من اليرموك إلى جدة: سوريا لم تبرح موقعها العربي المقاوم
بينما كان مخيم اليرموك الملاصق للعاصمة السورية دمشق يشهد استعدادات كبيرة ولافتة من نوعها بعد سنوات من المعارك والاشتباكات للاحتفال بيوم القدس العالمي برعاية ومشاركة رسمية وشعبية سورية، عُقد في مدينة جدة السعودية اجتماع “تشاوري” لوزراء خارجية دول “مجلس التعاون الخليجي” الست، بحضور وزراء خارجية مصر والعراق والأردن، وهو الاجتماع الذي دعت إليه المملكة العربية السعودية لمناقشة مسألة عودة دمشق إلى شغل مقعدها في الجامعة العربية بعد تجميد عضويتها منذ أكثر من 10 أعوام.
وفي القياس بين المشهد المقاوم في دمشق – اليرموك والمشهد السياسي في جدة، تكمن دلالات وإشارات كثيرة وكبيرة تُظهر موقع سوريا وموقفها السياسي الإستراتيجي المبدئي من جهة، وتكشف من جهةٍ أخرى بعض تفاصيل وأوجه ونتائج المسار الذي سلكته الأحداث على مدى 10 أعوام وأكثر، وصولاً إلى اجتماع جدة، أي أن مشهد اليرموك وحده كفيلٌ باختصار “مشوار” ومسيرة سوريا مع “أشقائها” العرب، ومع عموم الدول والحكومات في الغرب الاستعماري، وفي العالم التابع والخادم لها.
ولأن كل ما اختبرته سوريا بدأ من هناك، من اليرموك، من رمزية اليرموك، من مبدئية سوريا في القضية الذي يُمثل اليرموك أحد تجلياتها الكبرى، فإن تزامن الحدثين أعظم وأشد دلالة بكثير من أن يكون مصادفة في التوقيت أو تلاقياً عابراً على طريق عُمر هذه الأمة، بل لعل يداً خفيةً ماهرة حركت بأناملها ساعة الدهر العربي لتضبط هذا التزامن بكل معانيه ودلالاته بتلك الدقة.
عام 2012، وفي غمرة أحداث المشروع الأميركي الذي بلغ سوريا بعدما اجتاح المنطقة، تماماً كما في 2003 عند ذروة الغطرسة الأميركية التي بلغت أسوار بغداد بجيوشها الجرارة، مستخدمةً قواعدها العسكرية في بلاد العرب، وصل المندوبون والموفدون إلى دمشق ليعيدوا طرح مسائل “المقاومة وإلا” و”إيران وإلا” التي تختصر مسألة واحدةً وواضحة: “فلسطين وإلا”، على طاولة الرئيس السوري بشار الأسد، لتتردد أصداء عبارات الترغيب والترهيب بين جنبات “قصر الشعب” الرابض على كتف قاسيون، وفي زوايا كل بيت سوري من درعا إلى اللاذقية والمالكية.
من تلك النقطة تحديداً، من أول سطر “يوم القدس” في اليرموك السوري – الفلسطيني، الذي استهل حكاية مرحلته الجديدة بالرفض التام لكل مطلب يبتغي إبعاد سوريا عن موقعها الثابت مع فلسطين ومع قوى المقاومة في الداخل المحتل وفي المنطقة، بدأ كل شيء أفضى إلى ذلك المشهد الذي عايناه.
كان مشهد موفدي الحكومات العربية وهم يناقشون مسألة “عودة سوريا” إلى مقعدها في الجامعة العربية، بعد سنوات طويلة ومريرة من اشتغالهم موفدين إلى دمشق لنقلها من موقع فلسطين المقاوم والتحرري إلى موقع “الاعتدال” الأميركي المعادي لفلسطين وقضيتها (وقد عبر رئيس ما يُسمى بـ”المجلس الوطني السوري المعارض” عام 2012 عن هذا الهدف بوضوح على إحدى الشاشات العربية حينذاك).
وكان أيضاً مشهد “يوم القدس” في اليرموك يوم الجمعة 14 نيسان/أبريل، الذي يُنبئ بخبر نهائي مفاده أنَّ دمشق لم تبرح مكانها أبداً، ولم تُبدل جهة قلبها الوطني.
