سورية في مواجهة مشروعين انفصاليّين كرديّ وتركماني
العميد د. أمين محمد حطيط
شنّت الحرب الكونية على سورية في العام 2011 وكانت تركيا في صدارة المعتدين بعد أن انقلبت على قواعد حسن الجوار ونكثت بكلّ المواثيق والتفاهمات الاستراتيجية مع سورية بما في ذلك الانقلاب على معاهدة أضنة التي كانت قد نظمت التعامل على الحدود بين الدولتين وأرست قواعد حفظ الأمن وصيانة السلم العام بينهما، ولكن تركيا انقلبت ونكثت بكلّ التعهدات وانبرت لقيادة العدوان على سورية مؤملة النفس بأن تسيطر على كامل سورية وتنطلق منها لإعادة إحياء الإمبراطورية العثمانية الساقطة قبل قرن من الزمن، ولذلك اتكأت على التنظيم العالمي للإخوان المسلمين ليكون أداتها ووسيلتها لتحقيق وتنفيذ هذا المشروع الامبراطوري العدواني.
بيد انّ الآمال التركية اصطدمت بالقوة الدفاعية السورية الذاتية والتحالفية، وفشلت تركيا في تحقيق حلمها الامبراطوري الشامل وسقط مشروع الاخوان المسلمين للسيطرة على المنطقة، لكن تركيا استمرت ممسكة بنوع من الآمال للتعويض عن فشلها، ورغم انّ روسيا مدت لها يد المساعدة لإخراجها من المأزق وارتضت بها لتكون أحد المكوّنات الثلاثة لمنظومة أستانة لمعالجة المسألة السورية، رغم ذلك استمرت تركيا محتفظة بمشروعها الخاص في سورية والإقليم مع تراجع في حجم ذلك المشروع وحصره باقتطاع أرض سورية (وعراقية إنْ أمكن) وإقامة منطقة تحت سيطرتها تؤوي فيه الجماعات الإرهابية العاملين بأمرتها كما وتنقل إليها بعض النازحين السوريين اليها بما يجعلها دائمة الحضور للتدخل في الشأن السوري، ولذا أطلقت مشروعها تحت عنوان «المنطقة الآمنة» او «المنطقة العازلة» ودعت «حلفاءها لمساندتها في إقامته».
لكن تركيا اصطدمت لدى شروعها في التحضيرات لتنفيذ مشروعها الجديد، اصطدمت أولاً ومباشرة برفض سوريّ حازم قاطع حيث فضحت سورية مخاطر العدوان التركي هذا، كما رفضه حلفاء سورية خاصة روسيا وإيران شركاء تركيا في منظومة أستانة، وكذلك لم تلاق الدعم والتأييد الذي كانت تعوّل عليه من حلفائها وشركائها في العدوان على سورية فطوت الملفّ وتظاهرت انها مستمرة بالالتزام بمخرجات أستانة التي تؤكد على وحدة الأراضي السورية وسيادة سورية عليها، لكنها في الميدان استمرت تراوغ وتعطل تنفيذ تلك القرارات الصادرة عن منظومة أستانة.
وفي الأيام الأخيرة ومع ما حصل من المتغيرات الدولية والإقليمية بعد العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا، وجدت تركيا أنه يمكن استغلال ذلك لإعادة إحياء مشروع المنطقة الأمنية أو المنطقة الآمنة، فأخرجت المشروع من الأدراج ووضعته على الطاولة للمقايضة عليه مستغلة طلب فنلندا والسويد الانضمام الى الحلف الأطلسي وحاجة أميركا الي امتناع تركيا عن استعمال الفيتو المسقط للطلب، وانشغال روسيا في أوكرانيا وحاجتها لبعض التقديمات التركية في ما خصّ الحركة في الأجواء التركية والمضائق الى المتوسط، وكذلك مدّعية حاجتها لدفع الخطر الكردي الذي يتعاظم نتيجة الدعم الأميركي للأكراد ودفعهم لإقامة الكيان الانفصالي في شمال شرقي سورية، مستغلة كل ذلك، استعادت تركيا تحريك مشروعها العدواني الذي يقتطع أرضاً في الشمال السوري بجبهة يلامس طولها الـ ٨٥٠ كلم بعمق يصل الى ٣٠ كلم (أيّ مساحة ٢٥٥٠٠ كلم٢ ما يعادل ضعفين ونصف مساحة لبنان) فهل تنجح تركيا في عدوانها البديل الجديد هذه المرة؟
لقد سارعت سورية بطبيعة الحال الى رفض المشروع التركي الخطير كما تؤكد سورية رفضها لأصل الاحتلال التركي والاحتلالي الأميركي والمشروع الانفصالي الكردي وترى فيها جميعها عدواناً وانتهاكاً لحق سورية في وحدة وسلامة أراضيها وانتهاكاً لسيادتها الوطنية عليها، وهي حقوق ضمنتها قواعد القانون الدولي العام وأكد عليها وضوحاً القرار الدولي ذي الرقم ٢٢٥٤ الذي تجري مباحثات العملية السياسية بمقتضاه، وأكدت سورية موقفها الصلب في رفض ذلك واستعدادها لمواجهته بكلّ الوسائل المتاحة السياسية والعسكرية والشعبية. ومع سورية تقف إيران وروسيا رفضاً للمشروع التركي، مع التلويح بموقف صارم اتجاهه في قمة قد يدعى اليها في إطار منظومة استانة قد تعقد في طهران او كازاخستان لإعادة إحياء المنظومة بعد تعثرها اثر بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، فإنْ لم تحصل القمة في طهران فقد يُستعاض عنها باجتماع للمنظومة في نور سلطان في كازاخستان انْ تمّ التوافق على ذلك خلال الشهر المقبل.
