اللاذقية تقدم مفاتيحها للأديب ياسين رفاعية
احتفت مدينة اللاذقية بالكاتب الروائي الزميل ياسين رفاعية، وذلك بمناسبة العيد الفضي لمهرجان نيسان الأدبي، الذي يقام سنوياً منذ ربع قرن. سبق الاحتفال مقابلة تلفزيونية على الفضائية السورية في دمشق في العشرين من نيسان المنصرم، وكان موعد التكريم في المدينة الساحلية السورية في الرابع والعشرين من نيسان وقدمته الروائية السورية أنيسة عبود الفائزة بجائزة الرواية في مهرجان الرواية العربية الذي عقد أخيراً في القاهرة، وبعد أن حيّت الكاتبة زميلها الروائي في حضور كثيف وبإشراف رئيس فرع اتحاد الكتاب العرب في اللاذقية الروائي زهير جبور، قرأت كلمة مكتوبة، نقدم هنا خلاصة لها:
«هناك إشارات استفهام حول ما أعرفه عن هذا الكاتب المبدع ياسين رفاعية؟! يقول بروست إن الإنسان هو ذلك الكائن الذي يملك القدرة على أن يبدو بثوان معدودات أصغر مما هو عليه، إذ إنّ الزمن الذي عاش فيه يمتلكه ليطفو فوقه، إنما يطفو في حوض يتغير مستواه أبداً، فيجعله في متناول هذا العصر أو ذاك. ولا أظن أن بروست يقصد في ما يقصد سوى المبدع الذي يطفو على زمن وعلى أزمنة أخرى، يلتقط الثواني والأماكن والشخوص، ويرسل بها إلى عوالم سرية يفتح الكاتب أبوابها بمفتاح الزمن، ولا أظن قولي هذا سوى بداية تحية للمبدع الكبير ياسين رفاعية، وبداية سؤال مقلق عن الزمن الذي لم يستطع حتى الآن أن يجيب عليه رغم تنوع أعماله وكثرتها، وعلى الرغم من غوصه في الزمن حتى أنه بات يغرق فيه، وهو المبدع الذي يُغرق الزمن لا الزمن الذي يُغرقه، ربما انطلق من زمن الإبداع إلى زمن المبدع، لأنني رأيت الأستاذ ياسين رفاعية على الشاشة الفضائية السورية يشكو من الزمن، لكن الأستاذ رفاعية سبق له أن كتب أكثر من مرة عن الزمن وعن التأثر به وعوارضه وما يتركه من جراح في الروح والقلب، وهذا يعني أن الكاتب لا يمكن له أن يكتب لمجرد الكتابة، إنه يختصر المحيط بقطرة، ويختزل الحياة في تجربة. إنه هذا التوّاق الذي يحاول خلخلة الكائنات الصامتة، البائسة كي تصرخ وتحتج.. ياسين رفاعية القاص والروائي والشاعر والصحفي الذي قرأته أولاً في الصحف العربية فظننته لبنانياً، لا بأس، لكنني فرحت عندما عرفت أن هذا المبدع المتميز من سورية، ينضم إلى ركب المبدعين الكبار في بلدي والذين هم مفخرة للأدب السوري.
