كيف ينتزع خبراء علم النفس المعلومات من القتلة؟
نشرت مجلة «سيكولوجي توداي» تقريرًا أعدَّته كاثرين رامسلاند، أستاذة في علم النفس الشرعي والعدالة الجنائية في جامعة «ديساليس» بولاية بنسلفانيا، سلَّطت فيه الضوء على الكيفية التي يستخدمها بعض الخبراء المتخصصين لاستخلاص المعلومات من القتلة المتسلسلين، مؤكدةً أن هذا الأمر قد يؤسس لمجتمع أكثر أمانًا وأقل عنفًا، والقاتل المتسلسل هو عادةً شخص يقتل ثلاثة أشخاص أو أكثر في حدثين منفصلين أو أكثر على مدى فترة من الزمن لأسباب نفسية في المقام الأول.
استهلت الكاتبة تقريرها بالإشارة إلى المسلسل الوثائقي Crime Scene: The Times Square Killer الذي عرضته منصة «نتفلكيس» مؤخرًا والمكوَّن من ثلاثة أجزاء عن الاتجار بالجنس في ميدان «تايمز سكوير» بمدينة نيويورك خلال السبعينيات من القرن الماضي، وكان من ضمن أبطال المسلسل ريتشارد كوتنجهام، وهو قاتل متسلسل كان ينفذ جرائمه بدرجة مذهلة من الوحشية.
وكان رجلًا متزوجًا وأبًا لثلاثة أطفال وأُلقي القبض عليه في عام 1980 وأُدين بارتكاب خمس جرائم قتل، وصوَّرت الحلقة الثالثة من المسلسل كيف اعترف كوتنجهام بمزيد من المعلومات في نهاية المطاف، على الرغم من أن المسلسل بالكاد أشار إلى الجهود المبذولة لتحقيق هذه النتيجة، وأدَّى عديد من الأشخاص أدوارًا مهمة في استخلاص المعلومات الجديدة منه، وليس المراسل المميز فحسب.
وقدَّم التقرير الذي نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية معلومات مفصَّلة عن الطريقة التي اتبعها روبرت أنزيلوتي، المُحقق في مكتب المدعي العام في مقاطعة بيرجن، في تنفيذ المهمة، وكان أنزيلوتي يلتقي بكوتينجهام طيلة خمسة عشر عامًا متحليًا بالصبر لتوطيد علاقته به، متوقِّعًا أن تطول اللعبة بينهما.
وفي بعض الأحيان كانا يلعبان الورق في مكتب أنزيلوتي ويأكلان وجبة البيتزا قبل أن يضغط على كوتنجهام بذكر معلومات القضية القديمة غير المحلولة، ولاحقًا ناقشا جرائم القتل المؤكدة، وبعد ذلك وضع أنزيلوتي يده على نقطة ضعف: وهي أن كوتنجهام كان يشعر بالاسترخاء وهدوء الأعصاب أثناء عودته إلى السجن بعد انتهاء التحقيقات، إذ كان يعتقد أنه نجا من موقف صعب، مما حفزه على التفوه بكلمات وتعليقات عشوائية كانت سببًا في تسريب تفاصيل صغيرة عن الجرائم التي ارتكبها.
طريقة الاعتراف تختلف من سفَّاحٍ لآخر!
يُوضِّح التقرير أن كوتينجهام اعترف في عام 2010 بقتل نانسي شيافا فوجل عام 1967 في ولاية نيوجيرسي، وبعد أربع سنوات، أقر بثلاث جرائم قتل إضافية بحق ثلاث نساء أخريات، وكشف في ربيع العام الماضي عن دوره في اغتصاب مراهقتَين من نيو جيرسي وقتلهما، وهما لورين ماري كيلي وماري آن بريور؛ وحتى الآن، بلغ إجمالي عدد ضحاياه ما بين 85 و110 شخصًا، وهناك ضحايا آخرون بحاجة إلى التثبت من ضلوعه في قتلهم، ومن الواضح أن هذا الأمر يتطلب مزيدًا من الصبر، واليقظة والقدرة على العمل في إطار إحساس القاتل بجرائمه.
