الدرس الموريتاني: انقلاب عسكري ديمقراطي !!
الجمل ـ فيصل علوش :غامر العرب الحسانيون، في بلاد الشنقيط، بتجربة مغايرة لما ألفناه ودرجت عليه العادة في عالمنا العربي. رئيس المجلس العسكري الموريتاني أعلي ولد محمد فال أوفى بوعده، وأعاد تسليم السلطة للمدنيين، بعد نحو 19 شهراً من تسلّمه قيادة البلاد في انقلاب عسكري أبيض، أطاح نظام حكم معاوية ولد الطايع في آب (أغسطس) 2005. فدخل بذلك تاريخ العرب المعاصر إلى جانب زميله السابق، السوداني عبد الرحمن سوار الذهب، الذي كان له شرف السبق في الإقدام على هذه المغامرة في ثمانينيات القرن الماضي.
فال كان حدد فترة انتقالية لاستكمال مهمة التحضير لقيام نظام حكم ديمقراطي، قام خلالها بعدة إجراءات متتابعة لمعالجة حال الاحتقان السياسي الذي كانت تشهده البلاد، منها إصدار عفو شامل عن المعتقلين السياسيين، وإجراء تعديلات دستورية لضمان تداول السلطة، مع تحديد ولاية الرئيس بخمس سنوات، بدلاً من سبع، قابلة للتجديد مرة واحدة فقط، بدلاً من تركها مفتوحة من دون تحديد، إلى جانب الحظر على من هو فوق سن الـ75 الترشح للرئاسة وتخصيص 20% من مقاعد المجالس النيابية والمحلية للنساء.
ولتبديد الشكوك حول نوايا القادة العسكريين، اتخذ المجلس العسكري إجراءين آخرين هما منع أعضاء المجلس العسكري والحكومة من حق الترشح في أي انتخابات بلدية أو تشريعية أو رئاسية طوال المرحلة الانتقالية. وتشكيل لجنة مستقلة للإشراف على الانتخابات، مع فتح الباب أمام المنظمات الدولية ومؤسسات المجتمع المدني لمراقبة سير العمليات الانتخابية. وفوق ذلك كله، تم استحداث منصب <<رئيس المعارضة الديمقراطية>> وهو من حصل حزبه على أكبـر عدد من مقاعد البـرلمان، ولم يشارك في الحكومة، فأصبح يتمتع بحقوق وامتيازات بـروتوكولية ومادية توازي ما يتمتع به الوزير، ويستشيره رئيس الجمهورية ويجتمع به مرة كل ثلاثة أشهر.
وأغلب هذه الإجراءات، كما نلاحظ، مثلت سوابق نوعية غير شائعة عندنا، ولم تشهدها أي دولة عربية من قبل. وهكذا، وعلى الرغم من ملاحظات طفيفة تداولها البعض هنا أو هناك، جرت الانتخابات الموريتانية، المحلية والتشريعية والرئاسية، في أجواء من <<النزاهة والشفافية قل نظيرها في الدول الأخرى>> كما عبـرت شهادات بعثة المراقبين الأوروبيين.وهكذا باتت موريتانيا نموذجاً لعملية تحول ديمقراطي، خلال فترة انتقالية قصيرة، فلا وجود الآن لسجناء الرأي فيها، ولا لقوانين الطوارئ (الدائمة)ورئيسها الحالي سيدي ولد الشيخ عبد الله يعد أول رئيس منتخب في العالم العربي، عبـر عملية ديمقراطية لا غبار عليها وغير مشكوك بنزاهتها وشفافيتها. و<<الأغرب>> من ذلك كله، أن من أطلق هذه العملية وأدارها واشرف على حيثياتها ومراحلها كلها بنجاح لافت وباهر، هو مجلس عسكري وصل إلى سدة الحكم بانقلاب عسكري. فهل يؤشر الحدث الموريتاني إلى دور ما يمكن أن تضطلع به المؤسسة العسكرية مستقبلاً في الحياة السياسية العربية، وفي إطلاق عملية تحول ديمقراطي داخل النظم السياسية، التي وصلت إلى حدود انسداد الآفاق، وإيصاد الأبواب أمام أي أمل بالتغيير، في ظل تجذر البنية الاستبدادية فيها؟.