أما الأمم المتحدة فقد أدركت مدى خطورة المشروع التركي ومسّه بالحقوق الوطنية السورية وتعارضه مع القرارات الدولية، لذلك امتنعت عن الموافقة عليه لا بل صدر عنها موقف رافض للمشروع استبقت فيه مواقف دول الحلف الأطلسي التي يبدو أنها لا تزال تدرس المقايضة وتتمهّل في اتخاذ الموقف النهائي، فهل تتابع تركيا السير قدُماً في مشروعها وهل ينجح؟
أعود الى المتغيّرات الدولية التي قد تكون في جانب منها لصالح تركيا وتكون مساعدة لها في السير قدُماً في هذا المشروع، لكن لا أعتقد انّ الأمور ستسير بالشكل الذي تتوخاه تركيا ولا أعتقد أن سورية ومعها مكونات محور المقاومة وحليفتها روسيا سيسكتون عن هذا الأمر مهما كانت نتائج المواجهة خاصة أن نجاح المشروع التركي سيستتبع إكمال تنفيذ المشروع الكردي الانفصالي ما سيؤدّي الي فقدان سورية ما قد يصل الى ٤٠ ٪ من مساحتها وهو أمر من المستحيل السكوت عنه لما يشكله من انقلاب استراتيجي في المنطقة يفرغ النصر السوري ونصر محور المقاومة وحليقتها روسيا من محتواه.
لذلك فإنّ إصرار تركيا على مشروعها وإصرار أميركا على دعم المشروع الانفصالي الكردي، يعني وبكلّ بساطة تفجير الوضع في الشمال السوري وفي المنطقة والعودة السريعة الى الميدان بدءاً من إدلب وجنوبها مروراً بالشمال وصولاً الى الشمال الشرقي الذي يشهد تعاظم المقاومة السورية للاحتلال الأميركي واشتداد الانفكاك عن قسد ومشروعها الخيانيّ الانفصاليّ.
نعم إنّ سورية ومعها حلفاؤها لا يمكنهم السكوت عن هذا العدوان مهما حاولت تركيا تجميله او تبريره، وهي ستواجه المشروع التركي الذي يقتطع أرضها والمشروع الكردي الانفصالي الذي يقسمها، وستجد الى جانبها طبعاً حلفاءها في محور المقاومة وحليفتها روسيا التي رغم انشغالها بالملف الأوكراني فإنها لا تستطيع إهمال ما يجري على الأرض السورية. وهنا نسأل هل التعنّت التركي سيسقط منظومة أستانة بشكل نهائي؟ وهل ستنجح المقايضة التركية فتدخل فنلندا والسويد الى الناتو وتخرج تركيا بربح اسمه «المنطقة الآمنة» في سورية؟ رغم جدية الاحتمال بتحقق ذلك إلا أننا نرى ان المشهد الدولي والإقليمي والوضع في الميدان السوري أمور لن تسهل لتركيا النجاح في مشروعها الجديد، ومع ذلك نرى انّ سير تركيا قدُماً في مشروعها سيعني تفجيراً هاماً في المنطقة لن تستطيع تركيا السيطرة عليه.
البناء
إضافة تعليق جديد