فواز حداد:تاريخنا لا يتكرر بشكل هزلي بل بصورة تزداد تطرفاً ودموية
احترف فواز حداد الكتابة متأخراً، عمل في مهن غريبة عن الكتابة؛ درس الحقوق، وعمل في استيراد الآلات الصناعية وفي الصيدلة، لكنه اكتشف دائماً أنه لم يضيّع الوقت، فكل ذلك صبّ في مصلحة الرواية، وهو، كما يقول هنا، لم يكتشف ثراء تجربته تلك إلا في الكتابة. ورغم تأخره (المزعوم) استطاع حداد أن يستحق اسمه منذ عمله الأول. ولأنه لم يهادن، لا التاريخ ولا السلطة ولا الواقع، راحت أعماله تمنع، الواحدة تلو الأخرى. وقد وصلت إحدى رواياته الممنوعة (المترجم الخائن) أخيراً إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية. لا يكترث حداد للرقيب، فهو يؤكد أن ما هو ممنوع اليوم سيمرّ غداً. لكنه يكتب، مصراً على التحديق في »الآن وهنا«، وداعياً المثقف في كل أعماله إلى دوره ومكانته. ومن فرط تحديقه في الواقع الراهن، كتب حداد كما لو أنه يسمي الأشياء بأسمائها، وكأنه أيضاً استغنى كلياً عن الخيال في الكتابة، لكنه يصرّ: من الخطأ الظن، أن الخيال مهمته التحليق عالياً فحسب. هنا حوار معه:
÷ قُدمتْ أخيراً روايتك »تياترو ١٩٤٩« عملاً مسرحياً، كيف نظرت إلى التجربة، وماذا يعني لك عموماً أن تلبس أعمالك أشكالاً فنية أخرى (نعرف أن فيلماً قد يصوره حاتم علي عن »موزاييك«، ومسلسلاً يصوّر عن »الضغينة والهوى«)؟
﴿ عندما تذهب الرواية إلى السينما أو التلفزيون والمسرح، فهذا يعني أنها ستصبح طوع شكل فني مختلف. لم أتوقع أن أرى روايتي تتجسد على المسرح، كما أنا أرغب، بسبب كثرة أحداثها وتعدد الأزمنة وتنوع المكان والشخصيات. لم يكن لديّ اعتراض، ولست حريصاً على روايتي. كنت راغباً في رؤية ما الذي سوف يظهر منها. قدّم المخرج عملاً جميلاً وجيداً، وإضافاته أعجبتني، لا سيّما الخاتمة التي تختلف عن خاتمة روايتي، وأهنئه عليها، لكنه ضحّى، تحت تأثير استعراضه، بالحدث وإمكانيات تأثيره، وهنا صعوبة الفن وقدرته؛ ألا نقدم شيئاً على حساب شيء، الفن انسجام بين الفكرة والشكل.
ومهما يكن، فالتجربة كانت جديرة بالتأمل، فهي تمثل المسرح اليوم وعلاقته بالرواية، وهي تختلف عمّا عرفته من قبل، عندما كان المخرج يحاول تجسيد فكرةٍ جوهرية للعمل الأدبي، في حين أن في ما رأيته يبدو وكأن هناك تنازعاً بين الاستعراض والحدث الروائي، وما دام الأمر عائداً إلى المشهدية، فالغلبة للاستعراض وجمالياته وله الأولوية، وبالتالي ما الذي بوسع الرواية أن تقدّمه له سوى بعض الذرائع. مع أنه كان بوسع »تياترو« أن تقدم الكثير، لكن هذا كان عائداً لتقديرات المخرج، وما الذي يريده منها بالفعل.
اليوم، عندما ترتدي الرواية شكلاً فنياً آخر، تُبنى علاقته بالمخرج وكاتب السيناريو أو المعدّ، وهم المسؤولون عنه، أما أنا فتتحدّد مسؤوليتي بكتابي. وإذا سألتني، هل أنا راضٍ عن هذه التجربة، فجوابي هو أنني ككاتب لا أستطيع تصوّر روايتي إلا بالشكل الذي كتبته بها.