القاتل المتسلسل ريتشارد كوتينجهام
ويرصد التقرير بعض أنواع السفَّاحين، فمنهم قتلة متسلسلين اعترفوا بسرعة بجرائمهم بمجرد إلقاء القبض عليهم، وربما كان خلال ساعات من ذلك، وعلى الفور يتبادر إلى الذهن أسماء بعضهم مثل إدموند كيمبر وجيفري دامر ودينيس رادير ودينيس نيلسن؛ بينما كان السفاحان جاري ريدجواي وتشارلز كولين يبرمان صفقات الإقرار بالذنب أولًا قبل الاعتراف بجرائمهما، وانتظر السفاح تيد بندي سنوات دون الإقرار بإدانته لكنه اعترف في نهاية المطاف بالجرائم التي ارتكبها مستخدمًا إستراتيجية فاشلة لإنقاذ نفسه؛ وأخيرًا لدينا نوع آخر من السفاحين مثل هنري لي لوكاس الذي اعترف بجرائم قتل لم يرتكبها.
وفي بعض الأحيان، يتذكر الجناة بطريقة انتقائية أو يُقرُّوا بارتكابهم الجرائم المُتَّهمين بارتكابها فحسب، وقد ينكرون أيضًا أي دور لهم على الإطلاق في هذه الجرائم، ومن الصعب معرفة أفضل الطرق المستخدمة للتعامل معهم لاستخلاص المعلومات التي يُمكن من خلالها تحديد أماكن الضحايا المفقودين وإغلاق القضايا غير المحلولة.
وفي هذا الصدد، يحاول جيمس جاربارينو، أستاذ علم النفس الإنساني، الذي أجرى مقابلات مع مجرمين قتلة على مدار أكثر من عقدين، إيجاد جانب المجرمين البشري حتى يتمكن من تفسير جرائمهم أمام المحكمة، ويعتقد جاربارينو أن الأذى الذي تعرض له أي قاتل من هؤلاء في السابق يُمكن أن يكون العامل المؤثر في دوافع القاتل لاحقًا لإلحاق الأذى بالآخرين؛ ولذلك يُصبح من المهم جدًّا في هذه العملية إجراء تحليل متعمق لمجموعة من الحقائق لعدة جوانب من حياة الجاني.
ويُجيب جاربارينو على سؤالٍ مفاده: ما هو المطلوب للإنصات فعلًا إلى القتلة؟ قائلًا: «أعتقد أن كل شيء يبدأ بالرفض المطلق لتخليهم وانفصالهم عن إنسانيتهم». وجرت العادة أن يتعاطف البشر مع غيرهم بصورة طبيعية: لكن هذا التعاطف مع القتلة يتطلب مزيدًا من الجهد اليقظ، ومع ذلك، يؤكد جاربارينو أن بذل هذا الجهد ضروري لأن «استيعاب دوافع القتلة وفهمها هو المفتاح للشروع في وضع أسس مجتمع أكثر أمانًا وأقل عنفًا».
جمع المعلومات من القتلة المتسلسلين
يتطرق التقرير للحديث عن سفاحٍ آخر يُدعى سام ليتل، الذي أُدين بارتكابه ثلاث جرائم قتل في لوس أنجلوس، وكان يقضي عقوبته، فسمع عنه المحقق جيمس هولاند، الذي اشتهر بموهبته في إجراء مقابلات مع المرضى النفسيين، في عام 2017؛ ونظرًا لقدرة ليتل على التحرك من مكان لآخر على مدار ثلاثة عقود واستهدافه ضحايا محطمين ومشردين لا يحظون إلا بقليل من الاهتمام، اعتقد هولاند أن عدد ضحايا ليتل قد يكون أكثر من ذلك بكثير.
من أشرطة اعترافات سام ليتل
وعندما قرر هولاند زيارة الجاني، لم تسر الأمور على ما يرام في البداية، لكن هولاند استمر في زيارته وأحضر له الحلوى، واستمع إلى انطباعات ليتل، وتأكيده أنه ذكي ومهم، وأثنى هولاند على أعمال ليتل الفنية، وقد حققت هذه الأساليب أهدافها عندما أشار ليتل إلى موقعٍ محددٍ، والتقط هولاند هذه التفاصيل، واستطاع تحقيق إنجاز في القضية.
وفي الوقت الحاضر، تخضع أساليب المقابلة التي أجراها هولاند للفحص والدراسة، ويقول بعض خبراء علم النفس إنه يستخدم وسائل تنطوي على مجازفة عالية لاستخلاص اعترافات كاذبة وإفساد مساحة الذكريات، ومع ذلك فقد تمكن هولاند من أن يدفع ليتل للاعتراف بـ93 جريمة قتل، وأثبت قوات الشرطة تورطه في 60 جريمة منها، وكانت قضايا عديدة قد قُيِّدت ضد مجهول، ومات ليتل العام الماضي، ولا تزال التحقيقات مستمرة.
