استشراف الموت لدى الشعراء
عماد عبيد:
على الرغم من أن الموت هو الحقيقة اليقينية الحاضرة في حيوات كل الكائنات الحية، وبالرغم من حتميته وضرورته لاستمرار الحياة، إلا أنه يبقى السر الأكثر غموضا وإثارة للأسئلة، والشاغل الأكبر للبشريةِ حتى الآنْ، والأكثر احتسابا في التفكير الإنساني، وفيه انشغلت المعارف والعلوم بشتى أجناسها في دأبها للتعاطي مع هذا الفعل المفعول اللامناصة منه، وأخذ حيزا وافرا من مشاريع العلوم الإنسانية فضلا عن العلمية، وشغل همّ الفلاسفة فاعتبره (أفلاطون 472-347 ق م) بأنه (الأكثر إدهاشا في الوجود) ويرى (أسخيلوس 525-456 ق م) أن الموت هو (الخلاص من الحياة) فكان الثيمة الأبرز في (ملحمة جلجامش- 2100 ق م) التي تجادلت أحداثها بين بدية الموت ونيرفانا الخلود، ليستمر وجوده بالقوة – على رأي أرسطو- كأحد الثيم الأبرز في الحبكات الأدبية، وليبقَ السؤال المربك المحيّر: (إلى أينَ يذهبُ الموتى؟) بلا جواب مقنع.
هذا المصير البُدّي استشرفه الكثيرون من البشر بغض النظر عن مكانتهم وأدوارهم في منظومة الحياة، إلا أن النخب هم أكثر من دوّنوا تلك الاستشرافات في كتاباتهم وأعمالهم، وإذ أخص في هذا المقال الشعراء، فلأنهم الأكثر تصريحا و تلميحا عن الموت، ولأن الشعر لديه القدرة على الدلالة صراحة أو بالتورية والإشارة والتبطين من خلال أغراض النص الشعري ومدى انفتاحه على التأويل بأكثر من أداة، سواء عبر اللغة المباشرة أو باستخدام الصورة الحسيّة أو التخيلية أو من خلال تقنيات الانزياح والمجاز والإضمار وغيرها من الأدوات الفنية المستعملة في ورشة الشعر.
هذا المقال يعنى بالاستشراف المتوافق مع حالة المصادفة البحتة للموت وليس الحتمية المقصودة سلفا، بمعنى أن الموت انتحارا أو من خلال المخاطرة والمغامرة المنوية عن قصدية أو إصرار لا يعتبر استشرافا مهما دوّنَ الشعراء الميتون بهذه الطرق من شعر أو كتابات قبل موتهم المُراد، ولقد سبق للصحفية اللبنانية (جمانة حداد) أن أصدرت كتابا بعنوان (سيجيئ الموتُ وستكونُ له عيناك) وهو عنوان قصيدة للكاتب الإيطالي (تشيزاري بافيزي 1908-1950)، تتحدث فيه عن مئة وخمسين شاعر انتحروا في القرن العشرين، فهؤلاء كان الموت لديهم قرارا معلنا في قرائرهم مهما تعددت أو اختلفت الأسباب الدافعة لذلك، وبالتالي لا تكهن أو إحساس خفي بالموت لديهم، طالما كان خيارا ناجزا للوداع عن سابق نية وإرادة.
الشعراء المستشرفون للموت لم يذهبوا إليه، بل أتي إليهم، لكنهم حدسوه مسبقا وكتبوا عنه، كأنها نبوءة لم يكذّبها ملاك الموت، فما أن خاطبوه برهافتهم الشعرية وإحساسهم الشفيف حتى لبى النداء وأحيانا بالطريقة التي يذكرونها، كأنهم يرتبون موتهم ويعرفون أجلهم.