÷ وصلتْ روايتك »المترجم الخائن« إلى القائمة القصيرة للبوكر العربية، كيف تنظر إلى الجائزة، التي أثارت جدلاً واسعاً، العام الماضي، كيف تنظر إلى وصولك إلى البوكر، كيف ترى روايتك إلى جانب الروايات التي وصلت معك إلى القائمة القصيرة؟
﴿ إن فكرة وجود الجائزة على المستوى العربي أمر جيد بحدّ ذاته. إنها تعني بشكل ما إظهار الرواية العربية بحمولة ذات وزن معتبر. لكن، ولكي تحافظ الجائزة على مكانتها ومصداقيتها، المطلوب من المشرفين عليها التقيّد بمعاييرها وشروطها، ما يغلق الباب أمام الكثير من الجدل، لا سيّما عدم النظر إلى التوزيع الجغرافي، برصد حصة لكل دولة، أو مكانة الكاتب ومجمل أعماله، وإنما إلى الرواية نفسها، كاعتراف بتميّزها، رغم أنها لا تمنح الكاتب رخصة دائمة على الجودة.
إن جدية الجائزة تشجع الروائيين على أن يبذلوا أفضل ما عندهم. وتقدّم لهم تقديراً لجهدهم هم بحاجة إليه. كما أنها تشكل إفلاتاً من سطوة جهات ثقافية رسمية وشللية، لا تعترف إلا بالأسماء المعروفة التي كرّسها الزمن لمجرد تواجدها في الوسط الثقافي. أعتقد أن روايتي، ومعها الروايات التي وصلت إلى القائمة القصيرة، تمثل جزءاً من المشهد الروائي العربي، وليس كله. المشهد أغنى من هذا بكثير، والقائمة ليس بوسعها احتواؤه، بسبب كونها قصيرة. القائمة الطويلة كانت الأقرب إلى تمثيله.
التأخر
÷ لماذا تأخرت في احتراف الكتابة إلى هذا الحدّ؟
﴿ حسناً، لقد اتخذت قراري بالنشر وأنا في حوالى الأربعين من العمر، ولتأخري أسباب كثيرة، لا سيما أنني قد بدأت الكتابة وأنا في سنّ المراهقة لم أبلغ بعد الرابعة عشرة من عمري. منذ ذلك الوقت لم أنقطع عن الكتابة. أما القراءة ففي السابعة من عمري، لم أتوقف بعدها عن التهام مكتبات بكاملها. وما أعاقني أيضاً أن تهيّبي من النشر، مردّه كوني متابعاً دؤوباً لحركة الرواية العربية والعالمية، ما جعلني أدرك ماذا تعنيه الرواية الجيدة. ولذلك عندما عزمت على النشر أهملت كل ما كتبته، وكان قد قارب خمسة عشر عملاً، بين قصة ورواية ومسرحية وسيناريو سينمائي.
بالإضافة إلى ما سبق، وهذا مهم جداً، متطلبات الحياة، تأمين سكن ودخل معقول، ثم الزواج والأولاد، خاصة أنني لم أرغب في التوظف لدى أية جهة. لم يرضني أي عمل، إلى أن نجحت بتأمين عمل لا يتطلب دواماً كاملاً، فتوفر لدي الوقت لأكتب خلال الساعات المتبقية من اليوم، واستطعت بعد ما يزيد عن عشر سنوات بقليل أن أنجز ستة أعمال من ضمنها مجموعة قصص قصيرة، نشرت على التوالي، ولم تمض أي واحدة منها بصمت. أعتقد أنني أحسنت التصرف، واستطعت بناء تجربتي الروائية بكثير من التأمل والأناة والحرية، دون ضغوط من أية جهة، اللهم إلا ضيق الوقت. عندما تمكنت من تأمين الحد الأدنى لمتطلباتي الشخصية، تفرغت كلياً للكتابة.
أحياناً تقال هذه المعلومة عني، وكأنها انتقاد، بمعنى أنني دخيل على الوسط الأدبي، وأن هذا الوسط حكر على الذين يعملون في الصحافة الأدبية، والناشطين في المجال الثقافي. لكنه انتقاد في غير محله وقصير النظر، لا أريد الاستشهاد بعبد الرحمن منيف أو ساراماغو وغيرهما كثير. وإنما أقول لقد نجحت من خلال ظروفي الصعبة في البقاء على قيد الكتابة، وكتبت أشياء أعتز بها، بلا مساومات أو تنازلات، ودون الانصياع والتزلف لأية جهة، مهما كانت هذه الجهة. لقد دفعت ثمن الحرية التي أكتب بها، وأنا سعيد بما توصلت إليه، وجادٌّ فيما أرغب في تحقيقه على الرغم من التجاهل والانتقادات التافهة.