وتستدرك كاتبة التقرير قائلةً: ومع ذلك، لا تتعلق مثل هذه المقابلات بالحصول على اعترافات والعثور على الضحايا المفقودين فحسب، لكنها تتعلق أيضًا بتجميع معلومات عن تفاصيل حياة القتلة التي يمكن أن نعرف من خلالها نقاط ضعف الجناة ومحفزات أعمال العنف والعوامل التحفيزية وإستراتيجيات اتخاذ القرار، وقد أجريتُ بنفسي هذه العملية مع دينيس ريدر المعروف بقاتل «BTK» الذي يرمز إلى «الربط والتعذيب والقتل»، واستغرق الأمر حوالي عامين قبل أن ينفتح على الحديث بالشكل الذي عاد بالنفع والقيمة على علماء الجريمة وعلماء النفس.
القتلة المتسلسلين وقائمة توصيات
تضيف الكاتبة أنها عملت مع ريدر لمدة ثلاث سنوات أخرى لتوثيق «رحلته المظلمة»؛ ونظرًا لأن بناء الثقة كان هو الأساس، استطاعت الكاتبة مساعدته في دراسة بعض المواد مثل النتائج التي توصل إليها علم الأعصاب بشأن أعمال العنف، ومن خلال هذه التجربة، التي أثمرت مادةً ثرية وواسعة، تعلمت دروسًا تمثل نهجًا مفيدًا في هذا الشأن؛ ولإعداد قائمة بنصائحي، أضفت معلوماتي العلمية إلى الخبرات المشتركة لمجموعة من خبراء الصحة النفسية الذين أجروا مقابلاتٍ مكثفةً مع قتلة متسلسلين.
* أولًا، ينبغي أن تُدرك أن هؤلاء القتلة يراقبون تصرفاتك وأقوالك، وأن معظمهم من المتوحشين الذين يغلب عليهم توخي الحذر والتأهب لمحاولات الخداع والاستغلال، فانظر إلى نهجك من وجهة نظرهم.
* الإعداد المسبق: تعرف على تفاصيل قضيتهم جيدًا، حتى تتمكن من اكتشاف الخداع، وكن مستعدًا للحديث عن تلك الجرائم بصوت مرتفع إذا لزم الأمر.
* كن منفتحًا ولا تصدر أحكامًا لكن مع الاحتفاظ بوضع حدود، والصرامة في عدم تجاوزها.
* كن على دراية بالمشكلات التي قد يواجهونها مع جنسك أو عِرقك أو مهنتك أو دينك، وابتكر طريقة استباقية للتعامل مع هذا.
* اكتشف المكافأة التي يسعون إلى الحصول عليها (الشهرة والاهتمام والسجائر وتعزيز الغرور النرجسي)، واستخدمها لحثهم على التعاون.
* استغل الأرضية المشتركة بينك وبينهم لتُشعرهم بالارتياح، وإيجاد وسائل لإظهار إحساسك بإنسَانيتهم.
* حاول التحدث في مناخ مريح أو على الأقل ابتدع سبلًا للاسترخاء.
* انتظر حتى تنضج الثمرة، من وجهة نظر أخرى؛ الصبر والمورنة قد يؤتيان ثمارهما. (على سبيل المثال، كان ملفين ريس، مرتكبًا خمس جرائم قتل، قد عاش مرحلة تحول روحاني جعلته يعترف لأحد المراسلين عام 1985 بارتكابه جريمتي قتل إضافيتين لم تُحل منذ ثلاثين عامًا).
* سيطر على الأمور ولكن دع القتلة يعتقدون أنهم هم المسيطرون عليها، ودعهم يتحدثون بحرية، لكن استمر في الضغط عليهم لاستخلاص بعض المعلومات إذا كان المجرمون غامضين أو أخْفُوا معلومات معينة، ويمكن أن يكون من المفيد أن تجعلهم يعتقدون أنهم يُقدمون هدايا وليس معلومات.
* ضع عينيك على أهدافك واحتفظ بها في بداية الحديث ومنتصفه، بغض النظر عن المدة التي تستغرقها العملية، ويمكنك مراجعة أهدافك إذا لزم الأمر، ولكن دوِّنها وذكِّر نفسك بها طوال الوقت، بحسب ما تختم الكاتبة تقريرها.
ساسة بوست
إضافة تعليق جديد