ياسين رفاعية ماذا لو لم تكتب «نهر حنان» و«رفاق سبقوا» ماذا لو لم تبدع «رأس بيروت» و«وردة الأفق» و«أسرار النرجس» التي فيها كل أسرار الحزن وأسرار الألم، لدرجة أن الألم يصير هو البطل، الذي يحوك الأحداث على نول الحياة ويخلخل العقدة وكأني بالألم يصبح شخصاً يشبه ياسين رفاعية، أو العكس هو الصحيح. ماذا لو لم تكتب «الحصاة» و«العصافير» فأين ستقف القصة السورية والعربية.. وأي جدار يسندها؟ ماذا لو تكتب رواية «الممر» التي ترجمت الى الإنكليزية وقصص «العالم يغرق» وكثير من القصص خصوصاً قصص الأطفال، كذلك الشعر والمقالات الصحفية والمشاركة في المؤتمرات الأدبية. ياسين رفاعية إنك تتخبط بالزمن منذ 1960 وحتى الآن، وتسبح في بحر الإبداع، لم تغرق ولن تغرق، المبدعون يبدعون باستمرار ويسيرون نحو صخرة الخلود.. ولكن هل يقنعك أن لديك أكثر من عشرين كتاباً في الرواية والقصة والشعر والمقالة؟ هل يرضيك أنك اشتغلت في مهن كثيرة، ومن ثم أصبحت سكرتيراً صحفياً في القصر الجمهوري أيام الوحدة مع مصر؟ وأسست مع فؤاد الشايب ونهاد الغادري مجلة «المعرفة» عام 1962 وما زالت تصدر إلى الآن، وفي بيروت انطلقت كطائر الرعد في الصحافة العربية وأنت تسكن في بيروت الجميلة، محجة الأدباء والمفكرين في عصرها الذهبي؟؟
وهأنت تعود إلى وطنك بعد غياب استمر 35 عاماً، وهأنت في دمشق تكرمك وفي اللاذقية حيث رتق في الأفئدة والقلوب.. فلماذا تشكو الزمن يا سيدي؟ فمن كان له كل هذا الإنجاز لا بد أنه قادر على وقف الزمن ولجمه وطرده خارج روحه، ألم تصنع ألماس ذلك الرجل الذي أصبح بطل روايتك «مصرع ألماس» والتي ستصبح مسلسلاً تلفزيونياً، ألم ترم بقشور المحرّمات بروايتك «أسرار النرجس» فلماذا نقرأ الكثير من الأسى في «وميض البرق» حيث ترصد فيها تحولات الجسد والزمن والمكان، فهل الزمان مفزع إلى هذه الدرجة، لعل السبب فقدانك رفيقة عمرك أمل جراح وابنتك الشابة لينا، نعم يجوز ذلك، وها أنت المبدع الذي أثار الزوابع في أدبه ومقالاته وأحدث ضجة وأثار أقلام الكتاب مدحاً وقدحاً حول الشاعر الراحل محمد الماغوط.. إذاً، أنت لا يجوز أن تفزع في عصر الزمن. قُدْه أنت، وسرْ به لأنه سيتبعك».
وختمت كلمتها بالتالي: «يقول ياسين رفاعية: «أنت تأتي إلى الحياة يعني أنك في المحصلة النهائية سوف تموت»، و«أشعر هذه الأيام وقد فقدت أعز مخلوقين على قلبي أن المستقبل أصبح مغلقاً في وجهي، بل أصبح نفقاً مسدوداً لا رجاء فيه، وأن لا جدوى من المقاومة».
إن ياسين رفاعية على الرغم من الآلام التي عاناها على مدى نصف قرن، يُعد الآن من الأسماء القليلة البارزة في أدبنا العربي السوري تحديداً، وقد أضاف نقلة نوعية في القصة والرواية، إنه بكل ما كتب يُنّقي ويُطهّر أرواحنا، ويمكننا بمعونته الارتكاز على الإبداع والكتابة، فنصمد في وجه هذا الزمن الظالم والإنسان الطاغي أكثر، الإبداع وحده يسبح في عليائه في هذا الزمن الرديء».
الموهبة جوهرة مكنونة
بعد ذلك ارتجل الكاتب رفاعية كلمة فتحدث عن مصادر الكاتب. وقال: «أولاً، إن الموهبة الموجودة لدى قلة من الناس جوهرة مخبوءة تحتاج بداية إلى الثقافة في أكثر من مجال. الثقافة تصقل الموهبة وتدفع بها إلى الإبداع، لا يمكن للموهبة وحدها أن تبدع وإلا فإن ما يكتبه الكاتب معتمداً على موهبته فقط لن يأتي بجديد، إن الكتابة مهنة صعبة جداً، صعوبتها في أنها لا تخرج من عدم، لذلك على الكاتب الموهوب أن يقرأ كل شيء، ويطلع على الآداب العالمية».