÷ كيف تخدمك تجربتك في اختصاصات أخرى في كتابة الرواية؟ هل كنت تعيش تلك الاختصاصات والتجارب بعين الروائي؟ أم ماذا؟
﴿ تخرجت من كلية الحقوق في جامعة دمشق، وكنت مصمماً على ألا أعمل في سلك المحاماة، ولا التوظف في أي عمل إداري لدى الدولة. كانت تجربتي مع القضاء في مرحلة مبكرة من عمري مخيبة جداً، من خلال قضية صغيرة؛ إخلاء منزل استغرق أكثر من عشر سنوات! حصلت على شهادة الحقوق لمجرد نيل شهادة عالية. فيما بعد أدركت كم استفدت من دراسة القانون، تأثرت من دون أن أدري بالتكييف الحقوقي والمنطق القانوني، سواء من ناحية الدقة والإيجاز، أو التكثيف والإحكام في الصياغة، وشمول القانون لحالات متنوعة تشق على الحصر. لم تضع دراستي هدراً. ومثلها تجاربي في العمل الحرّ، في مجال الاستيراد، ما أتاح لي التعامل مع الشركات الغربية. وكانت الصدمة الحضارية واقعية، لا سيما وقد عملت في استيراد الآلات الصناعية. وكانت أيضاً واقعية جداً، عندما أدركت أن الغربيين مثلنا، جيدون ورائعون، شرفاء ومستقيمون، ومنهم على خلاف ما نعتقد، كاذبون ولصوص، حقيرون وقذرون. كذلك عملي في مجال الصيدلة الذي أتاح لي لقاء المئات يومياً، كل واحد منهم يشكو من مرض، قد يكون مستعصياً أو وهمياً، وأحياناً حقيقياً. وتشكيل علاقات عابرة، منها علاقات ممتازة حافظت عليها.
لا تكتشف ثراء تجربتك إلا عندما تكتب. أما عندما تعيش، فإنك تعيش فحسب. لم أتصور مثلاً أن تجربتي في السجن، وهي تجربة بسيطة جداً بالمقارنة مع غيري، (حوالى شهرين في سجن القلعة بدمشق، بتهمة وحدوي ناصري)، كانت في منتهى العمق والإيلام والرعب، شكلت ولم أكن قد بلغت السادسة عشرة من عمري بعد، بصمة قوية في داخلي، لم أبرأ منها إلا بعد زمن طويل.
التاريخ
÷ تعتبر أعمالك نوعاً من التوثيق لسورية الحديثة، هل تعمدته؟ ما حدود التوثيق وما حدود الخيال؟ هل تستلزم أعمالك عادة بحثاً خاصاً عن الوثيقة التاريخية؟
﴿ هذا الأمر لم أتقصده. اضطررت للذهاب إلى التاريخ، لأن هناك أسئلة لا يمكن أن تعثر على جواب عنها إلا هناك. أحياناً لا يترك لك الواقع خياراً، ويفرض عليك ما الذي تكتبه. في بداية عملي الروائي سيطر عليّ إحساس بأنني أعيش في وطن لا مكان لي فيه. وأنني إذا أردت أن أفهم ما يجري من حولي، فلا بدّ من جردة حساب قاسية ينبغي القيام بها، بالنسبة إلى حاضر مترد. أسئلة المستقبل أرغمتني على قراءة التاريخ. لم أرغب في إعادة الاعتبار للماضي، وإن كان هذا قد حدث في رواياتي، بل في التعرّف عليه، واكتشافه، الذين لا يهتمون بماضيهم، لا مستقبل لديهم. ما استدعى أن يكون ما أكتب عنه موثقاً، أي العودة إلى أكثر من مصدر للتأكد من صحته. والأهم ليس أن حصة الخيال فيه كبيرة، بل إنه وحده، يؤلف بين أجزائه الممزقة ويلملم أشلاءه، لولاه لما كانت الرواية.