أول ما يخطر في البال الشاعر العربي (مالك بن الريب المتوفي عام 56 للهجرة) فارس بني مازن وزينتهم، الثائر على الدولة الأموية في عهد معاوية، والذي اختلفت الروايات في سبب موته، فقد جاء في (العقد الفريد) (لابن عبد ربه 860-940 م)، إن سبب الموت لدغة أفعى، ويذكر (الأصفهاني 897-967 م) في كتاب (الأغاني) أنه مات مريضا، ويقول (أبو علي القالي 901-967 م) في مدونته (الأمالي) أنه مات بطعنة أثناء حرب خراسان، ويبدو التناقض في تلك المرويات فاضحا، حيث يرجح بعض الباحثين أنه قُتل بسبب مناوئته لحكم معاوية الذي كان يخشاه، ليغلب الاعتقاد أن مالك كان يتوقع ذلك الموت، فكتب مرثيته الرابية على ستين بيتا يتحسس فيها ظروف موته ويعدد مناقبه ويصور وقع الموت على أحبته،
(صريعٌ على أيدي الرجال بقفزة/ يسّوون لحدي حيث حُمَّ قضائيا)
إلى أن يقول:
(غداةَ غدٍ يا لهف نفسي على غدٍ/ إذا أدلجوا عني وأصبحت ثاويا)
وتصل به الرؤية الاستشرافية إلى وصف قبره
(على جدثٍ قد جرّت الريح فوقه/ ترابًا كسحق المرْنباني هابيا
رهينة أحجار وتربٍ تضمَنت/ قرارتها مني العظام البواليا)،
ومن يقرأ تلك المرثية كاملة سيدهش من هذا الرثاء الشجي الدارك لأيلولة النهاية الذاهب إليها الشاعر.
شاعر إسبانيا العظيم، (فيديريكو غارسيا لوركا 1898-1936) الذي اغتاله الانقلابيون أنصار الجنرال فرانكو في ذروة شبابه وعطائه، وحتى الآن لم يُعثر على جثته بعد دأب حثيث، ومازالت إحداثيات ذلك الموت يشوبها بعض الغموض، وسبق للوركا أن تنبأ بموته، بل بالمصير الذي ينتظره لنقرأ في إحدى قصائده:
( وعرفت أنني قُتلتُ
وبحثوا عن جثتي في المقاهي والمدافن والكنائس
فتحوا البراميل والخزائن
سرقوا ثلاث جثث
ونزعوا عنها أسنانها الذهبية
ولكنهم لم يجدوني قط)
فإلى أي مدى وصل استشراف الشاعر بالموت، بل بمصيره بعد الموت واختفاء جثته.
ما يشابه حالة لوركا هو حادث الموت الذي غيب الشاعر السوري الدكتور(كمال خير بيك 1935-1980) وهو أحد أعمدة الحزب القومي السوري، الثائر النزق والشاعر المنتمي لقضيته، اغتيل في لبنان وكان أول من بارك هذا الاغتيال الإذاعة الإسرائيلية، وبعد موته وجدوا في جيب قميصه قصاصة ورقة تبغ مكتوب عليها:
(كنتُ ميتاً على الرصيفِ
وحولي وطنٌ هاربٌ
وقربي حصاني)
والذي يثير الاستغراب في موت خير بيك أنه انقطع عن نشر الشعر منذ عام 1965 بعد أن أصدر ديوانيه ( البركان و مظاهرات صاخبة للجنون) حيث أثارت تلك القصاصة سؤال الاستهجان، هل كان الشاعر على موعد مع هذا الموت حتى يكتب عنه؟
أمّا الحادثة الأكثر إدهاشا وإذهالا، فهي قصة رحيل الشاعر السوري (سلامة عبيد 1921-1984) فبعد إقامته في دولة الصين لمدة تزيد على العشر سنوات كأستاذ محاضر في جامعة بكين، عاد إلى وطنه الأم سوريا في 24 آذار 1984 وتوفي في اليوم التالي لوصوله إلى بيته، لتجد عائلته في إحدى جيوبه قصيدة تحمل عنوان (الله والغريب) كتب فيها:
(يا رب لا تغمض جفوني هنا
هنا قلوب الناس بيضاء وارضهم ماء وافياء
لكن بي شوقا الى ارضي
لجبل الريان والساحل
دعني اغمض جفوني هناك
حيث احبائي/ يذرفون الدمع لون دماء
ويعرف الرجال طعم البكاء)
وكأن الرب استجاب لهذا الدعاء، فتكحلت عيناه برؤية أهله وتحققت مشيئته بالموت على ثرى وطنه الذي تاق لأن يلم رميمه.