لا بد لنا أن نلاحظ، في هذا الصدد، أن المؤسسة العسكرية، في بلدان ما يسمى بالعالم الثالث، تبقى من أكبـر وأقوى المؤسسات القائمة، وأكثرها تنظيماً أيضاً، خصوصاً عندما تكون الأحزاب وبقية التمثيلات الاجتماعية والاقتصادية، والحياة السياسية، عامة، وصلت إلى مرحلة الحضيض أو الموات. ولا حاجة للتذكر، طبعاً، بالأخطار التي لا زالت تحيق بعملية التحول الديمقراطي في موريتانيا، فكل ما تم الإقدام عليه، من تعديلات دستورية وإجراءات انتخابية، يحتاج على نحو أكيد، إلى وجود ورعاية مؤسسات راسخة وعريقة، وإلى رأي عام يحميه ويدافع عنه، وإلا فإنه سيكون عرضة للتغيير في يوم ما، وسيبقى رهناًَ بمشيئة هذا الحاكم أو ذاك. كما إن التجربة الوحيدة المماثلة في السودان، جرى الانقلاب عليها بعد نحو ثلاث سنوات، ومن خلال المؤسسة العسكرية ذاتها، بدعم من حزب إسلامي كبير!.
لكن، ومن منطلق الأمل بأن لا يكون مصير التجربة الموريتانية كسابقتها السودانية، نطرح السؤال التالي: لماذا نجحت موريتانيا في فعل ذلك، في وقت نشهد فيه عملية تراجع عن وعود الإصلاح والتغيير، أو حتى التحديث والتطوير، في غير مكان من عالمنا العربي؟ خصوصاً تلك الدول التي كان يفترض بها أن تضطلع بدور الريادة والقيادة، أو بدور النموذج والأمثولة.
ما تقوله التجربة الموريتانية وتقدمه هو أن الأمر منوط، بالدرجة الأولى، بتوفر قيادة لديها الرغبة الصادقة والإرادة الجدية في شق طريق الإصلاح والديمقراطية، فإن توفرت الأداة والإرادة المخلصة، فلا شيء يحول آنئذ من تذليل العراقيل والعقبات التي تقف في الطريق، بما فيها تدني مستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي، وبما فيها أيضاً طبيعة البنية الاجتماعية والثقافية الغالبة في البلدان العربية، والولاءات والعصبيات والمرجعيات المرتبطة بها والناجمة عنها.
هنا يبـرز دور السلطة وممارساتها، وفي أي اتجاه يصب ذلك؟ هل هو في تكريس وتعميق الانتماءات القبائلية والعشائرية والطائفية والمذهبية؟ أم في التخفيف من وطأتها والحد من تأثيرها، وصولاً إلى إنهاء مفعولها، (ولا نقول وجودها)لصالح الانتماء إلى وطن ودولة تحمي الجميع وتقوم على مبدأ المواطنة، الذي لا يميز بين واحد وآخر لأي سبب من الأسباب؟
لا ريب أن مستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي، والبنية الاجتماعية والثقافية الغالبة في البلدان العربية يشكلان أهم المعوقات التي تقف في طريق الانتقال إلى الحداثة، وبناء دولة القانون والديمقراطية، ولا زالتا تسهمان ببقاء مجتمعاتنا مفككة وضعيفة. وكذا الأمر في ما يتعلق بالاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، والضغوط والتدخلات الخارجية، بما فيها الاحتلال الأميركي الراهن للعراق، وهذه جميعها قضايا لا خلاف عليها وعلى دورها السلبي في واقعنا، إنما النقاش يدور حول دور السلطات، كذات فاعلة وقيادية، تشغل موقع المسؤولية الأول، وهي أثبتت بمعظمها أنها تفتقر إلى رؤية وطنية وقومية، وضرورة العمل من أجل المشاريع التحررية، والبـرامج التنموية والتحديثية، حيث ينصب اهتمامها وجهدها الرئيس، (والوحيد أحياناً) على إدامة بقائها واستمرارها في سدة الحكم.
والأنكى من ذلك كله، أنها تبدي استعدادها للمجازفة بكل شيء، شرط المحافظة على كرسي الحكم، ولم تبق أمام مجتمعاتها، المقموعة ومسلوبة الإرادة، سوى أحد خيارين، إما القبول بها بعجرها وبجرها، وإما الفوضى والحروب الأهلية؟!
عندما سئل صالح ولد حننا، الذي قام بثلاث محاولات عسكرية للإطاحة بالرئيس الموريتاني السابق معاوية ولد الطايع، عما إذا كان سينقلب مجدداً على الرئيس المنتخب، أجاب: <<لقد ولى عهد العمل العسكري، وبات متاحاً أمامنا أن نقاوم بطرق سلمية وديمقراطية>>.
إنها ثقافة مختلفة، يأمل المرء أن تتعزز وتترسخ، للحفاظ على أمثولة وتجربة يحتذى بها .
الجمل
إضافة تعليق جديد