لم أكتب جديداً، عدت إلى التاريخ المكتوب، وإن استنتجت في بعض الأحيان أشياء مختلفة. ما أعرفه وحسب تجربتي، أن جهد الروائي أقلّ توثيقاً وحذراً وأكثر انتقاءً واجتزاءً، مما تتطلبه أمانةُ المؤرخ. وإذا كنت قد رصدت في رواياتي الأولى، ظهور العسكر والمثقف الوطني، فمن خلال تاريخ لم يتكرر بشكل هزلي، بالعكس كان يتكرر بصورة ارتجالية ومأساوية، أكثر تطرفاً ودموية في كل مرة.
قراءتي للتاريخ، تفترض، أو تقترح قراءة ما، ليست أخيرة ولا نهائية. لذا أقول عما أكتبه إن له علاقة بالتاريخ. هدفي ليس كتابة رواية تاريخية، وإنما أخذ العامل التاريخي بالحسبان. ما أكتبه ينتمي لرواية، التاريخ واحدٌ من مشاغلها الكبرى، أرسله إلى زمن هو زمن الرواية، وأخضعه لمنطق هو منطق الرواية.
أما عن حدود الخيال، فلم أستهن به، كان الأكثر قدرة على كشف ما لا يكشفه الواقع. الخيال يزيح تلك الطبقة السطحية التي نتقنع بها، ويغوص في الأعماق. من الخطأ الظن، أن الخيال مهمته التحليق عالياً فحسب.
÷ ذلك يقودنا للسؤال كيف تكتب الرواية، من ألفها إلى يائها، أي بحث تجريه، أي مراقبة، وأي طقوس للكتابة؟ أين تعثر على شخصياتك، في الطريق؟ أم في الوثيقة التاريخية؟
﴿ ليست ثمة رواية لي استدعت نهج سابقتها، كل واحدة جاءتني بشكل مختلف، ولا خريطة طريق جمعت بينها، لذلك لم يتشابه لدي أسلوب العمل عليها، إلا في الأبحاث التي أجريها، والتي تضطرني إلى قراءة عشرات الكتب وزيارة بعض الأماكن أو مقابلة بعض الأشخاص، وهي عملية قد تستغرق وقتاً طويلاً، أحياناً سنة أو سنتين، كما في روايتي »الضغينة والهوى«. هذا ما أدعوه بالجهد العضلي، وهو جهد أسعى من خلاله إلى محاولة استيعاب مناخ فترة ما، من ناحية المكان وخرائطه، الأفكار وتحولاتها، الأشخاص وأساليب العيش. أبدأ بالكتابة بعدها، أو خلال البحث.
بالنسبة لشخصيات رواياتي قد أعثر عليها في الطريق أو في التاريخ، وعندما لا أجدها أختلقها. هذا غير مهم، مادام الخيال يعيد تشكيلها وصياغتها وإدراجها في نسيج الرواية. طوال هذا المشوار، أبقى مشدود الأعصاب إلى عملية مهمة أقوم بها، وهي الرقابة المجهدة على ما أقوم به، سواء عن وعي أو لا وعي. قلت عنها مرة في شهادة لي، واعتبرها نصيحة ثمينة: أن يكون الحس النقدي للروائي نفسه رقيباً مغالياً على شطحاته الخيالية والمزاجية من مواقف ولغة، حتى يستطيع الالتزام بالبناء الروائي وإعطائه الأولوية، واعتبار كل ما عداه مساعداً في تركيبه. إذ لا يمكن فهم أية تجربة أو إدهاش، أو قوة لغة أو حتى انسياب أفكار، إلا ضمن بناء متناسق، ليس المهم تذوقه فحسب، وإنما إدراكه أيضاً.
أما عن طقوس الكتابة، فأنا لا أحاول ضبط عملي في طقس محدد، كي لا أبقى أسيره، وإنما التلاؤم مع مختلف العوامل، حسب الظروف المتوفرة؛ نهاراً أو ليلاً، مع قهوة أو دون قهوة، في غرفة أو في الهواء الطلق. من قبل كنت لا أكتب إلا مع التدخين، حتى بلغ بي اليقين أنني إذا امتنعت عن التدخين فلن أكتب، لكنني نجحت منذ سنوات، وإن بمشقة بالغة، في الكتابة دون سجائر.