الشاعرة الروسية الأوكرانية (آنّا اخماتوفا 1889/ 1966) عاشت حياتها مقهورة ومعارضة للنظام الستاليني، عانت الكثير من القمع والمضايقات، ووضِعت تحت المراقبة والإقامة الجبرية، صحيحٌ أنه أعيد لها اعتبارها في سنواتها الأخيرة، وتم تقديرها عالميا وروسيا، فمنحت الدكتوراه الفخرية من جامعة أكسفورد، وحصلت على جائزة جمعية الكتّاب الأوربيين، وأقيم لها الكثير من النصب، وسميت المتاحف والمكتبات والساحات وحتى البواخر باسمها، إلا أننا نراها تستشرف الموت في عدد من نصوصها ويتجلى هذا القرار في قصيدتها (من يدي يأكل الحمام) حيث تقول:
(سوف تأتي في كل الأحوال يا أيها الموت
فلِمَ ليس الآن؟
انني انتظرك وقد نفد صبري
من أجلكَ أطفأتُ الأضواء وفتحتُ الباب
يا بسيطا كأعجوبة
فتعال من فضلك
تعال بأي قناعٍ ترغب)
سندرك من خلال هذا النص أن هاجس الموت يلازمها، فقد شغل مخيلتها منذ أن أصدرت ديوانها الشهير (قدّاسٌ لراحة الموتى).
وما يشبه حالة الشاعرة (آنا أخماتوفا) الشاعرة السورية (دعد حداد 1937-1991)، هذه الشاعرة التي لم تنصف لا في حياتها ولافي موتها، غلب على حياتها حب الاختلاف والتمرد والتطير من كل ما هو حولها، عاشت مشردة في نهاية حياتها حتى أنها تسولت رغيف الخبز، لكنها لم تتوقف عن زخ شعرها الموسوم بإيهاماته الغرائبية، وتحضرنا الدهشة عندما نعرف عنوان أحدى مجموعاتها الشعرية (تصحيح خطأ الموت) لندرك إلى أي مدى كانت مشغولة بهذا السر الرابض في طريقها، صدرت أعمالها الشعرية الكاملة بعد وفاتها عن دار التكوين بدمشق بعنوان (أنا التي بكيت من شدة الشعر) جُمعت فيها مجموعاتها الثلاث ( تصحيح خطأ الموت – الشجرة التي تميل نحو الأرض – كسرة خبز تكفيني) وتحتوي أيضا على قصاصات مصورة كتبتها الشاعرة في حالة إفلاس وصراع مع الحياة، نقرأ في إحدى القصاصات التي سبقت وفاتها بوقت ليس بعيد 26/6/1987 تقول:
(هذه الليلة تأتي متمهلة
حاملة آخر الذكريات
الليلة عرس الموت
والليلة ... ستقولون ...كانت!)
نعم سنقول كانت شاعرة مختلفة حاضرة بكامل عنفوانها وتتهيأ للموت بكل جرأة.
لم يغب هاجس الموت عن الشاعر العربي الكبير (محمود درويش 1941- 2008)، فبعد أن كان يخاطبه في أشعاره الأولى بوصفه شاعر الثورة والقضية، حيث الموت والشهادة تضحية منهجية، ومسيرة نضال لانتزاع الحق المغصوب، نراه في قصائده الأخيرة يعود إلى علاقته الذاتية مع هذا الغريم اليابس، ويتعامل معه بالحذر والانتظار، فبعد معاناة مع المرض وانتصاره عليه كتب محمود درويش قصيدته (الجدارية) يخاطب الموت بثقة الفائز في نزال صعب:
(ويا موْت انتظرْ، يا موت
حتي أستعيد صفاء ذِهْني في الربيع
وصحٌتي لتكون صيٌادا شريفا
لا يصيد الظٌبْي قرب النبع)
ويستأنف التحدي بقوله:
(هزمتْك يا موت الفنون جميعها
هزمتك يا موت الأغاني في بلاد الرافدين
مِسلٌة المصريٌ
مقبرة الفراعنةِ
النقوش علي حجارة معبدي
هزمتْك وانتصرتْ
وأِفْلت من كمائنك الخلود
فاصنع بنا
واصنع بنفسك ما تريد.)