وبناء عليه، فإن الثابت في موقعه لا يحتاج إلى أن “يعود” إلى أي مكان، فالعودة هي وجهة المغادر لا المتجذر في موقعه وموقفه، فكيف وقد كلفه ذاك الرفض دماراً هائلاً وكارثياً، إلى درجة أن القدس ودمشق تقفان معاً اليوم لترفعا راية فلسطين فوق أنقاض يرموكٍ كان دماره إحدى النتائج الدموية التي وعد بها أولئك الموفدون آنذاك.
كان قسطاً منَ الـ”وإلا” تلك التي سمعها الرئيس السوري بشار الأسد عام 2003 وعام 2012، وعرف مغازيها ومعانيها يوم قرر وقررت دمشق الثبات والمقاومة حتى النصر، وإلى أنْ يشاء من يريد العودة إلى دمشق أنْ يعودَ، ليجدها كما هي وعلى ما قررت أنْ تكون عليه، مهما تكالب عليها الأعداء والخصوم والأدوات.
في يوم القدس الذي تُحييه قوى المقاومة من فلسطين إلى دمشق وطهران وبيروت وبغداد وصنعاء لإعلان الثبات في مسيرة مقاومة الاحتلال حتى تحرير فلسطين والأراضي العربية المحتلة، تشهد مدينة جدة السعودية اجتماعاً وزارياً لدول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن والعراق، لبحث موضوع عودة سوريا إلى مقعدها في الجامعة العربية، بعد مسارٍ سياسي عملت عليه روسيا منذ عام 2018، واشتغلت عليه سلطنة عُمان، ثم الإمارات، لتستلم الرياض دفته هذه الأيام، وسط حراك سياسي نشطٍ جداً ومزدحم في المنطقة، يتعلق بحلحلة الأوضاع وربط النزاعات واجتراح التسويات التي من المفترض أن تُخفف التوتر في المنطقة، بعدما أوصلها المشروع الأميركي إلى نقطة الانفجار بين الجيران الذين تُشكل الخلافات والعداوات بينهم منفعة أميركية – إسرائيلية في الدرجة الأولى، وضرراً كبيراً لشعوب المنطقة في الدرجتين الأولى والأخيرة.
وإذ تشير المعلومات إلى أنَّ “الطبخة” شارفت على النضوج، وأنّ القمة العربية المُزمع عقدها في 19 أيار/مايو المقبل قد تكون “تاريخية”، كما يصفها بعض المراقبين والسياسيين في الخليج والمنطقة، لجهة تحقيقها هذا الحضور السوري بعد أكثر من عقدٍ من الغياب، تتضارب التصريحات الرسمية العربية حول هذا الموضوع، بين ساعٍ إلى تحقيق هذا الأمر وإنهاء القطيعة الرسمية بين دمشق والعواصم العربية، وهو الموقف الذي تتبناه الرياض اليوم، وتُمثله أبو ظبي ومسقط وعمان والقاهرة والجزائر وتونس وبغداد وغيرها من عواصم عربية ترسم حدود مواقفها وفق الضغوط السياسية الأميركية والغربية عموماً، وموقف آخر يرزح تحت الضغوط والمصالح والظروف السياسية ويتأرجح بين الرفض والتحفظ والتوثب، وهو ما تمثله الدوحة والرباط والكويت.
وفي حين تسير الأمور نحو اتخاذ قرار حاسم سيقضي بتوجّه وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان آل سعود قريباً إلى دمشق لتسليم الرئيس السوري بشار الأسد دعوةً لحضور القمة العربية المقبلة في عاصمة المملكة العربية السعودية، سيبقى الموقف القطري من دون أثر يُذكر في القرار.
الدوحة التي ترى أنَّ “أسباب تجميد عضوية سوريا في الجامعة العربية ما تزال قائمة”، ترى مصادرها غير الرسمية والمقربة من دوائر الحكم فيها أنَّ سوريا “عائدة لا محالة إلى موقعها العربي”، خصوصاً أن مشروع إسقاط الدولة والنظام فيها فشل تماماً، وأن الواقع السياسي يقضي بعودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل 2011، وهو أمر ألمح إليه رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، حين قال في تصريح للإعلام القطري إن أيّ تغيير في الموقف من سوريا “مرتبط أساساً بالإجماع العربي”، وسط حديث قطري عن “شروط” تتعلق بعودة المهجرين إلى بلداتهم وقراهم، وهو أمر يعرف القطريون جيداً أن دمشق تطالب به منذ سنوات، في حين تمنع الدول الغربية وحكومات المنطقة المرتبطة بالقرار الأميركي هذه العودة، في سياق الضغط على دمشق واستمرار حصارها.
من جهة أخرى، تتحفّظ دولة الكويت عن قرار عودة سوريا إلى مقعدها في الجامعة من دون أنْ تُبدي أي مبررات لهذا التحفظ. وتشير المعلومات هنا إلى أن موقف الكويت مرتبط أولاً وأخيراً بالموقف الأميركي وضغوطه.
أما الرباط، التي تشغلها المناكفات مع جارتها الجزائر التي نشطت بقوة وبشكل إيجابي ومتميز جداً في المسار السوري، فتجد أنَّ الفرصة سانحة للضغط على دمشق لتغيير موقفها من قضية الصحراء والعلاقة مع “البوليساريو”، وهو أمر ترفض دمشق مناقشته تماماً.
كذلك، ترفض سوريا أيّ شروط أخرى أو مقايضات سياسية في مقابل ذاك المقعد أو التدخل بأي شكل من الأشكال في سياساتها الداخلية أو الخارجية، وهو أمرٌ عبر عنه الرئيس السوري بشار الأسد بوضوح في مقابلاته مع الإعلام الروسي في الآونة الأخيرة، كما عبر عنه وزير الخارجية السوري فيصل المقداد خلال زياراته وتصريحاته في الأسابيع الأخيرة، وخصوصاً زيارته الرياض قبل يومين فقط من عقد الاجتماع التشاوري في جدة.
وقد ناقش فيها مع المسؤولين السعوديين العلاقات الثنائية بين البلدين، ومختلف الملفات التي تهم الطرفين، ومسألة عودة مقعد سوريا تحديداً، والمعلومات هنا تشير إلى تقاربٍ كبير بين البلدين بعد اجتماعات أمنية ورسائل سياسية استمرّت أشهراً طويلة.
تريد الرياض أن تبدو في موقع من يُدشن مرحلة عربية وإقليمية جديدة، عنوانها التوحّد وحلّ النزاعات والخلافات، خصوصاً أن ولي العهد الأمير محمد بن سلمان يرى أن اللحظة السياسية العالمية مناسبة جداً له ليخطو نحو موقع متقدم في المنطقة، ويُحقق مشاريع تأجلت لسنوات طويلة بسبب الانخراط في مشاريع أميركية أحدثت ضرراً كبيراً للملكة قبل غيرها، وعلى رأسها الحرب على اليمن وسوريا والنزاع مع إيران.
ومن الواضح أنَّ خطوة التقارب الأخيرة مع طهران وتقدم العلاقة مع دمشق إلى درجة تبني مسألة إعادة المقعد السوري إلى أصحابه الشرعيين هي أبرز مفاتيح الحقبة السعودية الجديدة التي يريد ابن سلمان الولوج إليها والانطلاق منها نحو مرحلة مختلفة.
لا تُفكّر دمشق كثيراً في مسألة المقعد الخشبي في الجامعة، فهي تدرك العجز الّذي تعانيه تلك المؤسسة المترهّلة التي تحوّلت إلى أداة معادية لسوريا في وقتٍ ما، بل يهمّها ترتيب العلاقات مع الدول العربية من منطلقات وطنية وواقعية.
بينما كانت دمشق تحتفل مع القدس في اليرموك بالثبات على خط فلسطين، كانت تشاهد رفع العلم السوري في شوارع مدينة غزة الفلسطينية، تحمله قبضات المقاومين الشجعان، ليرفرف مع علم فلسطين فوق هامات الشعب الفلسطيني البطل.
جو غانم - الميادين
إضافة تعليق جديد