ضرورة المثقف
÷ تبدو، كحركة يومية، بعيداً عن أوساط المثقفين، كيف استطعت أن تقدم ذلك التشريح التفصيلي لأصناف المثقفين في أعمالك؟
﴿ كحركة يومية، أنا بعيد عن أوساط المثقفين، بينما في المنظور الأوسع قريب منهم، وواحد منهم بالفعل، على الرغم من الحدود الفاصلة بيننا، والتي حافظت عليها. فأنا بطبعي اجتماعي غير نشط، وميال للعزلة، لكنني لست انطوائياً، لدي صداقات جيدة مع الكثير من الأدباء، احترمهم رغم أنني لا ألتقي معهم إلا نادراً. ولقد سمحت لي هذه المسافة بالنظر إلى تجمعات المثقفين بشكل نقدي. الأمر الذي يجهلونه، إنني أقرأ لهم باستمرار وأتابعهم منذ عشرات السنين. وما ينقصني عنهم يمدّني به الخيال.
ما أقوله لا يخص الأدباء السوريين فقط، وإنما غالبية الكتاب العرب. في أحد اللقاءات، وهو لقاء وحيد ضمّني مع أدباء من مصر والعراق ولبنان والأردن، فوجئت أنني أعرفهم جيداً، كنت قد قرأت لهم أغلب أعمالهم، بينما لم يقرأ لي أحد، وأكثرهم لم يسمع باسمي، وبالتالي لم يهتموا بمعرفتي.
÷ هل صادفتَ أحداً تعرّف على نفسه، أو على غيره في أعمالك؟
﴿ صادفت الكثيرين، وبيّنت لهم أنني لا أتقيد بأشخاص حقيقيين، هذا يسيء إلى الرواية، يضعفها ويُحجمها. ودائماً كنت حذراً تجاه سقطة كهذه؛ أن أضع شخصياتي ضمن قالب محدد، أو ألاحق شخصية موجودة في الواقع، وأنقلها بحذافيرها إلى الرواية. هذا شأن كتّاب السيرة الذاتية، لا شأن الرواية. الخلق الروائي عملية معقدة جداً، لا يدري فيها الكاتب نفسه، ما الذي يأخذه من الواقع، وما الذي يختلقه، يفهم أمراً واحداً أن هذا كله يصبّ في سياق غاياته، ومثلما شخصياته مدينة للحياة، هي من بنات أفكاره، الخيال لا يفعل شيئاً سوى أن يطحنهم ويخضعهم للمنطق الروائي البحت. ما يهم الروائي، هو خلق عالم يشير إلى واقع حقيقي.
تلملم الشخصية الروائية تحت معطفها أكثر من شخصية واحدة، لا أريد تشويه روايتي ولا تقزيمها بخصومات جانبية، الرواية ليست ساحة لتصفيتها، وإن كنت لا أعترض كثيراً على هذا المنحى، إذ ليس للروائي منبر يصفي حساباته من خلاله سوى الرواية.
÷ من الواضح من أحاديثك الصحفية أنك لا تلقي بالاً إلى الموهبة، أي دور للموهبة وأي دور للاجتهاد في الكتابة كما ترى؟
﴿ الموهبة لازمة لممارسة أي عمل فني أو غير فني، لكنها ليست أساسية، من الممكن تعويضها ببذل مزيد من الجهد والعرق. غير أن ما أقصده، هو السؤال: ماذا عن توظيفها، أين وكيف؟! لذلك انتقدت الذين يتذرعون بالموهبة، ويبيحون لأنفسهم ما يمنعونه على الآخرين، فيضطهدون غيرهم ويسخرون منهم ويمثلون بهم، بل وقد يقتلونهم. وكأن الموهبة جواز مرور صالح لاستثنائهم من المعايير كافة، مما يحيل الموهبة إلى عنصرية بغيضة وسافلة.
الموهبة خطرة إذا كانت في غير محلها، إنها أداة شرّ. لهذا قلت إن الموهبة ليست كل شيء، وألا نقلل من نصيب الجهد والاجتهاد. الكتابة مثلما تحتاج إلى موهبة، تحتاج أيضاً، إلى التواضع إزاء بشر بحاجة إلى من يمدّ يده إليهم، أكثر مما هم بحاجة إلى من يستعلون عليهم.