بعد هذا التحدي بحوالي ثمان سنوات يكتب درويش نصا بعنوان (إجازة قصيرة) في مجموعته (أثر الفراشة) يتنبأ فيه باليوم الذي يموت فيه:
صدّقتُ أني متُّ يومَ السبت
قلتُ: علي أن أوصي بشيء ما
فلم أعثر على شيء
وقلت علي أن أدعو صديقا ما
لأخبره بأني متُّ
لكني لم أجد أحدا
نعم ... لقد رحل بعد عام من قوله هذا في يوم السبت التاسع من آب 2008، وبين هذا القول والرحيل أدرك الشاعر قساوة الند وضراوته، فهادنه وبدأ بالتودد إليه بعد أن حام حوله المرض وصار الموت يداوره في هواجسه وأفكاره، فكتب مرثيته في مجموعته الأخيرة (لاعب النرد) التي جُمعت بعد وفاته إذ يقول:
(ومن حسن حظِّيَ أَني أنام وحيداً
فأصغي إلى جسدي
وأُصدِّقُ موهبتي في اكتشاف الألمْ
فأنادي الطبيب، قُبَيل الوفاة، بعشر دقائق
عشر دقائق تكفي لأحيا مُصَادَفَةً
وُأخيِّب ظنّ العدم
مَنْ أَنا لأخيِّب ظنَّ العدم؟
مَنْ أنا؟ مَنْ أنا؟)
هنا كأن الشاعر قد استوى حدسه واستحال الخوف إلى حقيقة آتية لامحالة، فخاطب الموت خطابا عقلانيا جسوراً، فسلّمهُ الجسد، لكن الذكر المؤبد استعصى عليه.
ثيمةُ الموت تكررت كثيرا في كتابات الشاعر الفلسطيني الكبير (سميح القاسم 1939-2014) سواء في مجموعاته الشعرية أوفي سربياته أو كتاباته الأخرى، حتى تعنونت بعض مجموعاته بمفردة الموت (قرآن الموت والياسمين - الموت الكبير – أحبك كما يشتهي الموت – مراثي سميح القاسم)، لكن بقي شأنه شأن صديقه درويش في بداياته، يتعاطى مع الموت كوسيلة للوصول إلى مآله النضالي ودوره التضحوي لإدراك الخلاص العام، وهو القائل:
( في كفي قصفة زيتون
وعلى كتفي نعشي)
والمجاهر بتحديه للموت علانية:
( أنا لا أحبك يا موت
أنا لا أخافك
وأدرك أن سريرك جسدي
وروحي لحافك
أنا لا أحبك يا موت
ولا أخافك)
إلى أن تعرض لحادث مروري عام 2004 وغاب عن الوعي فترة كانت كفيلة بتغيير نظرته للموت، فرآه (أهون من قلع الضرس) ويكتب في نص له بعنوان (كولاج): (لا تنوحوا/ كلّ ما يعبُرُ وَهْمٌ
والذي يُقبلُ ظنّ
جرسُ الماءِ على صوّانةِ الليل يرنُّ
وعلى المعلوم عيْنٌ
وعلى المجهولِ عينُ
عَرَباتُ العُمرِ تنأى
وخيولُ الموتِ تدنو
لا تنوحوا)
ويمضي القاسم في هذه المجموعة – وهي من مجموعاته الأخيرة – مع الموت بصفته اللولب المحرك لحدثية الفكرة وجوهر القيمة الرؤيوية لمراد الشاعر.
ومن باب الاستشراف أيضا ما كان يهجس به الشاعر التشيلي الشهير (بابلو نيرودا 1904-1973) فنراه شبه متيقن أنه سيموت قبل حبيبته وزوجته (ماتيلدا أوريوتي) سواء من خلال رسائله إليها أو مما نظمه من شعر، ولئن بات من المرجح أن (نيرودا) اغتيل بالسمّ، بعد أن أثبتت التحريات الحديثة أن سبب الوفاة يعود لجرعة زائدة ذات طبيعة سمية تم حقنه بها بأوامر من السلطة الانقلابية التي قام بها الديكتاتور (بينو شيت) على الرئيس المنتخب ( سلفادور الليندي)، غير أن نيرودا الذي يعاني من أعراض سرطان البروستات، استشرف الموت السريع، وعرف أنه سيغادر قبل ماتيلدا فكتب مستبطنا هذا الرحيل:
(ماتيلدا، يا حبيبتي، دعي شفتيك منفرجتين
أنه بهذه الطريقة يمكن لقبلتك الأخيرة
أن تتبعني في الموت
سأموت معانقاً عنقود جسدك التائه
وحين ستتلقى الأرض عناقنا هذا/ سنمضي متحدين في موت واحد
وفي قبلة أبدية).
