فتنة الكتابة ..المسافة ما بين الموهبة والكد
يقول بيكاسو «التقنية هي ما لا يمكن تعلمه في الفن» لطالما أضاءت هذه العبارة الطريق أمام أولئك الذين ينشدون الجودة الإبداعية على غير صعيد، وليس من المستبعد أن البعض اعتبرها إشارة متعالية صادرة عن فنان يلهمه الغموض المصاحب لعملية الإبداع أكثر من إفشاء أسرار خلق اللوحة.
في مجال الكتابة ربما يعدنا الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز بأمر مشابه، وهو الذي أشرف على إدارة ورشة كتابة السيناريو بين مكسيكو وهافانا، حيث يعتبر (غابو) أن عملية تركيب القصص وروايتها والتي أثير حولها الكثير من الجدل هي فقط ما يمكن تعلمه في ورش الكتابة، لكن كتابة قصة جيدة تبقى سراً من أسرار الكاتب. لذا فإن إرشادات الكتاب المحترفين ونقل خبراتهم يمكن أن تسهل مهمة الكتابة أمام الكتاب المبتدئين وتقودهم إلى جادة الصواب، إلا أن المسار الوحيد والممكن لكتابة قصة أو رواية جيدة هو ما تخلقه القصة أو الرواية ذاتها، ولا يمكن بحال من الأحوال اتباع وصفة جاهزة يقدمها أحد خبراء الكتابة. ربما يدفعنا ذلك إلى القول إن الكتابة مثلها مثل حزمة الضوء، يستحيل علينا منحها لأحد، إنما يمكن فقط الإشارة إليها.
ومع أهمية اكتساب المعرفة وصقل الخبرات في ميدان الكتابة بشكل عام، إلا أن الموهبة مازالت تشغل حيزاً أساسياً في تفوق كاتب ما على سواه، حتى لو استبدل بمفهوم الموهبة اليوم تعبيرات أخرى تخفف ماورائيته من قبيل حب الكتابة والإخلاص لها وممارستها بصبر وولع وأناة. ومع ذلك فإن شهادات المؤلفين وخبراء الكتابة التي يعرضها هذا الكتاب، فضلاً عن تضمنها قدراً كبيراً من الإمتاع والفائدة، فإنها تمنح الكاتب المبتدئ العدة الضرورية التي يتطلبها مشروع الكتابة، والذي يلزمنا الاعتراف أنه مشروع ذاتي في نهاية الأمر.
إن المهارة التي تجعل من الكاتب حاذقاً في التقاط ما هو جوهري وهو يعيد كتابة نصه على نحو أصيل ومؤثر، هي ذاتها الشحنة غير المرئية التي تنتقل إلينا وتجعلنا نهيم بنص ما فيما ننفر من آخر. ألم يقل ماركيز: «إن العالم ينقسم بين من يعرفون رواية القصص وأولئك الذين لا يعرفون ذلك، مثلما هو منقسم بشكل أوسع بين من يتغوطون جيداً ومن يتغوطون بصورة سيئة..».
كان غابو ينصح المشاركين في ورشة كتابة السيناريو قائلاً: «على أحدنا حين يكتب أن يكون مقتنعاً بأنه أفضل من سرفانتس، أما عكس ذلك فإن المرء سينتهي إلى أن يكون أسوأ مما هو في الواقع».
ربما كان ماركيز يهدف إلى رفع الروح المعنوية لأعضاء الورشة لتقليل خسائرهم حينما يواجهون اللحظات العصيبة والشاقة عند الشروع بتأليف الكتب. ففي حقل الكتابة الأدبية عامة والقصصية على نحو خاص سيكون من المفيد الاطلاع على تجارب الكتّاب العالميين والاقتراب من فهم عوالمهم، وكذا الطرق التي يعبرون فيها عن أفكارهم، مع الانتباه إلى خصوصية كل كاتب.
ولنا أن نستعيد مرة أخرى غارسيا ماركيز الذي تهمه عملية الإبداع أكثر من أي شيء آخر في هذا العالم، وهو يقول: «إن كل قصة تحمل معها تقنيتها الخاصة، والمهم بالنسبة للكاتب اكتشاف تلك التقنية. فعلى الدوام القصة موجودة، لكنها غير متاحة لشحيحي الخيال، إنها هناك تحت القشور والمظاهر الخادعة للواقع. لكن عثورك على خيط قصتك لا يعني أنك فزت بكل شيء، لأن صياغتها كحكاية جيدة هو التحدي الأشد صعوبة في الأدب عامة، مما يعني أنك بمواجهة ما هو جوهري في فن الإبداع القصصي أو السينمائي، إنها التقنية التي تجعل من القصة قصة وليس أي شيء آخر..».