÷ يشكل المثقف، فساده أو اغترابه، محوراً أساسياً في أعمالك، أي دور تنتظره من المثقف اليوم؟
﴿ لم تخل رواية من رواياتي من التركيز على المثقفين، كان أوضحها في هذا المجال روايتي الأخيرة »المترجم الخائن«، حيث يبلغ تعسف الوسط الثقافي تجاه المترجم حدود القتل المادي والمعنوي. في ظاهرها تبدو الرواية هجائيةً مستفيضة للواقع الثقافي، لكنها، ومن غير أن أسبغ عليها ما لا تطيقه، دفاع مستميت وشرس عن الثقافة واستقلاليتها إزاء الأنظمة والسلطات والأحزاب بأنواعها، ومثلما تستغل هذه الأجهزة المثقف، يستغلها بدوره، وبالتالي ينبغي عدم إعفاء المثقف من مسؤولياته، ولا من جرائمه. وتوجيه الاتهام لأولئك الذين يتاجرون بقضايا الناس، والكشف عن انتهازيتهم ووصوليتهم، وافتقارهم للمعرفة، وفضح الإعلام الثقافي المروج للصرعات والترهات والأكاذيب.
المثقف ضرورة. وإذا كانت رواية »المترجم الخائن« قد حاكمته بقسوة، فلأن تهاونه وسقوطه كارثة، وتردي مرحلة تاريخية بكاملها. المثقف يمثل وعي الأمة بأمراضها المستفحلة، ومثلما يدرك سقطاتها وكبواتها، يتبصّر طموحاتها البعيدة المدى. ما الذي يبقى من المثقف عندما يتمحور حول مصالحه الأنانية؟! لهذا يكتسي الحديث عنه الكثير من الحدة واللوم. للمثقف مهام عاجلة ومصيرية، على الرغم من محاولات تمويته. دور المثقف لم ينته. الحاجة ماسة إلى مثقفين يؤمنون بالثقافة على أنها أداة فعل وتغيير، مع التأكيد أولاً وأخيراً على المعايير الأخلاقية، لولاها لا ثقافة ولا مثقفون.
مخالفات
÷ تكتب عن التاريخ السياسي المعاصر، وتكتب عن الفساد المستشري (المعاصر أيضاً) بشكل دفع البعض لاعتبار كتابتك أقرب إلى المقالة منها إلى الكتابة الأدبية. هل ترى في الرواية جنساً قادراً على محاربة الفساد؟
﴿ الرواية في صميمها انتقاد للحياة والنظام الاجتماعي والسياسي... وما ينتج عنهم، أو يطرأ عليهم من فساد، مهما اتخذت الرواية من أشكال وتطرقت إلى إشكالات. ماذا كانت روايات بلزاك ودوستوفسكي وجويس... غير هذا الفضح المستمر لمجتمعاتهم على مختلف المناحي؟ الرواية هي الجنس الأقدر على عدم التواطؤ مع الفساد ومحاربته، وحتى عندما كانت تشيد بالبراءة والجمال، كانت تُشهِّر بحياة تفتقد هذه المُثُل.
أما بالنسبة إلى الذين اعتبروا رواياتي أقرب إلى المقالة منها إلى الكتابة الأدبية، فقد أرادوا تعميم فصل أو أكثر على الرواية كلها. وهذا يحيلنا إلى المقولات المحفوظة، والتي على أساسها توجه الانتقادات الكسولة. أعتقد أن ما فعلته هو بعض من محاولاتي في اختراق الأشكال الجاهزة، بناء على دوافع عدة، أي لم تكن زلّة، إذ لا شيء يوضع عبثاً في الرواية، بل وضعت عن قصد وبهدف، أحدها، أنني نشدت رواية مكتفية بذاتها. ففي روايتي »صورة الروائي« كان هناك فصل عن تاريخ سورية المعاصر أوردته بشكل روائي، شخصياته الرئيسة، الجيش وأحزاب ما بعد الاستقلال والحكومات المتعاقبة من طرف، ومن طرف آخر الأحلاف الغربية. وفي روايتي »مشهد عابر« كتبت فصلاً كاملاً عن »الكولبة« التي لعبت دوراً مثيراً للرهبة، ويدعو للسخرية من فرط التهافت عليها، ولعبت دور الوجاهة في ذلك الوقت! أما في »المترجم الخائن« فكتبت فصلاً كاملاً عن التاريخ الأدبي خلال خمسة عقود من القرن الماضي، كان الخلفية لتحولات المثقف في تلك الفترة. هل هذا يجوز؟ لم لا، مادام ضمن الإطار الذي رسمته للمشهدية العامة للرواية. هذا بعض ما بذلته وحاولته، مع الأخذ بعين الاعتبار القواعد الصارمة للرواية، وذلك بتكريمها، عن طريق زحزحتها، لدواع فنية.
