رسائل هيدغر و حنة آرندت
إنتصار بوراوى:
في كتاب الرسائل المتبادلة بين حنة آرندت (1906_ 1975) والفيلسوف مارتين هيدغر (1889 1976) ، الذى صدر بترجمة المترجم المغربي حميد لشهب سيكتشف القارئ، بأنه يغوص في عالم من الفكر والمعرفة عبر قراءة الرسائل المتبادلة، بين عقلين عظيمين يتناقشان عبر رسائلهم في الفلسفة والأدب ،مع ملامسة للعواطف الجياشة التى ربطت بينهما بشكل وثيق ، تلك العاطفة التي شبت حين التقت حنة أرندات الطالبة في الفلسفة وهى في عمر 18 عشر بأستاذها الفيلسوف والأستاذ الجامعي مارتن هيدجرفي عام 1925، فأنجذب الفيلسوف هيدغر لتلك الطالبة التي رأى النبوغ في عقلها الفلسفي .
وعبر رسائله المتبادلة معها ،يناقش كثير من النصوص الأدبية ويضعها تحت مشرحة التحليل والنقد ومنها نصوص للوادمان وهولدرين ويرشدها إلى قراءة بعض الكتب الفلسفية، التي تعينها في دراستها وأبحاثها ويحدثها عن محاضراته، ويصف بأسلوب شاعري أجواء الطقس في الخريف بليله البارد ونهاره المشمس ،كما يقول في أحدى رسائله وهو يصف تذمره من كثرة المحاضرات الجامعية التى تثقل عليه في كتابة مؤلفه الفلسفى العميق الزمن الذى كان يعمل عليه في عام 1925 وهو نفس العام الذى التقى فيه بحنة آرندت وتم تبادل الرسائل بينهما .
المدهش والممتع في رسائل هيدغر، أنه يمزج حديثه العميق عن رغبته في إعطاء حلقة دراسية عن مؤلف كانط” نقد العقل الخالص” وطلبه منها أن تراجعها ثم يقفز ليسألها عن معدات التزلج على الثلج ورغبته في أن يتجولا معا على الثلج حيما تأتى من أمريكا لزيارته في ألمانيا.
الملاحظ من خلال قراءة الكتاب، أن الرسائل التي يبعثها مارتن هيدجر إلى حنة كانت بمعدل رسالة أسبوعيا، وأحيانا ثلاث رسائل شهريا في عام 1925 ولكن في السنوات التالية، أصبحت الرسائل تتم شهريا أو بعد بضعة أشهر حسب المنشور بالكتاب والتسلسل التاريخى للرسائل
يتحدث الفيلسوف مارتن هيدجر في إحدى رسائله إلى حنه أرندات عن العزلة التى يجب أن يعيشها كي ينجز أعماله بالقول:
“ماهو صعب جدا أن هذه العزلة لا يمكن تسويغها بما يعمله المرء لأنه ليس هناك أي مقاييس لذلك ولا يمكن اعتبارها بالنظر إلى مراجع الإنسان لكن على المرء أن يتحمل كل هذا بطريقة لا يتحدث بها حتى لأقرب الناس إليه”
ويستمر الكتاب في عرض رسائل هيدجر ،طيلة ثلاث أعوام دون أن نقرأ ردود حنة ربما لأنه لم يتم العثور علي رسائلها في السنوات الممتدة من عام 1925 الى اوائل عام 1928، حيث نقرأ أول رسالة منشورة بالكتاب من حنة الى هايدجر في ابريل عام 1928 التى كتبت له فيها عباراتها التالية المؤثرة :
” لا يمكن أن أصبح أنا حقيقة ، أننى لأعطى أكثر مما يطلبه المرء منى أما الطريق فليس شيئا أخر غير المسئولية التى يعطينى أياها حبنا سأفقد حقى في الحياة إذا فقدت حبك ولكن سوف أنسلخ عن هذا الحب وواقعه عندما أنسلخ عن المسئولية التى يفرضها على وإذا كان الله موجودا فمن الأحسن أن أحبك بعد الموت”
وتنقطع الرسائل المتبادلة بينهما في شتاء 1933 نتيجة تأييد الفيلسوف هيدغر للنظام النازي لفترة قصيرة ، ليستأنفا المراسلة من جديد بعد قرب نهاية الحرب العالمية الثانية وتراجع تأييد الفيلسوف مارتن هيدجر للنظام النازي حيث التقيا في عام 1944 ، وكانت أول رسالة بينهما في 7 فبراير 1950، وفى هذه الفترة يضمن هايدغر رسائله الكثير من كتاباته الشعرية ، حيث تطغى اللغة الفلسفية الذهنية على كثير من قصائده كما أنه لا ينسى أن يبعث لها في أخر كل رسالة تحيات وسلامات زوجته إلفريدا، وسلامه لزوجها وكما لو أن العلاقة التى بدأت بكثير من العاطفة تحولت إلى علاقة صداقة فكرية وروحية، يتبادل فيهما الاثنين الأراء الفلسفية والفكرية حول كثير من الفلاسفة والموضوعات الفلسفية وأخبار ترجمات حنة ارندات لمحاضراته وكتبه.
في عام 1969 تتم مراسلات بين زوجته وفريدا هيدغر وحنة آرندت وتطلب منها في رسالتها بيع مخطوط كتاب “الوجود والعدم “لهيدغر كي تتمكن مع زوجها هيدغر من اكمال بناء بيتهما الذي يشيدانه
ويتضح من خلال رسائل حنة ارندات مع زوجة هيدغر ، بأن العلاقة تحولت إلى علاقة صداقة بين العائلتين ، حيث تتكرر زيارات حنة ارندات مع زوجها لبيت مارتن هيدغر وزوجته وتجرى في الزيارة نقاشات فيها حول مخطوطاتهما وكتبهم الجديدة.
في عيد ميلاده الثمانين تكتب حنة ارندات مقالة طويلة عن فكر مارتن هايدغر وفلسفته وكتبه، وبامتنان ومحبة التلميذة والعاشقة لمعلمها واستاذها تكتب حنة آرندت عن مارتن هيدجر : إن حياته ومؤلفاته علمتنا ما هو التفكير ونصوصه ستبقى نموذجية للشجاعة على الجرأة للدخول للمفزع والكشف عن لا المفكر فيه “
وتمضى رسائل الكتاب في تبادل المناقشات بينهما حول مخطوطات هيدغر ومحاضراته ومخطوطات حنة ومؤلفاتها إلى ديسمبر من عام 1975 م وهو العام الذي توفيت فيه حنة ارندات، لتنطوي قصة حب بين عقلين فلسفيين كبيرين تركا خلفهما أرث فلسفي ضخم للبشرية وعلاقة حب شاسعة كبيرة تركت خلفها، رسائل شاهدة على عمق علاقتهما بكل وجوهها الغرامية والفكرية والروحية، رسائل جميلة ممهورة بحب وصداقة فكرية لم تنفصم إلى أخر نفس في عمرهما.
إضافة تعليق جديد