سيعتبر البعض أن تلك كلمات ساحرة، هادية، لا سيما أنها لكاتب فذ أذهل العالم بحكاياته، وربما يراها البعض الآخر غامضة ومراوغة، لكنها بالنسبة إلى من جرب فعلياً الاشتباك مع شيطان الكتابة ستبدو أقرب إلى الحقيقة الماثلة التي تعيد تعريف الكتابة بوصفها فن تخليق الكلمات الدالة. إنها بالنسبة إلى آخرين أقل تفاؤلاً مازالت حيلة ذاتية جميلة لتسويغ الوجود الإنساني وتجرّع عبثيته، عرفتها البشرية منذ فجر التاريخ، فيما ورث عالمنا عن أسلافه نصاً أسطورياً بني على رصف الكلمات بذكاء ورشاقة وحكمة.
أي شيء آخر يمكن له أن يجلي أسرار الكتابة ويوثق عظمتها أكثر من كتب الأولين؟
***
بعض الكتب التي تعرض لعدد من الإرشادات والخبرات في مجال الكتابة الإبداعية يمكن عدها أحدى السبل الممكنة التي على المرء أن يتبعها إذا ما أراد أن يصبح كاتباً له جمهوره ومبيعاته. ولكن ما ينبغي الانتباه إليه في حقل الكتابة الإبداعية هو أن اتباع أية إرشادات مهما كانت قيمتها لن يخلق بالضرورة كاتباً جيداً. ذلك أن الجزء الذي يصعب الحديث عنه هو ما يمكن استدعاء جملة بيكاسو ثانية لتوصيفه.
عليك دائماً أن تكون ذاتك ولا شيء آخر. فأنت لست سوى كتابك.
ربما من المفيد الإشارة هنا إلى أنه حتى في ورش الكتابة التي تقيمها جائزة البوكر سنوياً فإن الكثير من الإرشاد الاحترافي للكتاب المشاركين لا يثمر إلا عن ولادة كاتب أو اثنين ممن يمتلكون أساساً مواهبهم الخاصة، ناهيك عن اندفاعهم الجاد للكتابة وصبرهم على مشاقها. فحتى الكاتب الموهوب لن يبلغ الجودة إذا لم يكن صبوراً بما يكفي، لأن الكتابة تشبه إلى حد ما صناعة طبق فاخر لمائدة مميزة.
لذا فإن من الأهمية بمكان التذكير بأن الخبرات التي يتضمنها هذا النوع من الورش رغم تنوعها، تشدد مبدئياً على أن الكاتب هو من يصنع مستقبله بمقدار جَلَده وتغلبه على العقبات التي تعترض خطواته الأولى في عالم الكتابة والنشر. وإن أغلبية من الكتاب يثمنون اليوم دور وسائل الاتصال الحالية في تسهيل مهمة النشر، فقد هيأت للكاتب فرصة النشر الذاتي عبر إنشاء المدونات الإلكترونية وتبضع الكتب بطرق سريعة وناجعة تلفت الانتباه إلى كاتب ما، وقد تضع أمامه بعض العروض الجيدة من قبل الناشرين.
في شهادته عن الكتابة يقول الكاتب ريتشارد بيترسون: «إن أغلب الوكلاء الأدبيين والمحررين والناشرين يدعي أنه لكي تقبل مخطوطتك الأولى للنشر وتنجح، يجب أن تكون كاتباً موهوباً وفذاً. شخصياً لا أعتقد أن الموهبة وحدها ستقودك لتصبح كاتباً مشهوراً, قد يكون ذلك صحيحاً في أزمنة مضت لكن ليس الآن، ما لم تكن محظوظاً فإن مخطوطتك الأولى لن تطبع. أيجب أن تكون ذا حظ وفير أو أن تكون مشهوراً مسبقاً لكي تجد لنفسك موقعاً في عالم النشر؟».
عبارة بيترسون هذه تلقي الضوء على جانب من التغييرات التي طالت ميدان الكتابة خلال عصرنا الراهن، فاقتناص الفرص النادرة أو ما يمكن تسميته (ضربة الحظ) قد تقود صاحبها – خاصة في الدول الغربية – إلى مصاف النجومية، والتي تعني شهرة أدبية ساطعة ونشراً عالمياً موفقاً. ولكن ما لم يشر إليه بيترسون هو أن الكتابة الجيدة حتى مع انعدام الفرص الكبيرة الداعمة قادرة أيضاً على الدفاع عن أحقيتها في تصدر المشهد الإبداعي ونيل ذلك الامتياز، مهما تباطأت حظوظها في الوصول إلى جمهور القراء.
يمكن القول إن الإبداع الحقيقي لا يمكن له أن يُغبن أو يبخس حقه. يذكر النقاد أن الرسام الهولندي الشهير فان كوخ لم ينل خلال حياته أي تقدير أو إشادة بفنّه العظيم، كما لم يبع خلال حياته كلها سوى لوحة واحدة بثمن بخس عن طريق أخيه ثيو، إلا أن ذلك لم يثلم من مكانته الكبيرة، مثلما لم يعطل تدفق إبداعه الفني الأصيل الذي مازال حتى يومنا هذا يبهج الناظر في شتى أرجاء العالم.
***
يتساءل غابو: أي سر هذا الذي يجعل مجرد الرغبة في رواية القصص تتحول إلى هوى يمكن لكائن بشري أن يموت من أجله؟
مجلة الرافد
إضافة تعليق جديد