وأضاف: «أنا شخصياً قرأت كل شيء، من الروايات البوليسية إلى الأدبين الروسي والأميركي، قرأت بشغف كل أدبنا العربي وشعرنا العربي، بل لا أبالغ إذا قلت إنني كنت أقرأ كتاباً كل يوم».
وتحدث رفاعية عن المهن العديدة التي عمل فيها في بداية شبابه وقال: «فيها رأيت وعرفت وعشت مآسي لا حصر لها، لاسيما من العمال الذين عملت معهم، وكان هؤلاء أولاً مصادر كتابتي، كان لي صديق في الحي يعمل ماسح أحذية، وكانت قصة حياته محزنة للغاية، وكان كل يوم يروي لي نتفاً من هذه الحياة المريرة، فكانت أول قصة كتبتها عنه هو بالذات بعنوان «ماسح الأحذية» أرسلتها إلى مسابقة للقصة القصيرة في مجلة تصدر في العراق كان يرأس تحريرها جبرا ابراهيم جبرا، وفازت بالجائزة الأولى، فتقاسمت قيمة الجائزة مع ماسح الأحذية نفسه، وفوجئت منذ فترة أن التلفزيون التونسي قد أنتجها فيلماً تلفزيونياً ما زال يبث إلى يومنا هذا، وهذه القصة وهذا الفوز هما اللذان شجعاني على الكتابة، فأصدرت أول مجموعة قصص لي عام 1960 بعنوان «الحزن في كل مكان» ثم أتبعتها بمجموعة «العالم يغرق» عام 1963... وعندما انتقلت إلى بيروت توقفت عن الكتابة حتى عام 1974 حين أصدرت أول مجموعة قصص لي في بيروت نشرت بعنوان «العصافير» أحدثت ضجة في الوسط الثقافي اللبناني، وأعيد طباعتها في ما بعد ثلاث مرات...
كانت مصادري في الكتابة أوساط العمال والفقراء و«قبضايات» الأحياة الشعبية الذين كنت أعتز بالتعرف إليهم، بل كدت في شبابي أن أقلدهم حتى في اللباس الشعبي والطاقية البيضاء وبرم الشوارب، هؤلاء تعلمت منهم الكثير وكانوا أبطالاً وعظاماً رغم أنهم كانوا أميين لا يقرؤون ولا يكتبون، قاوموا الاستعمار وساعدوا الفقراء ولاسيما الأيتام والنساء الأرامل.
وتعرفت على طبقة المثقفين فلم يثرني في أي شيء في الكتابة، كان معظمهم مزيفاً، يدعون ما ليس فيهم.
الحياة برمتها كانت مصدري في الكتابة».
كلمة رفاعية استمرت نحو الساعة تقريباً، ثم تحول اللقاء إلى نقاش حول أدب القصة عموماً وأدب رفاعية نفسه.
وكان الاحتفال قد نقله تلفزيون اللاذقية كما أجريت مقابلة مع رفاعية عقب الاحتفال تحدث فيها عن الصحافة الأدبية وانحدارها، بثت عن تلفزيون اللاذقية ثم من البرنامج العام.
وأقيمت للكاتب حفلات تكريمية عدة خصوصاً حفل عشاء اتحاد الكتاب في مبنى الاتحاد في اللاذقية، ومُنح أثناء التكريم درع المهرجان.
وأحاطه خصوصاً الكاتب المبدع ورئيس فرع الاتحاد في اللاذقية الأستاذ زهير جبور برعاية مميزة تركت أبلغ الأثر في نفس كاتبنا وزميلنا ياسين رفاعية.
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد