني ويعطيني القوة والسعادة. كنت أسمع موسيقى البلوز والهارد روك، وأعزف على الغيتار والهارمونيكا. ورحت أستمع إلى موسيقى صوفيّة من الهند والمغرب وتونس وحلب، إلى شيوخ التصوف والزوايا. أحب حالة التصوف، حالة الارتقاء الشعوري للاتحاد بالمطلق كما يصفونها هم. كل ما يهمني حالة الصفاء والتخلي عن التفكير، هذه التي تسمى في الديانات الهندية النيرفانا. الموسيقى تعطيني هذا الشعور من الإلهام، يتوقف العقل عن التفكير، قد يكون نوعاً من اليوغا، أو الاسترخاء». وحين نسألها في ما إذا كان ينبغي أن تكون موسيقية لا رسامة، تقول: «بلى. موسيقية بالألوان». أما لماذا ذهبت إلى الرسم فـ«بعمر صغير كنت أرسم، في عمر الرابعة تقريباً. أهلي عزّزوا ذلك لديّ، أمي درست علم نفس الأطفال وتستطيع أن تفهم الطفل. استطاعت أن توجهني لما أحب. رغم أن أبي كان يحب الموسيقى كثيراً، وكان يعزف درامز ولديه فرقة. في النهاية يجب أن يختار المرء طريقاً. ما زلت حتى الآن أستمتع بحضور حفلة موسيقية أكثر من حضوري لمعرض تشكيلي». وهنا تحكي سارة عن أثر الموسيقى في عملها كتشكيلية: «كثيراً ما تلهمني. حالة الرسم عندي هي حالة من التصوف والصفاء وتوقف العقل. اليدان مع العينين تلعب بشكل فطري وتلقائي. الموسيقى هي من يأتي بهذه الحالة من الهدوء والصفاء والنيرفانا. وهنا يأتي الرسم. إنه في النهاية موضوع استنباط اللاوعي الذي فيه كل مخزوننا الفكري والثقافي. ولذلك فإن لوحات المولوية بالنسبة لي لها علاقة بالإنشاد الديني كحالة روحية لا دينية، فالإنشاد الديني موسيقى مثل الهارد روك. حالة مجردة من الدين والتقاليد».
وبالطبع لا يكتفي فنان يهجس بالإبداع بتشجيع والدين، إذ لا بد من ذلك الشغف الذي قاد سارة شمّة، في طريقها لامتلاك التكنيك، للذهاب إلى «مشرحة كلية الطب كي أفهم الجسد». نسألها: وهل يتفق ذلك مع رهافتك؟ فتقول: «هناك شغف بالمعرفة تصبح معه الجثة أشكالاً أريد فهمها. ثم إنني لست ممن يخاف القبور، وليس لدي ما ورائيات. أنا أتعامل مع أشياء كهذه بشكل بسيط ومجرد». وفي إطار محاولاتها امتلاك التكنيك نسخت شمّة لوحات عالمية كثيرة في فترة دراستها الجامعية في كلية الفنون الجميلة (تخرجت من قسم التصوير الزيتي العام 1998) وما قبل: «كنت أقرأ عن فنان معين وأشتغل لوحة بالطريقة نفسها التي قام بها. حاولت أن أتمكن من التقنية كرسم، ولون، ومعرفة بالتشريح. ثم يأتي الإبداع تالياً». وبالطبع سيخطر للمرء أن يسألها إن كانت نسخت لوحات لفنانين سوريين فتقول: «لا، لم يملأوا لي رأسي. ملأوا رأسي بالإحساس وليس بالتقنية، وأنا كنت أرسم من أجل التقنية. إحساس لؤي كيالي عال جداً، ربما ليس موجوداً عند فنانين غربيين، ولكن ليس على مستوى التقنية».
عرضت سارة شمّة في عواصم ومدن عديدة من بينها بيروت وعمّان والقاهرة وتونس ومدريد ولندن ومونتريال وهولندا وفيينا، في معارض فردية أو جماعية. وحصلت على جوائز عديدة، كما شاركت في لجان تحكيم لمسابقات في الرسم. إلى حدّ يبدو أكثر مما لفنان شاب بهذا العمر، وكذلك قياساً بسير هؤلاء الفنانين الكبار الذين قضوا حياتهم مغمورين في الشقاء، ونالوا الشهرة والتكريم فقط بعد موتهم. فهل ترى أنها أخذت حقها من الشهرة والتكريم مبكراً؟ تقول: «أجد ذلك عادياً، فهناك الفنان المنعزل، وهناك من يستطيع أن يسوق نفسه، وهذا ضروري. أهلي ساعدوني بهذه الناحية، فقد كنت في السنة الجامعية الأولى حين أنشأوا غاليري، أو محلاً لبيع اللوحات، وبالتالي بيعت لوحاتي، وهذا ساعدني كثيراً في التواصل مع العالم. ثم، نظراً لبدايتي المبكرة، أعتبر عمري الفني طويلاً. ففي الرابعة عشرة من عمري تأكدت من أنني رسامة. رسمت وكان همّي البورتريه. عملت لوحة، أربعة بورتريهات لفرقة البيتلز، وكان ذلك مفصلاً وجدت فيه الطريق. أقنعتْني اللوحة تماماً. مثل من يحاول أن يتعلم مصلحة ما ويكتشف فجأة أنه أتقنها». فماذا كانت الخطوة التالية؟ «ظللت أرسم بالأسود والأبيض، لأربع سنوات، كان لدي حاجز مع الألوان، وفي مركز أدهم اسماعيل (تخرجت منه في العام 1995) كانت أولى محاولاتي مع الألوان».
وإذا كانت شمّة قد اختارت مبكراً فن البورتريه واستمرت فيه فلأن «أهم ما أراه حولي هو الإنسان، وهو ما أستطيع أن أعطيه القيمة الأكبر. الطبيعة لا تعني لي كثيراً، أحب أن أشم رائحتها وأعيشها، أحلى أن تعاش. كذلك فإن التجريد لا يعني لي شيئاً. في النهاية يبقى الإنسان، الذي يمكن استنباط شيء منه، تنظر إلى عيني الشخص فتقرأ فيهما شيئاً. الإنسان هو الأغنى». فما تقول للذين يرون في تصويرها لنفسها في بورتريهات كثيرة نوعاً من النرجسية: «أقول لهم صحيح. ولكن للنرجسية درجات كثيرة، بعضها مرضيّ. أما أنا فآخذها بالمفهوم الإيجابي. النرجسية ضرورية؛ كيف أحب شخصاً لا يستطيع أن يحب نفسه؟! النرجسية إلى حد معين حالة من حالات الوعي». أما عن شخوص لوحاتها الآخرين فـ«هم أناس من عقلي، لا أعرفهم، بالتأكيد هناك مخزون في الـلاوعي، ما أتذوق وأعيش، وأرى. كل ذلك يترجم إلى لوحة. لا أضع صورة أو شخصاً، بل أخلق أشخاصاً».
حين حازت سارة المرتبة الرابعة في مسابقة البورتريه العالمي التي نظّمها متحف الصالة الوطنية للبورتريه في لندن، حيث حلّت رابعة بعد ثلاثة فنانين بريطانيين، دار لغط حول أحقيتها بالجائزة الأولى، وأن اعتبارات غير فنية أدت إلى تراجع موقعها، من بينها تصوير اللوحة لامرأة مدخّنة (الفنانة نفسها) لكن سارة تجد مجرد المشاركة في المسابقة أمراً لا يثمن: «المسابقة لها دعاية وصيت قوي، ودائماً فيها اعتبارات أخرى. الفن لا شيء يقيّمه؛ جائزة أولى أو عاشرة. كان هدفي أولاً وأخيراً أن أعرض في هذا المتحف. وبالطبع سررت كثيراً بنيل الجائزة كأول عربية تدخل المعرض وتنال جائزة رغم اعتبارات عديدة من بينها اجتماعية، حيث الشركة الراعية شركة نفط وأقيم المعرض في خضم مظاهرات ضدها (وضد المعرض) من قبل أنصار البيئة، إلى حدّ محاولة منع الناس من الدخول إلى المعرض. ولكن لا تستطيع أن تقول إنهم حرموني من الجائزة، فأنا كثير عليّ أنني عرضت هناك. وفي النهاية ما يؤثر على الفنان أين تعرض أعماله، وليس الجائزة، ومع ذلك فقد فرحت بها كثيراً».
وفي محاولة لتتبّع موقع الفنانة السورية بين مختلف أجيال الفنانين السوريين نسأل عن أساتذتها فتقول: «قد يكون كلامي قاسياً بعض الشيء؛ ففي كلية الفنون، التي لم أكن أحبها، رغم حبي للأساتذة والأشخاص فيها، وكذلك حبي لشغلهم، لم أحس أن عندي أستاذاً من بين السوريين، ولا حتى في الخارج. تأثرت بفنانين؛ في عمر صغير تأثرت بسلفادور دالي، وحين رأيت شغله على الأرض صرت أبحث عن شيء آخر. أحببت بيكاسو في عمر الخامسة عشرة وكان لدي مرحلة زرقاء. ثم لم تعد اللوحات، أو شغل الفنانين ما يؤثر بي، بل الموسيقى. أنا أؤمن أيضاً، وكما رأيت في فترة التعليم التي خضتها، أن الرسم لا يعلَّم. وأنا درّست أيضاً، وأحسست أن من لديه شيء لن يحتاجني. لا أؤمن بأن الفن يدرَّس. ولا قناعة لي بأكاديميات حتى في الخارج. أكاديمية الرويال الملكية في لندن طلبت مني أن أدرّس ولم أقبل. فالفن ليس علماً ولا رياضيات. هو طريقة تعبير تصل إلى الآخرين أو لا. في كلية الفنون هنا لا يعلمون شيئاً، يتخرج الطالب، ويباشر فوراً بالتجريد، وهذا ليس شيئاً، ففي النهاية أياً كان يستطيع أن يعمل تجريداً. عملية نقل الواقع هي عملية للفهم. وبدل الأكاديميات أتمنى أن يكون هناك مؤسسات ترعى الفنانين وتقدم لهم تسهيلات ومعارض وليس أكثر. فمهما كان الأستاذ شاطراً لا يمكن أن يحلّ مكان الطالب. وفي المقابل لم أرد أن يكون لي تلاميذ، فالتلميذ تتمة لي، وهذا ليس هدفاً أحب أن أتوجه إليه». ولكن أن لا تعترف سارة شمّة بأساتذة لها لا يعني أنها لا تحب هذه العلامات في التشكيل السوري: «أحب أسعد عرابي لبدائيته. أسماء فيومي للعاطفة التي لديها. صفوان داحول للإحساس الرقيق الحزين. فاتح المدرس لشخصيته الغنية أكثر من لوحاته. أحب نزار صابور للحالة القدسية التي لديه. وليلى نصير للفن الذي لديها، للخصوصية العالية بشخصيتها وشغلها. الفنانون السوريون بشكل عام عندهم طفولة وبراءة، شيء حقيقي يفتقده الفنانون في بلاد أخرى. في لبنان أو في الغرب مثلاً. قد لا يكون هناك تقنية ولكن هناك ما يوازيها هو النظافة والبراءة».

راشد عيسى

المصدر: السفير