وإذا كان لا بد من التحدث عن الفن الروائي بشكل عام، فأضيف قائلاً للروائيين الشبان، شيئاً مما تعلمته من تجربتي الشخصية: احرص على أن تكون لديك القدرة على ارتكاب مخالفات في الرواية، تمليها عليك الرواية نفسها.
÷ كيف تحضر »الآن وهنا« في كتابتك اليوم، أي رواية تُكتب الآن؟ ألا تعتقد أن الروائي يلزمه مرور بعض الوقت لتأمل الحدث والمجتمع والحياة، ومن ثم إعادة إنتاجه؟
﴿ المفارقة أن ما يكتب »الآن وهنا«، يحضر في الرواية كتسجيل لما يحدث، أي أننا نبدو وكأننا نكتب »التاريخ« الحالي، وبمعنى أكثر دقة، ما يؤهلنا في المستقبل، لنصبح أحد مصادر الماضي الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والدينية والجنسية... الخ. مع العلم أن الرواية تتعالى على هذا التسجيل، لكن بالرغم منها، وفي أحد وجوهها، تكتب ما تتلمسه وتحس به في زمننا الراهن. الرواية البلزاكية ما زالت حتى الآن أحد المصادر الرئيسة للتاريخ الاجتماعي والسياسي للقرن التاسع عشر. هذا قد يؤرق بعض الذين يزعمون أن الرواية الحقيقية تتعالى على الزمان والمكان. ودون الدخول في جدال، لا بد لهذه الرواية أن تكتب ومن الغبن تأجيلها حتى تنضج، فهي بشكلها الساخن والطازج تعلق على ما يجري حالياً، وتمنحنا رؤية ذلك الجانب الذي نحن في داخله، كجزء من مشهد لا نراه بكلّيته.
أما الرواية ذات المشهدية البانورامية، فيلزمها الوقت والصبر لتأمل ما يحدث ضمن إطار واسع وساحات متعددة، لا تستثني الخاص ولا العام، الحياة في تعقيدها واتساعها وتبعثرها واختلاف مستوياتها تتجاذبها الأهواء، ولا تغفل السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
÷ مع روايتك »المترجم الخائن« نصبح أمام عملين منعاً من قبل الرقابة في سورية بعد منع »مشهد عابر«. أولاً أليست مفارقة أن تصل رواية ممنوعة لك إلى البوكر؟ ثم ماذا عن تجربتك في الكتابة مع الرقابة؟ هل سبق أن تعرّضت رواياتك للحذف، خصوصاً أنك تتناول التاريخ السياسي المعاصر؟
﴿ في الواقع، ثلاثة أعمال، أولها كان »صورة الروائي« أفرج عنها في العام السابق بعد منع دام تسع سنوات، وصدرت بطبعة ثانية في سورية. أما »مشهد عابر« و»المترجم الخائن« فمتحفَظٌ عليهما تحت الدراسة، لم يمنعا أو يسمح بهما.
تجربتي مع الرقابة، ليست هامة، لأنني منذ بدأت بالكتابة والنشر، لم ألتفت إلى ما هو ممنوع أو مسموح، فلم تلعب الرقابة دوراً في نتاجي، ولم أتقصد استفزاز الرقابة ولا استرضاءها، لقد كتبت بكل حرية، إذ الحرية في داخل الإنسان تهزم القيود في خارجه. أنا أكتب رواية وكفى. دون الاعتماد على دعايات المنع.
أما أن تصل إلى البوكر، فهذا لا علاقة له بالمنع، ولم يشكل امتيازاً لها. لقد نوقشت كرواية، ولم أحاول تزكيتها بما هو خارجها، إن ما يمنع اليوم قد يُسمح به غداً.
راشد عيسى
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد