بيتر هاندكه: دون جوان
(من مقدمة سمير جريس مترجم الرواية )
ثمة شخصيات أدبية تولد ولا تموت. وعبر السنين تشهد هذه الشخصيات ولادات متعددة، فتكتسي في كل مرة شكلا آخر وبعدا جديدا. ومن أبرز هذه النماذج شخصية "فاوست" مثلا التي تناولها عديدون قبل أن يخلدها الشاعر الألماني غوته في ملحمته الشعرية. وبعد غوته شهد فاوست أكثر من ولادة، مثلا على يد الروائي المشهور توماس مان في "دكتور فاوستوس"، أو على يد بعض الأدباء العرب مثل توفيق الحكيم في "عهد الشيطان" و"نحو عالم أفضل".
ومن الشخصيات التي ما زال الأدباء والفنانون يعودون إليها شخصية العاشق دون "خوان"، إذا اعتمدنا النطق الإسباني الأصلي، وليس النطق الفرنسي الذي شاع في البلاد العربية. ويعتبر الكاتب الإسباني تيرسو دي مولينا (1571-1648) أول من تناول هذه الشخصية المؤسطرة أدبيا. دون خوان في الرؤية الإسبانية رجل مذنب لا يؤمن بإله، العشق عنده هوس ومس، لعنة لا يبرأ منها؛ إنه يغرر بالنساء ولا يتورع حتى عن قتلهن من أجل متعته، إلى أن ينال في النهاية عقوبته.
هذه الأسطورة الأدبية انتقلت عبر إيطاليا إلى فرنسا، حيث تناولها موليير في مسرحية مُثلت عام 1665. وبعده تعرض أكثر من أديب – مثل كورناي وبايرون وألكسندر دوما الأب – إلى هذه الشخصية التي أضحت رمزا أدبيا بامتياز. ويقارن بعض الأدباء في ألمانيا بين فاوست ودون جوان باعتبارهما وجهين للإنسان الأوربي، وكما نجد في مسرحية كريستيان ديتريش غرابه (قدمت 1829 على المسرح): فمن ناحية يرمز فاوست إلى إنسان الشمال العقلاني الطامح دوما إلى المعرفة والذي لا يتورع عن عقد صفقة مع الشيطان كي يروي ظمأه المعرفي، الإنسان الذي يتطلع إلى أبدية اللحظة، ويستعطفها قائلا: "تريثي قليلا، فما أجملك!"؛ أما دون جوان فهو تجسيد لإنسان الجنوب العاطفي الرومانسي الذي يعيش "الآن" و"الهُنا"، فكأنه على العكس من فاوست ينادي اللحظة قائلاً: سأعيشك مرة أخرى، فما أجملك!
ظلت شخصية دون جوان تجذب الأدباء، فعاد إليها ماكس فريش في مسرحيته الهزلية "دون جوان أو عشق الهندسة" التي مثلث عام 1953 في زيورخ، وقدم فيها الكاتب السويسري معالجة تسخر من هذه الأسطورة. لم يكن بطل فريش عاشقا وصائدا للنساء، بل شخصية نرجسية تلاحقها النساء، شخصية حزينة لا تعنيها الشهوة، بقدر بحثها عن المكابدات الروحية؛ دون جوان هنا هارب من العلاقات المزيفة المملة العادية، ومثقف يهجر عشق النساء ويستبدل به حب الهندسة. (...)
كما عرفت أسطورة دون جوان طريقها إلى دنيا الموسيقى، وخلدها موتسارت في "دون جوفاني" (عرضت لأول مرة في براغ 1787). في هذه الأوبرا جمع عبقري الموسيقى كافة أطياف التحولات التي تشهدها الروح البشرية المتوترة بين أعماقها الأرضية وذراها الميتافيزيقية. وقد اعتبر الفيلسوف سورين كيركغارد في مقالته "إما ... أو" (1843) دون جوان تجسيدا للشهوة في صورتها المطلقة، واعتبر أوبرا "دون جوفاني" التعبير الكامل عن "العبقرية الحسية".
بعد كل هذه المعالجات، هل بقي جديد يقدمه بيتر هاندكه في روايته هذه؟ ومن أي زاوية أمكنه الاقتراب من "دون جوان"؟
(من مقدمة ترجمتي لرواية "دون جوان" للكاتب النمساوي بيتر هاندكه التي صدرت داري "ممدوح عدوان" و"سرد"، وتصادف نشرها مع حصول هاندكة على جائزة نوبل للآداب 2019)
إضافة تعليق جديد