(حبيب الصايغ 1955-2019) شاعر إماراتي مرموق، شغل منصب رئيس اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات، والأمين العام للاتحاد العام للأدباء والكتّاب العرب، والعديد من المناصب والمسؤوليات الأخرى، تميز شعره بالتفرد المائز، وإليه تنسب قيادة حركة الحداثة الشعرية في الإمارات، ترك مجموعة من الدواوين تفيض بالقيمة الشعرية الرفيعة، (هنا بار بني عبس الدعوة عامة – التصريح الأخير للناطق باسم نفسه – ميارى – الملامح – اسمي ابني الردى – وردة الكهولة – كسر في الوزن ... وغيرهم)، تميزت بعض أشعار الصايغ بتكرار مفردة الموت كثيرا:
(راكضة
تموت أشجار الورد
وهي تطارد رائحتها المذعورة الهاربة
وتموت أشجار الصبار وهي جالسة القرفصاء
لأن ثمرة الحيرة بطيئة في النضوج
وعلى غير عادتها في الحياة تموت أشجار المشمش مستعجلة
حتى لا تؤجل موت اليوم الى الغد)
من مجموعته (رسم بياني لأسراب الزرافات) كذلك نجد هاجس الموت يراوده في مجموعته (وردة الكهولة) إذ يقول:
(قالت المشنقة لربطة العنق،
أنا موضة هذا العام،
الشجرة الخضراء
مشروع تابوت)
وفي لقاء له مع مجلة نزوى العمانية يعود إلى تشرين الأول 1997، يتحدث عن الموت باستفاضة ويقول:
( الموت عندي مرادف للحب، تظل في حياتنا سيرة ناقصة لحياة ناقصة لا تكتمل إلا بالموت، الموت هو تتويج لكل هذا الذي يحدث، الكتابة تمرين على الموت، أنا أتوقع أنني سأموت فجأة في يوم من الأيام)
ولكننا لن نستغرب كل هذا الاستثمار الشعري لثيمة الموت حين نتوقف عند اسم ديوانه (اسمي ابني الردى) فكأنه يعتبر نفسه أبا شرعيا للردى، وهذا الابن من ذريته المتناسلة.
في الرابع عشر من شهر حزيران عام 2021 غادرنا الشاعر الراحل الدكتور وفيق سليطين، وبعد وفاته وجدت عائلته في درج مكتبه ظرفا يحوي على قصيدة بخط يده (لم تنشر بعد) يرثي بها نفسه، سلمتها لصديقه الشاعر صقر عليشي يقول في مطلعها:
وقفتُ على أطلال نفسي مناشداً/ ظلالي على غصن الهواءِ المجرّحِ
كأنيَ من حصباءِ داريَ في البلى/ وبعض خيالٍ من خيالي المقرّحِ
ثم يتخيل نفسه مسجى في الرمس:
ومازلت في رمسٍ أسرّي ترابَه/ بأنفاسكم حتى غدا من جوارحي
فماذا يقولُ الرسم لو تنظرونهُ/ بقايا خطوطٍ من فؤادٍ مبرّحِ
وتمضي القصيدة في معراجها صوب مآل الشاعر المستشرف للموت القريب، يستدرج ذكرياته من صبوة الحياة إلى القضاء المحتوم، كأنها رحلة جسد ترك خلفه الروح هائمة تعدد مناقبه، خاتما مرثيته بالسلام على دنياه وما أودعه فيها من مآثر حب:
سلامٌ على دنيا الحياة التي بها/ تنسمتُ عَرْفَ الحبِّ في كل ملمحِ
ربما لو تابعنا التنقيب في كتابات الكثير من الشعراء سنجد حضورا لافتا للموت في نتاجاتهم الشعرية إما بالذكر المباشر أو بالرمز والدلالة، فالشعر لا يكتفي بالوصف والتصوير والتعبير العام، بل هو انعكاس للأحاسيس والرؤى والهواجس، ناتج عن شعور مرهف ومخيلة ساهمة إلى الحيز اللامرئي، مشغولة بالتساؤلات الصعبة، ورانية إلى الآفاق المحتجبة عن البصر والمحتاجة للبصيرة، وتلك مهمة الشعراء وابداعاتهم العامرة بالرؤية والرؤيا حتى يقاربوا هذيان الولادة، حين يداهمهم الوحي الشعري محمولا فوق أفراس رعناء، ترقل في الفضاءات العصية على التحليق، فيتجلى طيفه في الخلق الشعري المغاير لنمطية الأنساق المعروفة، هنا يصبح الشعر نبوءة الشاعر.
الموقف الأدبي
إضافة تعليق جديد